عائد خصباك -· " عاد عبد الحكيم الى أهله وأحبابه"

في الاتيليه "( نادي الفنانين )، قرب " ساحة طلعت حرب" كنا مجموعة و عبد الحكيم قاسم جالس معنا ليلا وقد اقتربت الساعة من العاشرة، لكنه قام فجأة قائلا : أنا خلاص ذاهب الى البيت .و قال لي : أتأتِ معي ، أنا اليوم وحدي والعائلة مش موجودة، و عندنا فرصة ، نجلس هناك و نكمل الحديث.
لم أجبه، فأخذ بكفي و سحبني فانقدت له .
في شقته ( و كانت قريبة من نادي الترسانة الرياضي كما أعتقد ) أكلنا الجبن و الزيتون و شربنا الشاي ، و جاء بفراش الى الصالة و ضبّطه على الأرض و قال :
- - عاوز حاجة ثاني قبل أن أذهب لأنام ؟
قلت : ألا تجلس معي قليلا لنكمل الحديث؟ قال : يا راجل نم .
قام هو و نام و أنا قمت الى المكتبة في الصالة أقلّب محتوياتها ، عثرت على روايته " أيام الإنسان السبعة " فسحبتها من الرف، و قرأت الصفحة الأولى و أنا واقف ثم رحت الى الفراش لأقرأ الصفحة الثانية و الثالثة ، و أقرأ الخمسين و المائة و الخمسين و أقرأ المائتين و الخمسين و ربما أكثر و عندما صحا عبد الحكيم في الثامنة أو التاسعة صباحا، كنت أقد أتيت على صفحتها الأخيرة .
الصورة:
الناقد حسين عيد ، الأول يمينا، ثم عائد خصباك ، بجانبه القاص والروائي ابراهيم أصلان، ثم عبد الحكيم قاسم . و ما ان نذكر عبد الحكيم قاسم ( 1935 - 1990 ) الا و تتبادر الى الذهن روايته " أيام الإنسان السبعة " ، لقد ظل اسمه يدل على الرواية و الرواية هذه تدل عليه ، لا يذكر أحدهما الاّ و يذكر الآخر معه ، علما أن له خمس روايات من ضمنها " أيام الإنسان السبعة " وخمس مجموعات قصصية .



********

" عاد عبد الحكيم الى أهله وأحبابه"

أمضى عبد الحكيم قاسم ( 1935 - 1990 )عدة شهور، خمسة أو سته، في بغداد للعلاج في مستشفياتها، وأعتقد أن مرضه هو بشكل ما، ناتج عن ما خلفته تجربة سجنه من جراح، ما اندملت عنده أبدا، فقد اعتقله النظام الناصري، وأمضى خلف القضبان خمس سنوات بسبب انتمائه للحزب الشيوعي.
زرته في المستشفى، وأحيانا في الفندق، وأدعوه للخروج معا دائما، ولكن ما عاد عنده شوق للخروج، أقول: تعال يا عبد الحكيم لتغيّرمن حالك شويّه.
يقول : لأ ، بعدين . و بعدين ما تحققت الا مرة .
اتصل بي و قال بصوت ضعيف متكسّر ما عاد فيه تلك الروح التي كانت، قل أن صوته: اختلاجات صدرت من فم كان يلعق المر والعلقم، قال : مر عليّ اليوم ، عايز أشوفك .
وعندما مررت عليه ذلك اليوم، رأيته ناحلا وذاويا وفقد من وزنه الكثير، قال : أريد أن أخرج .
قلت : هيا بنا. و كان يستعين بعكاز عندما خرجنا. .
أخذته الى " المرايا " و هو ركن هادئ عند ساحة " كهرمانه "، فيه ما تريد، أنت فقط أطلب تجد طلبك على الطاولة بلمح البصر و أحيانا قبل أن تطلب تجده أمامك، دخلنا، فوجدت هناك القاص والروائي عبد الستار ناصر، جلسنا الى مائدته بدعوة منه، قال عبد الستارله: أنا قرأت تقريبا أعمالك كلها، وأعدت قراءة روايتك " " محاولة للخروج " مرتين.
في تلك الجلسة تكلمنا كثيرا، وعبد الحكيم ما أبدى في تلك الجلسه الّا بعض تعليقات، وعندما سأله عبد الستار، إن كان كتب شيئا هنا في بغداد، أجاب بالنفي
قبل الغروب اقترحت عليه أن نذهب الى مبنى اتحاد الأدباء فما اعترض، وفي حديقة الاتحاد جلسنا، في البداية وحدنا، وكان حول طاولتنا كراسٍ عدة، ما لبثت أن شُغِلت فيما بعد، عندما كنا لوحدنا سألني ان كان قد صدر لي شيئا فقلت: بعد " الطائر و النهر " ما صدر لي شيئا .
قال : أنا ما قرأته أو في الحقيقة، ما كان لي علم به. .
ما طالت جلستنا في حديقة الاتحاد ، لاحظته من طرف خفي، فرأيت حزنا ما لمحته عنده من قبل، قلت:
- الليلة تأتي معي .
وفي الشقة، كان السرير الذي في غرفة المكتبة لا يحتاح ألا الى تغيير المفرش والأغطية، فغيّرتها، و قلت :
- سأتركك لتأخذ راحتك .
- هل تذكر تلك الليلة التي أمضيتها عندي في شقتي في مصر؟ وتحدثنا عن روايته" أيام الإنسان السبعة" التي قرأتها في جلسة واحدة، في تلك الليلة، وضحكنا،ثم قال:
سأمر على ما عندك هنا من كتب قبل النوم.
في الصباح فتحت باب غرفة المكتبة لأرى، إن كان عبد الحكيم صاحيا أم لا، فرأيته يغط في نوم عميق، وكانت مجموعتي القصصية " ألطائر و النهر " على الطاولة المجاورة لرأسه.
لم أر عبد الحكيم فيما بعد، فقد سافر بعد هذا اللقاء بيومين أو ثلاثة، وبلغني أنه استجاب لنصيحة الأطباء، أن يمضي بقية أيامه، بين أهله وأحبابه فعاد الى أهله و أحبابه .




* من كتاب
" مائة ليلة وليلة / أو أيام العراقي في قاهرة نجيب محفوظ"

أعلى