عبد الحميد البرنس - نائي المَحَلِّ.. سَحيق الدار

"الأشياء التي لا تسترعي الانتباه عادة، تأخذ بألباب أمثالنا نحن الذين كُتِبَ عليهم شقاء البقاء طويلاً في بلاد الآخرين.
إننا قد نستغرق سنوات وربما أغلب ما تبقى من العمر في تأمّل مثل تلك الأشياء، نقلبها ذات اليمين وذات الشمال، لا ننصرف أبداً إلى ما عداها، إلى الدرجة التي قد تضيع معها أحياناً تفاصيلُ كل ما يمتّ إلى حاضر هذا الوجود بصلة!!
لقد كان علينا أن نتيه في الأصقاع، مشرّدين من دون أي مقدمات، خائفين حدّ الرَعْدَة عند كل منحنى وشبر وحجر، عرضةً عن عمد للصغار وسوء الظنّ، مدفوعين لِعشق الظلال هذا الذي قد لا تخفق له قلوب أقعدتها طمأنينة العيش، منجذبين على الدوام صوب ما قد لا يُرى وما قد يبدو للكثيرين إذا حدث أن توقّفوا عنده محض شيء أوجده الله للنسيان، أو نحوه. لِمَ إذن هذا الولع المرضيّ المزمن بالمهمل المهمّش القصي المهان كما قنطرة؟ لِمَ مثل هذا الولع، في حياة أمثالنا نحن المنفيين طعام الحنين الأزليّ، منذ أن غادر آدم الجنّة مكرهاً، إلى أرضٍ لا تُحسن معاملة الغرباء، حتى يحدث أن يتسمّر أحدنا مترقباً هكذا قبيل مغيب الشمس ليشهد فقط عودةَ الطيور إلى أوكارها؟
خطر لي ذلك خطفاً، ما أن وقع بصري على أعقاب السجائر. هذه الأعقاب التي ربما ضجر بجمعها عمّال النظافة في هذه الأنحاء من المدينة فتركوها لحالها مموّهة بالتراب وما يراكم المناخ، قد أخذتْ تحتل منذ مدة مساحة في دماغي بحجم باريس، كان من الممكن أن أضيع فيها مراراً أنا كائن الذكريات، بينما أستعيد السيرة المتخيّلة لتلك الأيدي التي ألقت بها من أعقاب "هنا"، ولا أعثر على ما ظلّ يتراءى لعينيّ من ظاهر الوجود هذا، إلا لِماما. "الأعقاب.. الأعقاب"، كذلك وجدتني أردد في نفسي. أشعلت سيجارة. سرعان ما جذبتني مجدداً، الأعقابُ نفسها. كان برفقتي أدوين. فجأة، شعرت كما لو أن قوّة غامضة تمسك بناصيتي وبصري بإحكام وتديرهما باتجاه شارع الكينزواي أمامنا. كان من الممكن توقع أي شيء لحظتها عدا رؤيته. كذلك، انشقتْ الأرض عنه، ما أن بدأتُ التدخين هناك، قريباً من إحدى بوابات المستشفى، الذي سيشهد بعد مضي أسابيع خروج روحه في قسم العناية الفائقة.
لكأنه أقبل لوداعي.
هذا ما أدركه الآن.
توقّف قبالتي، قائلاً إنه كان "قبل يومين يلف في الحي" الذي أسكن أنا فيه و"حسب وصفهم" لم يتعرَّف على عنوان "بيتي".
كان يقصد "شقتي".
لم تهمد حرارة اللقاء به بعد، حين قدمت له سيجارة. تناولها بما بدا الفرح. قال: "جميل أن أراك الآن يا ماجد". وأخذ يتفقّد جيبي بنطاله الأماميين تماماً كمن يبحث عن وقّادة في قلب الضياع، أو المتاهة، وهو يدرك في قرارة نفسه أنه لن يعثر عليها هناك. كان أحدنا يفعل مثل ذلك في القاهرة. يعاود فتح باب الثلاجة أكثر من مرة في اليوم وهو يدرك أنه لن يجد بداخلها ما قد يؤكل. يتأمّل فراغها الرطب. ويرد الباب. سارع أدوين وأوقدها له. مستكملاً ما بدأ به، أضاف أنّه كان يهم ساعتها بزيارتي، "لو لا أن وصفهم ذاك لعنوان بيتك لم يكن دقيقاً". ثم ابتسم كما لو أنّه طفل.
