ديوان الغائبين ديوان الغائبين : جميل حتمل - الاردن - 1956- 1994

ولد جميل حتمل عام 1956 في دمشق لوالد يعمل فناناً تشكيلياً وهو ألفرد حتمل الذي ساهم في تبني اتجاهات جميل الأدبية التي ظهرت باكراً وبدأت تحمل آلام الفقدان منذ الطفولة حيث توفيت أمه ما ولد لديه شعوراً بالظلم الإنساني القدري ثم اتجه بعد ذلك إلى القراءة وساعده على ذلك خاله حكمت هلال من خلال مكتبته المليئة بالكتب القيمة.

وفي السبعينيات ظهر اسمه ككاتب قصة قصيرة إلا أن صيته لم يلق رواجاً حتى فترة متأخرة وربما كانت التسعينيات هي مرحلة اعتبر فيها حتمل من أهم كتاب القصة القصيرة في سورية وخاصة بعد وفاته في 7 تشرين الأول عام 1994 في مستشفي كوشان الباريسي.

ترك حتمل خمس مجموعات قصصية أولها «الطفلة ذات القبعة البيضاء» التي أهداها إلى والده ثم «انفعالات» وأهداها إلى المرأة التي رمته في بحرها ثم جفت، وتبعها «حين لا بلاد» وأهداها الى والده ايضاً، و«قصص المرض قصص الجنون» إلى النساء اللواتي رتب رحيلهن ليفتقدهن.

المجموعة الأهم والأخيرة هي «سأقول لهم» والتي صدرت بعد وفاته وقامت المؤسسة العربية للدراسات والنشر في عمان بإصدار المجموعات الخمس في مجلد واحد عام 1998 وقدم لها الروائي الكبير الراحل عبد الرحمن منيف.

في تقديمه لأعمال حتمل يقول عبد الرحمن منيف: «إن الصفة الأساسية التي تطبع أبطاله هي الحزن، الحزن الذي يرافقهم ويحرمهم من أبسط الحقوق .. الحب، فبقدر ما يبدو الحزن ذلك النبات الوحشي عاملاً سلبياً يفتق الروح والجسد فإنه حين يستقر في القلب لا يسود نظرة الإنسان للحياة فقط بل يصبح مستساغاً لذيذاً وبعض الأحيان ضرورياً لأنه يخلق توازناً بين النظرة والمعاناة ويصبح انعكاساً للداخل، وهذا ما نجده مبثوثاً في ثنايا القصص الكثيرة التي كتبها جميل حتمل».

يبدع الكاتب المنهك المبدع المنسي جميل حتمل معاناته ويوثقها بشخصيات أكثر ما تنتمي إليه وإلى الحياة المثقلة بتجارب الألم والتي جعلها مادة خاماً لنص لا يبحث عن دواء للخلود ولا يرسم صورة جمالية للحياة إنما يبحث لنفسه عن عدالة إنسانية ما وبيئة يقدر من خلالها على ترميم جراحه بعيداً عن مشفى أوروبي وبعيداً عن طعنات غالباً ما تأتيه من الخلف.

* السير بخطوات بطيئة

" و ها أنا منتظر أيتها الأنثى، ممتلئ بالغضب المستسلم، و الألم، و تلال الحزن، أفكر بتلك المخلوقات الرمادية المصنوعة من الحزن، أفكر بتلك المخلوقات الرمادية المصنوعة من الحزن، و التي سأزرعها فيك لو حصل شيء.

و ها أنا أتفتت من التعب، و من هذي الأيام المرة، و الطقس الملعون.."

كان ما يزال مستندا إلى عارضة موقف الباص، عندما رآها تطل من بعيد بخطوات مسرعة. حالة التعب و الحزن لم تهرب عنه، و لذا لم يتجه إليها كعادته قبل أن تصل إليه.

ـ بك شيء؟.
ـ متعب جدا.
ـ لم؟..
ـ لوقوفي طوال اليوم

رد باقتضاب و سرعة.

ـ أصبحت مشاغلك كثيرة هذي الأيام.

قالت باستهجان و بشيء من التهكم. لم يجب و لو بكلمات قليلة.

ـ هل تنتظر أحدا؟.
ـ لا.

ـ لم تنظر إلى ذاك المكان إذن، دون أن تتحرك؟

انتبه إلى المكان الذي أشارت نحوه. فيه أخبره صديقه بشراسة الحملة. قال له:

ـ الرفيق السابع وقع بين أيديهم.

و قال أشياء كثيرة في ذاك المكان، الذي ينظر إليه متخيلا أن صديقه سيأتي من جديد ليخبره بأنه كان يمزح.

ضحك من سخافة الفكرة.

ـ لا..لا أنتظر أحدا.

جزم و أكمل دون حماس:

ـ سررت بالزيارة؟
ـ نعم، و أكلت كثيرا..

أجابته بمرح، تابعت حديثها دون أن يستوعب شيئا، ثمة مخلوق اسمه الحزن ما زال يرافقه، تنفس بصعوبة.

ـ ضجرت من حديثي؟..

لم يرد.

ـ حديث تافه لا يليق بمكانتكم..أ ليس كذلك أيها المثقف العظيم؟..

لم يرد أيضا. انفجرت غاضبة:

ـ ما بك؟..منذ أيام و أنت مختلف تماما.
ـ لا شيء..متعب فقط.

رد بهدوء مصطنع. كان المساء يحتل الشوارع النزقة و هما يتابعان السير. أين سينام الليلة؟. هكذا كان يفكر. و الرفيق السابع هناك و...

ـ أ لن نتحدث..ما بك؟..
ـ لا شيء قلت لك..تعب فقط.

صرخ بعصبية. و بعصبية انفجرت:
ـ شيء لا يُحتمل..قل أية كلمة.
ـ و أنتِ أيضا لا تُحتملين.

فكر في كلماته الغاضبة. كان يحبها تماما، و كان خائفا و قلقا تماما. كيف سيكون حزنها لو حصل شيء؟..

تذكر كلمات صديقه القديمة:" حتى الحب هذا الطائر الرائع حولوه إلى هم يقيدنا.."

ـ سأذهب.

هكذا قالت بعد صمت. استدارت، خطت بخطوات عصبية مسرعة، لم يركض خلفها كما يفعل دائما عندما تغضب، لم يلمس كتفها و يضمها إلى جسده. تابعها بنظراته، تنفس بحزن عندما اختفت. و خطا بخطوات بطيئة نحو زقاق ليس مظلما تماما.

9/5/78

* من مجموعة الكاتب القصصية (الطفلة ذات القبعة البيضاء)/المؤسسة العربية للدراسات و النشر/الطبعة الأولى

جميل حتمل.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى