علي البدر - "يا مطرُ ياشاشا.. عَبِّر بَناتِ الباشا".. قصة قصيرة

بمناسبة مرور 57 عامًا على وفاة الشاعر بدر شاكر السياب


شعور بالتقصير يراودني بين آن واخر. ياترى.. هل بسبب عدم زيارته؟ أجل أجل.. ربما، فإنني فارقته ولم اسأل عنه أو أمر قريبا منه. إنقضت ساعات الليل ثقيلةً. لأغادر الان. لابد أن أراه وأذكِّره بتلك الأيام التي نتسابق فيها لصعود نخل البرحي والمكتوم أو نقفز الأنهار ونسبح في نهر البُويب وحولنا طيور البط والأطفال يكركرون. رفعتُ رأسي وناديته بصوتٍ مبحوح..
- يابدر بن شاكر.. سلاما سلاما. يابدر.. ياصديق الطفولة والصبا والشباب.. جئت اليك فهل تسمعني؟ رد علي يابدر.. لوّحت جبهتي الشمسُ ومياهُ الشطِّ تسري في عروقي. رفعت يدي باستغراب. ياترى هل نسيي أيامَنا التي مرت قبل ان يفرّقنا الزمنُ؟ اليأسُ بدأ يدبُّ ويأخذ حيزا من تفكيري، لكن خفيرَ السواحل الجنوبية تقدم نحوي وهمسَ بأذني وغادر مسرعًا....
- يامطر يا حلبي..
عبر بناتِ الجلبي..
يا مطر ياشاشا ..
عبر بنات الباشا.
تحركت وجنتاه ونظر إليَّ بإِمعانٍ وبدت حيرةٌ ممزوجةٌ بلهفةٍ واستغرابٍ باديةً عليه، ولم أشعر بتلك اللحظات التي نزلَ فيها من منصته ليبدأ العناقُ الحار ُّلكن لحظةَ صمتٍ ونظراتٍ حائرةٍ جعلتني غير قادرٍ على تبريرها، وهو يهز كتفي معاتبا..
- ماذا دهاكم؟ قال بدر، تعلمونَ مَن السارقِ وهو طليقٌ والقاتلُ خلف أبوابٍ بلا قضبان! "رأيتُ أن أفئدة التتار، وأذؤبَ الغار أرق من الرعاع القالعين نواظر الأطفال، والشاوين بالنار شفاهَ الحلمةِ العذراء ."، وجيكور..خجلى تعاتبني. ماذا دهى قومُك يابدر؟ ". أنمشي نحن في الزمن أم إنه الماشي ونحن فيه وقوف؟ أين أولهُ وأين آخرهُ؟ هل مرَّ أطولهُ أم مرّ أقصرهُ الممتد في الشجن؟" ، وأنا لنخلتي باشتياق. إليكِ يا جيكور. لحضنِك "يا كوت المراجيج". لحضن أمي أعود. لأبي الذي لم أحضر جنازته. أغني إليكَ يا عراق. "، وإني هنا باشتياق. إليه، إليها... أنادي: عراق، فيرجع لي من ندائي نحيب، تفجر عنه الصدى. أحسُّ بأني عبرتُ المدى إلى عالم من ردى لايجيب."
تحسس بيده اليسرى صدره ومسحت أصابعه أَثر الشظايا المرسومة عليه ثم طوقت ذراعه اليمنى خصره محاولاً دسها في جيبه متلمساً كتابه الذي مزقته شظايا حرب مجنونة ، لكنه انتفض وكأن شيئا أيقظه من رقدة طويلة. رمقني بنظرة فلاحت ابتسامة على وجهه وبدا يتمايل كسعفة تحملها الرياح. هَمَّ بالكلام فقاطعتُه معاتبًا:
- جئتُ ونشوةُ اللقاءِ أحمِلُها. كفانا هَمًا وأنت العارفُ الدّاري. أتبكّيني يا سيّابُ والزمنُ أتعَبَني ودهرٌ ضاعَ فيه البائعُ والشّاري؟
- ستضحك يومًا، ردَّ السياب، وتلوي القدرَ وتصهرُ الحديدَ وتنصبُ القضبانَ ليقبعَ خلفها الغربانُ سارقوا قوت الشعب. "مللتُ سماعَ صوتِ الرجاء: "جَيكور، أين الخبزُ والماء. ألليل وافى وقد نام الأدلاء والركب سهران من جوعٍ ومن عطشٍ والريحُ صَر وكل الأفقِ أصداء. جيكور. مدّي لنا بابًا فندخله أو سامرينا بنجم فيه أضواء"
- وماذا بعد يا سياب؟ تسمرت قدماي.. جئتك مهمومًا فوجدتك أكثر همًا مني!
حاولَ الانحناء فلم يستطع. أشار بسبابته نحوي فأيقنتُ أن شيئًا ما لابد أن يقوله. كلماتٌ ما زال صداها يرن في أعماقي أسمعُها كلما تطوقني الهمومُ وتنتابني الهواجس.
- "عيناكِ غابتا نخيل ساعة السحر، أو شرفتان راح ينأى عنهما المطر. عيناك حين تبتسمان تورق الكروم وترقص الأضواء... كالأقمار في نهر، يرجُّهُ المجدافُ وَهْنًا ساعة السحر."
ظلَّ صوتُه يلاحقني . توقفتُ لحظات، فبدا أكثر إصراراً. مال بهيكله البرونزي وبالكاد، لوَّح لي بذراعه حتى اختفى وسط الضباب لكن صوتَه ظلَّ يُسمعُ من بعيد..
- " كأنَّ أقواسَ السحابِ تشربُ الغيومَ وقطرةٌ فقطرة تذوبُ في المطر. وَكَركَرَ الأطفالُ في عَرائِشِ الكرومِ، وَدَغْدَغَتْ صمتَ العصافيرِ على الشجر أنشودةُ المطر.
- مطر.
- مطر.
- مطر...
• جيكور: قرية في جنوب العراق عاش فيها بدر شاكر السياب.
• كوت المراجيج أي كوت المراقيق ، ألرق أو العبيد، ويسمى بيت الأقنان. وبعض من سكان ريف جنوب العراق يقلب حرف القاف ويحولها إلى جيم. مثل: قاسم إلى جاسم.

علي البدر/ العراق




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى