عبدالله الغذامي - صالون مي.. تأنيث المكان وذكورية السياق

لم يكن صالون "مي" صالونا أدبيا عاديا ولكنه كان تحديا للرمز الذكوري ولاستحواذ الرجل على ضمير الخطاب اللغوي واحتكاره المواقع وتفرده في إدارتها. ظهور "مي" هو علامة على هذا التحدي وهو لغة العلاقة الجديدة التي عبثت بالأدوار التقليدية الراسخة.

أسست مي زيادة صالونا أدبيا ضم وجوه المجتمع الفكري في القاهرة في زمانها مثل لطفي السيد وخليل مطران وإسماعيل صبري وشبلي شميل وداود بركات وأنطوان الجميل ومصطفى صادق الرافعي والعقاد ويعقوب صروف ومصطفى عبدالرازق يجتمعون يوم الثلاثاء في ضيافة هذه الفتاة الخارجة للتو إلى نهار اللغة الساطع.

وهؤلاء كلهم رجال يمثلون ثقافة الفحل بكل ما فيها من تاريخ وتقاليد ورسوخ. ولذا فإن هذا الصالون بالنسبة لهم ولثقافتهم يمثل منعطفا في العلاقات الحضارية بين الجنسين، إذ تتحول سيادة المكان إلى (المرأة) وتصبح الأنثى علامة على ظرف جديد تكون فيه هذه الفتاة الغضة رئيسة للمجلس وسيدة للموقع وأميرة للخطاب الدائر بين المشاركين الذكور ومن هنا تغنى شاعر المجلس إسماعيل صبري قائلا:


روحي على دور بعض الحي هائمة

كظامئ الطير تواقا إلى الماء

إن لم أمتع بمي ناظري غدا

أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء

هذه أبيات تكشف عن انبهار الثقافة الذكورية بهذه الحادثة الثقافية الجديدة، حادثة تأنيث المكان وبروز النص المؤنث في مواجهة واقعية أمام ثقافة الفحول وكأن ذلك ترجمة عملية لحكاية الجارية (تودد) التي واجهت الرجال الراسخين في عصرها في مجلس الخليفة هارون الرشيد وانتهت معهم بأن أخرجتهم عراة منكسي الرؤوس واحدا وراء الآخر بعد أن هزمتهم وعرت زيفهم. وإن كانت حكاية (تودد) حكاية أفرزها الخيال النسائي كرمز لتوق الأنثى للحصول على موقع في الثقافة الذكورية، فإن صالون مي زيادة هو بعث واقعي لذلك الخيال البعيد، وهو ترجمة عملية لتحويل الرغبة إلى فعل. كما أنه- أيضا- إعادة صياغة لأدبيات (ألف ليلة وليلة) التي كانت تقوم على خطاب محجوب تتكلم فيه الأنثى بحديث خصوصي تحكي فيه إلى مستمع أوحد في مكان مغلق. بينما يقوم صالون (مي) على خطاب مكشوف تتحدث فيه المرأة بحديث لا يقوم على (الحكي) ولكنه يتخذ من الحوار وتبادل المخاطبة وسيلة للغة أنثوية / ذكورية متبادلة في مكان مفتوح وبحديث معلن.

اكتساح مملكة الرجل

يتبدى الصالون على أنه اكتساح أنثوي لمملكة الرجل، ويظهر حضور أقطاب الرجال إليه وانبهارهم به وبصاحبته وكأنما هو تسليم من الرجل بهذا المتغير الحضاري الجديد. ذاك هو ظاهر الصورة.

أما حقيقة الأمر فهي أن المرأة حينما خرجت من عباءة شهرزاد حيث الخدر الخصوصي والنص المغلق، إلى صالون مي ونهار اللغة الساطع، كان وراء ذلك وبين يديه تحول نوعي من حال إلى حال. كانت الحال الأولى تقوم على (ذات) محروسة من داخلها ومن حواليها، وهذه الذات المحروسة هي الذات الأنثوية التي عرفتها المرأة على مر القرون وتعودت عليها.

أما الحال الثانية فهي صفة جديدة تحتاج المرأة إلى مواجهة شروطها والتعرف على ظروفها مع ما يلازم ذلك من مخاطر غير محسوبة ومن مفاجآت غير متوقعة. وكأنما (الذات) قد خرجت إلى عراء وانكشاف لم تحسب لهما حسابا. وهذا ما عبرت عنه من زيادة في قولها الدال: (ليس من الممكن أن نخرج من الظلام الحالك إلى النهار الساطع دون أن تبهرنا الأنوار فتتضعضع البصائر، ولا نرى الأشياء في مكانها كما هي.

وليس الأمر مقتصرا على حيرة المرأة ومعاناتها لشروط التكيف مع وضعها هذا، ولكننا سنجد الرجل أيضا- يتصدى لهذا الطارئ الثقافي ويحاول سد الطريق أمام - المرأة- بوعي أو بغير وعي.

وأولى رسائل الرجل ضد هذا الحادث الأنثوي هي في عدم أخذ المرأة مأخذ الجد، وكدليل على ذلك نقف على كلمات كتبها العقاد عن أدب مي زيادة يقول فيها: "جعلت "مي" مباحثها كلها سمرا مؤنسا وصيرت الدنيا كلها غرفة استقبال لا يصادف فيها الحسن ما يصدمه ويزعجه، أو هي صورتها متحفا جميلا منضودا لا تخلو زاوية من زواياه من لباقة الفن وجودة الصنعة. فإن كان للمنظر من مناظر الدنيا حسنه ورواؤه ففيهما الكفاية وعليهما مزيد من مهارة التنسيق وبراعة الترتيب تجود به الآنسة عندها. وإن لم يكن له هذا النصيب من الحسن والرواء فلن يحرم في المتحف المكان الممهد ولا الإطار المخلي، ولكنه ينالهما وعليهما مزيد من مهارة التنسيق وبراعة الترتيب أيضا: غطاء موشي سمين.

وكن من شئت من أصحاب الآراء الشديدة أو الرقيقة، الشاذة أو المطردة، السابقة أو المتخلفة، ثم اقرأ كتابة الآنسة مي لا تجد فيها ما يغضبك أو تظن أنه مناقضة مصوبة إليك في هوى نفسك ومنزع فكرك. وليكن لك رأيك في أسلوب الكتابة، أو نمط التفكير، أو صيغة التعبير، فما من كاتب إلا وللناس في أسلوبه وتفكيره وصيغ تعبيره آراء لا تتفق. أما الإنسان في "مي" ذلك الكائن الشاعر الكامن وراء الكاتب منها والمفكر والمعبر- فلا يسع الآراء المتفرقة إلا أن تتفق فيه وتصافحه مصافحة السلام والكرامة".

من الواضح هنا أن العقاد يغتصب الكلام اغتصابا، ويتحايل على ألا يقول شيئا عن أدب مي زيادة، وهو لا يفعل شيئا سوى أن يعبث مع اللغة ويدغدغ الكلمات. وقصارى فعله أنه جعل ثقافة الكاتبة مجرد (غرفة استقبال) وجعلها متحفا جميلا ومجلس سمر وتأنق. إنه لا يرى من ثقافة "مي" سوى ذلك (الصالون) وذلك الجسد الجميل الذي يعطر المجلس ويحليه. والعقاد هنا لا يناقش ولا يداخل لغة مي زيادة. إنه- فحسب- يتغزل بذلك النص الأنثوي الأنيق. ثم يشيد بما سماه (مهارة التنسيق) و (براعة الترتيب) ويكرر ذلك مرتين. وكأنه يعيد صاحبة الصالون إلى بيتها حيث المرأة البارعة في الترتيب، والماهرة في التنسيق، إنها (سيدة البيت) وليست بسيدة اللغة.

لمن السيادة

يقوم الصالون على أساس أنه صالون (مي زيادة) ولكن السؤال الذي ينهض بين يدي هذه الوجاهة النسوية هو: لمن السيادة في هذا الصالون.. من يتكلم ويشرع لغة المكان ويؤنس ذهنية المجلس...؟

هل سيبرز الصالون على أنه أرض نسائية محررة...؟ أم أن الرجل يعود إلى الحقل ليقطف الثمار ويفرض سلطته على المكان، كما هو شأنه ودائب طبعه وطبيعة الثقافة التي هي أولا وأخيرا ثقافة الرجل..؟

هذه أسئلة تقوم في وجه مشروع مي زيادة ومحاولتها تأنيث المكان.

تفتح (مي) صالونها فيدلف إليها الرجال، رجال العصر الراسخين رسوخ رجال حكاية الجارية (تودد). وإن كانت (تودد) قد هزمت رجال عصرها فإن هؤلاء الرجال يعودون بعد قرون ليثأروا لهزيمتهم التاريخية ولينتقموا من (تودد) من خلال (مي).

يدخل الرجال إلى صالون (مي) لكي يملأوا المكان بالصوت المذكر وباللغة المذكرة وبالعيون الرجالية المظفرة دائما في كل غزواتها ومضارباتها.

هكذا تتحول أرض الصالون: امرأة وسط الرجال، جسد أنثوي غض وشهي وسط موج من العيون الشرهة واللغة الغزلة، تتجه كلها نحو هذا الزاد المثير الذي يغري ويغوي.

هذا جسد مؤنث ولذا فإنه مائدة شهية من جهة ونشاز ثقافي من جهة أخرى. وهذا ما يجعل اللغة في الصالون تتحول لتكون- مثل لغة العقاد- خطابا غزليا لاهيا غير جاد.

وتقع المرأة بين نظرتين فهي جسد شهي، وهي نشاز ثقافي. ومن هنا فإن رجال الصالون يتخذون (مي) علامة لغوية معشوقة من جهة ومضطهدة من جهة. أخرى.

ويعطونها السيادة لتعطيهم المتعة، ويمنحونها عيونهم وإعجابهم وتوددهم المتخضع لها وهم عتاة الرجال وفحول العصر، لكي تلهمهم أروع ما في لغتهم الإبداعية، كما صار مع الرافعي مثلا.

إنهم يأكلون جسدها ويوقدون لغتهم بنار هذا الجسد التي تشعل إبداعهم وتؤجج بلاغتهم برحيق دمهـا ونسغ عواطفها.

ويتقاطر الرجال واحدا تلو واحد في عشق سيدة الصالون والتوله بها وحبك خيوطهم حولها.

كل واحد منهم يعشق الآنسة ويسعى إلى الاستحواذ عليها.

كل واحد يريد أن يكون سيد السيدة وأمير الأميرة (شاهنشاه الصالون).

ذاك طريق وحيلة للرجل يبتكرها كي يسترد حكمه على المكان وسيادته على الصالون. وإذا ما امتلك الآنسة واحتواها فإنه بذا يتسيد الموقع ويسترد الأرض المحررة للتو من هذه الأنثى، ليعيدها إلى إمبراطورية الفحل التي لا تسلم للمرأة بأي زمام من أزمة اللغة التي لما تزل لغة الذكور دون الإناث. بذا يتحول الجسد ليكون زينة المكان وليس سيد المكان.

هذه هي المرأة في خطاب الرجل: معشوقة موءودة. ومنذ بدايات الشعر واللغة فإن كل كلام للرجل عن المرأة هو خطاب غزلي، كان ذلك في القدم وهو كذلك مع عصر (مي) كما رأينا من العقاد الذي لم يستطع إخفاء تغزله وهو في المعلن من الأمر يتكلم بلسان النقد والفكر المتظاهر بالجد، وهو كذلك في شعرنا المعاصر حيث المرأة ليست سوى جسد ترسمه كلمات الفحل الذي لم يترك نهدا أسود أو أبيض إلا وزرع فيه راياته، ولم تبق زاوية في جسد جميلة إلا ومرت عليها عربات هذا الفحل إلى أن فصل عباءة من جلد النساء وبنى أهراما من الحلمات. هذا الفحل الذي جرب العبادات بكل أنواعها فلم يجد أفضل من عبادة ذاته.

تظل المرأة جارية سواء فتحت صالونا في قلب القاهرة المعاصرة، أم تغشاها خدر في قصر شهـريار، سواء حكت ألف حكاية وحكاية لتلهي وحشها الكاسر أم كتبت أدبا نسويا جديدا لم يأخذه فحول العصر مأخذ الجد.

سياج من الذكور

يتم وضع المرأة في سياقها الذي لا خيار لها فيه. ولا بأس أن تحضر في المكان وأن يتسمى المكان باسمها، ولكنها ستحاط بسياج مذكر وستكون مفردة أو كلمة في جملة مذكرة.

امرأ وصالون، وفوق ذلك رجال يذكرون المؤنث ويرجلون المكان.