وَمَضَ في ذهني كيف كنّا نرسم للغرباء خارطةَ الطريق إلى العناوين والاستدلال عليها على طريقته هذه، فيما كنّا ندعوه:
الوطن!
"على يدك اليمين، دع الشارع القادم الذي يلي دكان ود الشهيد هناك، فالشارع الذي يلي الشارع الذي يليه والذي كان عند ناصيته تلك لو تذكر نادي الحرية الرياضي؟ عند ناصية أول شارع تال، يمكنك إذن أن تلف يميناً. ستجد بعد بيتين على يدك الشمال هذه المرة بيتاً من الطين أمامه هيكل عربة تاكسي ماركة هنتر يقف على عجلات الحديد، فدعه، لأن هذا هو بيت الجزّار كجروس الذي اشتراه مؤخراً من خضر مدني السوّاق. واصل المشي في الشارع ولا تلتفت نحو طاحونة كوراك على يدك اليمين، لأنّك لو صادفت عنده الحاجّة أمّ نورا الدلاليّة فلن تدعك تذهب حتى تعرف ما جد أبيك السابع. وربما تقنعك هذه العجوز بشراء بعض الثياب. حسناً، دعنا نركز هكذا على الناحية الشمال، حيث ستجد بيتاً هو البيت الوحيد الذي تتصدره شجرة يقبع أسفلها كلب مُرقَّط هزيل لا يبالي بحرامي أو شريف. البيت المجاور لهذا البيت بابه أخضر. وهو بيت بابكر المأذون الذي سألتني أنت عنه.. لا شكر على واجب". كذلك، صمتَ قليلاً صديقي صالح الطيب (ذاك اسمه)، مفسحاً المجال على ما بدا لفرحة لقائي به. وربما صمت كي يتيح لي الوقت اللازم لملاحظة أنّه لم يتخل هكذا، "حتى الآن" برغم سنوات منفاه الطويل الممتد في بلاد الآخرين شرقاً وغرباً، عن عادة النشأة الأولى تلك في التعرّف على العناوين ورؤية النّاس من غير إشعار مسبق. شيء ما يحملني على التوقف، كلما أخذت في تذكر كيف ضلّ صالح طريقه ذاك إلى شقتي. وأبدأ مستعيداً ذكرى مواقف أخرى في التساؤل: لماذا نقرأ الكتب، إذا كنّا الأرجح نسلك طرقاً غير الطرق التي تشير إليها تلك الكتب؟
أذكر، خلال لقاء عابر آخر، أنّه قام بكتابة أرقام هاتفيَّ، الجوّال والبيت معاً، على ظهر غلاف كتاب يدعى "لوعة الغياب". أحد كتب عبد الرحمن منيف. لعله أضاع الكتاب لما همّ بزيارتي. ربما لم يضعه. ربما نسيه فقط. لا أكاد أبرأ من حمّى الفحص والتدقيق. ذهني كمرجل يغلي دوماً بالملاحظة والتفكير. حتى أثناء النّوم، لا يهدأ. قلت وقد نسيتُ وقفتي تلك قرب بوابة مستشفى كنديّ أو تماماً كمن يتابع أحاديث بدأت زمان في القاهرة ولم تكتمل كما العادة في حينه: "كنت قبل حضورك هذا مباشرة (يا صالح الطيب) أتأمّل في أعقاب السجائر المتناثرة هذه". أجل، ثمة ما قد ظلّ يشدني باستمرار إلى تأمّل هذه الأشياء. لعله هنا الشوق إلى مطالعة الأشجان الذاهبة عبر أنفاس السجائر. وكنت على يقين تامّ أن صالح الطيب قد أدرك ما رميت إليه من أمر الأعقاب. لو لا أنّه بدا عازفاً عن الخوض في أحاديث "قد لا يسعها ضيق وقتي المخصص للراحة". ثلاثون دقيقة كان عليَّ خلالها أن أدخن، أتناول شيئاً من الطعام على عجل، قبل أن أعود إلى مواصلة العمل هذه المرة عبر طوابق المستشفى تحت الأرض. كان من ضمن مَهَامّي في ورديات "غير وردية هذا المساء" أن أختلف إلى الأقسام الداخليّة للمستشفى، وأقوم طوال ساعات الوردية بتجميع كراتين وجرادل بلاستيك صفراء وبرتقاليّة محكمة الإغلاق تحتوي على مخلّفات العمليات الجراحيةّ والحقن المستعملة وبعض الأعضاء الحيوية المنتزعة من جثامين الموتى وغير ذلك مما يضع عليه علامة التحذير:
"خطر حيوي.. Bio Hazard".
بعد الانتهاء من طوافي بين الأقسام، مستخدماً عربة نقل يدويّة حمولة ألف كيلو جرام، أضع الكراتين والجرادل كل في جهة مختلفة عن الأخرى داخل ثلاجة شديدة البرودة، أشبه في ضخامتها بغرفة المسافرين في تلك الأزمنة، قبل أن يتمّ الدفع بها في يومي الإثنين والجمعة إلى رصيف الشحن الداخليّ، تمهيداً لنقلها وحرقها في مكان ما خارج المستشفى.
لنحو العام، كلما قمت بتسوية تلك المُهِمّات، كان يعنّ لي أن أتساءل في نفسي إن كنت أنا مَن قام على وجه الخصوص في يوم ما دون أن يكون هكذا على علم دقيق بنقل تلك الأعضاء الحيويّة المنتزعة من جثمان صالح الطيب؟ بعد عناء الانتهاء من جمع التبرعات من منفيين منتشرين في أنحاء العالم، تمّ نقل جثمان صالح أخيراً إلى الوطن.
كذلك كُتب على تلك الأعضاء الحيويّة المنتزعة من جثمانه مثل ذلك النوع من ضياع المنفى، الذي لا عزاء قطُّ فيه.
مَن يبالي هناك؟
"لعلك يا ماجد تفكر في مشروع تجاري ما بشأن أعقاب السجائر هذه"؟ علّق صالح الطيب أخيراً بسخريته المسالمة تلك. ضحكنا كما غريبين جمع بينهما الحنين ولعنة الكتابة لا مراء وحفنة أشياء أخرى. قيل في الأثر "لا يلتقي كاتبان، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، إلا جرفهما التوق عاجلاً أو آجلاً إلى الحديث عن أوضاع الكتابة وملابساتها". لو لم يحدث ذلك، فثمة ما قد يقلق، أو يثير الذعر. ذلك أن الولع بالكتابة لا يبقي لك شيئاً آخر غيرها.
على الرغم من رغبتي في استدراجه عبر باب الأعقاب هذا للحديث عن الأدب ومشاغل "المشهد الثقافي" الأخرى، لم أشأ أن أعمل ملحاً على تذكيره بما قد تعلّمناه هنا في هذا الشأن وطوال مساجلات القاهرة البعيدة النائية تلك من حالم آخر يدعى بشّار الكتبي.. حالم يهتم بالرؤى المغايرة للناس تجاه "أشياء العالم".. حالم يعلم كلانا في أثناء تلك الوقفة قرب بوابة المستشفى أنّه يغالب وحيداً في الجارة أميركا منذ بعض الوقت سرطان المخ بضراوة ثوريّ اعتزله الواقع ووداعة كاتب مجيد لن يتمّ له التحقق كما أراد طوال حياته المثقل معظمها بأعباء الحاجة، أو الفقر. وما قد تعلمناه من ذلك الحالم في غير أوانه كان باختصار بسيطاً، إلا أنّه يكفي لكتابة قد تكافح محتفية بالوجود سريع الزوال لهذا الإنسان: "أن تتأمل الأشياء ككاتب على نحو يخرجها عن عاديتها". ولا أدري لِمَ تلح عليَّ في هذه اللحظة تفاصيل تلك الذكرى مع بشّار الكتبي هذا دون غيرها؟ التقيته منتصف نهار ما في شارع شامبليون في القاهرة. وهو يحمل ورقة فلوسكاب مطويّة يسجّل عليها بقلم حبر أحمر ملاحظاته بشأن الواقع بينما يواصل سيره المتأمل!