إنها لا تختار سياقها- وإن أسست صالونها- ولو استعرنا كلمات من فوكو لوجدناها تضيف حال الذات التي يتحدد موقعها بما (يسمح لها بأن تحتله إزاء مختلف الميادين والموضوعات، فهي ذات تسأل تبعا لمجموعة من الرموز الصريحة أو الضمنية، تصغى حسب برنامج إعلامي معين، إنها تنظر حسب قائمة للسمات والملامح المميزة، وتلاحظ حسب نمط وصفي محدد، وتوجد على بعد إدراكي أمثل تحدد نهاياته أبسط معلومة صحيحة، تستخدم وسائل آلية تحور سلم الإعلام وتغير موقع الذات إزاء المستوى الإدراكي المتوسط أو المباشر).

يتكلم فوكو في مساءلة غير مسألتنا ولكن توصيفه هذا ينطبق على حالة الذات المؤنثة في اندماجها غير الواعي داخل منظمة السياق الذكوري المهيمن، وفي عدم قدرتها على الاستقلال والتحرر من هذا السياق، هذا ما يصدق على مرحلة مي زيادة وجيلها في الأقل.

ومن علامات هذا الانضواء القسري أن الضمير اللغوي عند (مي) لما يزل مذكرا، ومثلما وقعت هي ذاتها في صالون عنوانه مؤنث ولكن ضميره ومضمونه مذكر، فإنها تضع الجنس النسوي لغويا في سياق مماثل.

هذه هي مي زيادة التي ابتدأت حياتها بعنوان مؤنث طامح كتبت تحته هذه العبارات:
(إذا أحبت المرأة ذاتها حبا رشيدا كانت لنفسها أبا وأما وأختا وصديقة ومرشدة وأتمت ملكاتها بالعمل وضمنت استقلالها بكفالة عيشتها).

كان هذا هو إعلان الأنوثة وشرطها حيث تستقل المرأة وتتكفل بنفسها شريطة أن تحب ذاتها حبا رشيدا.
هذا الشرط: الحب الرشيد.
فهـل يا ترى عجزت المرأة عن تحقيق شرط (الحب الرشيد) وبذا انتهى إعلان (مي) إلى انتكاسة مأساوية حيث راحت تصرخ بالرجل وتستغيث به ليكون أباها وأمهـا وعشيرتها وذاتها التي تفديه بروحها وبنفسها. ولم تفلح أبوتها لذاتها ولا كفالتها لمعاشها.

هل حبها لذاتها لم يكن رشيدا...؟

أم أن الرجل تدخل بينها وبين ذاتها فأفسد عليها هذا الحب...؟

إن دلالات العلاقة التي كانت تدور في صالون (مي) كانت تكشف عن تعلق عاطفي واضح أظهره عدد من الرجال رواد الصالون، ولكنه تعلق عشق ولم يكن تعلق محبة. ولم يكن أحد من أولئك الرجال يرغب بأن تكون (مي) زوجة له.

كانوا يعشقون الجسد الغض الجميل واتخذوا أدب مي وصالونها وسيلة إلى ذلك الجسد، وتملقوا عقلها وثقافتها محاباة واستهتارا بها، وإن الغرض والغاية غير العقل وغير الثقافة.

ولقد أدركت (مي) ذلك وفهمته بفطرتها الأنثوية الثاقبة ففرت منهم بروحها وخيالها ولجأت إلى رجل يعيد من وراء المحيطات هو جبران خليل جبران، ونادت عليه واستغاثت به ليأخذ بيدها ويمنحها الحب الذي تستحقه ذاتها- لا مجرد جسدها- ولكن جبران نفسه- أيضا- يرد أملها ويكسر توقهـا فيلمح لها في إحدى رسائله أنه ليس طالب زواج. وكأنها بذلك قد استجارت من الرمضاء بالرمضاء.

وتنتهـي من دون حب ومن دون رجل وقد فقدت ذاتها لأنها فقدت (الحب الرشيد) أو لعلها لم تصل إليه ولم تبلغ مشارف هذا الحب المثالي.

وهنا تنتهي المرأة فريسة للرجل الذي عاقبها أقسى عقاب لأنها تسللت إلى مملكته وتحرشت بسلطانه. وبدلا من أن تنجح المرأة في تأنيث المكان تولى المكان ذاته تذكير الأنوثة وإدماجها في سياق مذكر ظل يؤطرها ويطوقها واحتاجت المرأة إلى سنين من الفعل اللغوي لكي تتجاوز هذا المختنق.



عبدالله الغذامي
فبراير 1995
أعلى