هل يمكن الآن رؤية شيء ما آخر خارج نطاق التوقع في تلك الأعقاب المتناثرة في الأسفل؟ هل يمكن الإمساك بشيء ما قد يعمل على إثراء هويتها غير كونها محض أعقاب سجائر مطفأة بألف طريقة وأخرى، شيء آخر غير كونها في الأخير مجرد كمٍ مهمل غير ذي قيمة أو اعتبار؟ أم أنّه ليس بالوسع حتماً رؤية ما قد هو ليس هناك؟ كذلك قد يساعد تأمّل العالم الأليف عبر زوايا غير مطروقة.. عبر منظور غير معتاد البتّة.. على إثراء الحياة وتجديدها على نحو قد تبدو معه مثل هذه الأعقاب المتناثرة من السجائر حواملَ شاعريّة للشجن أو أجنحة لا تبارى في سحرها ذاك لتبديد غيم الذكريات أو أشباح الحنين؟ أم هو أخيراً السعي للكشف في المرئي عما هو غير مرئي؟ ما هدف كل ذلك على مستوى كتابة النصّوص والتفاعل معها غير بيان أهمية الخيال في توسيع أبعاد الواقع والقابلية على تعدد التفسير وتنوع أفق الاختيار!
أجل، كان زميلي أدوين، الفلبيني الحالم بالغنى وبناء بيت، يشاركني التدخين صامتاً كعادته، قبيل ظهور صالح الطيب هذا.
ويبدو أن أدوين أخذ ملاحظة صالح الساخرة بشأن المشروع التجاري لإعادة تدوير أعقاب السجائر المتناثرة تحت أقدامنا بجديّة، حين صمت غارقاً في تأمّل داخليّ الله وحده أعلم كم من الملايين قد صنع خلاله أدوين هذا. أخيراً، عنّ لي أن أسأله: "أتذكر الرجل الذي كنّا نتحدث إليه قبل أسابيع عند بوابة المستشفى"؟ لما شخصَ بعينين معتكرتين: "ذلك الرجل الذي تحدثنا إليه أنا وأنت هناك قرب تلك البوابة عن أعقاب السجائر، لو تذكر ذلك، يا أدوين"؟ قال: "آه. نعم نعم. الآن فقط أذكره. ماذا عنه"؟ قلت: "لقد مات يا أدوين". لم يعقب أدوين. فقط، أطرق في صمت بدا من نوع مختلف هذه المرة.
بالطبع، الموت هو الحقيقة الوحيدة تقريباً التي تبدو معها الأشياء والأفكار والرغبات محض موضوعات لا تنتهي لرحى القدر!
لما أخذ يتفاقم، ذلك الشوق إلى متابعة الحديث هذه المرة بلغتنا الأمّ، تركنا أدوين كي يواصل وحده ما قد بدا لي الحلم ذاك بامتلاك المال. شأنه في هذا شأن أي فلبيني حاذق آخر. لكن "أن تحلم بالغنى أو الثراء الفاحش في بلاد كهذه البلاد لهو محض وهم". قد يتحقق الأمر كما ضربة حظٍّ عابرة لحواجز "الرق الحديث" المرسومة بدقةِ ومكرِ حاخام. لم يكن المال على أي حال بالنسبة لصالح الطيب عهدي به سوى وسيلة لا بدّ منها لجلب بعض أفراح الحياة الصغيرة، كما وجبة لحم، إلى ما يدعونه "المائدة". طعام وشراب ومأوى ونافذة ومقعد وطاولة للكتابة. ذلك جلّ ما كان يطمح إليه.
كان جسد صالح على فراش موته يحكي ببراعة عن جملة الوقائع التي قد ينطوي عليها التاريخ العريق للفقر، أو المعاناة. وهو على الفراش ذاك نفسه، أقبلت إلى المكان المخصص للزوَّار خارج قسم "العناية الفائقة"، فاطمة، إحدى صديقات أمل، "زوجة صالح على الورق". إن تسألني أنت، فأنا لا أدري بالضبط كيف استقرّت علاقتهما على ذلك النوع من "التباعد"، بحيث غدا كل منهما يقطن منذ مدة في مكان مختلف. لكنّ صالح هذا بدا لي دائماً وعلى الرغم من صرامته الباديّة تلك في نقد النصوص وصفاً وتحليلاً أكثر وداعة وأقلّ شجاعة من أن يلتقط كلمة مثل "الطلاق"، ويأخذ في فحصها!
كانت فاطمة في منتصف الثلاثين. بدا من ثرثرتها أنّها لم تتخلّص بعد مما يدعونه في أوساط المثقفين "آثار الصدمة الحضارية".
قالت فاطمة وهي تحاول انتزاع أمل، من صحراء عزلتها الداخلية المقبضة تلك: "إن الخواجات يتذكرون في مثل هذه الحالة "أحبّ الأشياء إلي قلب المريض". لم تقل كذلك لرهافتها "قلب الموشك على الموت". لقد أخذ اليأس عن عودة صالح معافى يتخذ في تلك الأيام صوراً عدة. كما لو أن كل نفس هناك تتهيأ لفكرة رحيله. قالت زوجة صالح دون تفكير:
"كان صالح الطيب هذا، يحبّ اللحمة".
وجدتني أتذكر خطفاً لياليّ القاهرة تلك.
أين ذهب إذن وضوح تلك الحوارات "بيننا"، جلاء مساجلات نقدية، وألق دعاوى الحساسية الجديدة في "الفكر والأدب"؟ فُجِعْتُ لما تبين أنّه لم يتبقَ في ذاكرتي من تلك الليالي الكثير. ما تبقى لم يكن في معظمه سوى ظلال. لكنَّ شيئاً ضمن تلك الأشياء القليلة بقي محتفظاً مع مرور الوقت بنفس طزاجته الأولى. صوتُ صالح يخاطب زوجته في نهاية سهرة:
"إلينا (يا أمل) باللحمة وفرح الكوارع"؟!
قصة كفاح صالح المستميت ذاك لأجل الحصول على لحمة قصة متجذرة عميقاً في ذلك المزيج السحري من الحقيقة والخيال.
قصة ربما بدأت أحداثها قبل ميلاده. كما لو أن جانّاً مسلماً بقي يهمس له الشهر الأخير من حمل أمّه به: "سيكون قليلاً نصيبك ذاك يا صالح من اللحمة. نحو المائتي خروفاً. ليس بوسع أي حيلة في هذا الكون الوسيع قاطبة بقادرة على زيادة ما هو مقدّر. لن تنال نصيبك هذا بالتساوي. وهذا ما يزيد الحسرة. تماماً كمن يُلقى في النهر ساعةً بعد طول جفاف قبل أن يحمل الماء في ذاكرته ويتقدّم ماضياً من مفازة إلى مفازة بأمل العثور مجدداً على فردوس الماء المفقود"!
لعمري، ستبقى قصةُ صالح هذه مع اللحمة، كنموذج لذلك التعارض القائم حتى النهاية ما بين رغبة ما وعدم تحققها الأغلب.
ربما لهذا إلى جانب ما ينطوي عليه هذا من حسرة ما يجعل هذا النوع من التجارب عصيّاً على المحوّ. إننا لا نتحدث هنا عن حرمان مطلق. إنما عن تلك المسألة غير القابلة طوال سنوات عمر صالح القصير نوعاً ما للحلّ. مسألة الإشباع!
على أن ملابسات قصّة صالح مع اللحمة طفت على السطح على وجه الخصوص خلال حكم السادة الرئيس الأسبق جعفر محمّد نميري، كحدث مركزيّ "دال". هكذا، يأخذني الحنين المستحيل هذا إلى بعث ومخاطبة صالح الطيب مرة أخرى وقد مضت سنوات عديدة على موته، إلى محاولة استعارة لغته النقديّة الصافية، في وصف وتحليل النصوص والوقائع.
وقتها، انضم صالح على غير توقع وهو الذي كان يعرف في الوسط الثقافي لوقت طويل بالفقير الهندي إلى ما كان يعرف بمثقفي "الاتحاد الاشتراكي". هناك دوماً خيط رفيع من الصبر يبقى كما الحد الفاصل ما بين الصمود والتسليم. أجل، لقد حدث هذا لسوء حظّ صالح الطيب "التاريخي" ذاك، لأنّه لم يمضِ سوى نحو العام، حتى سقط برمته، نظامُ نميري، بثورة أولئك "الجوعى الغاضبين". لم تفارق صالح الطيب تالياً، سبةُ مشاركته، في "نظام القمع هذا"، حتى الممات.
ما سمعناه منحدراً عبر مجرى روايات من هنا وهناك، أخذ يغلب عليه طابع المرح مع تقادم العهد به وتراكم السنوات والحقب. ما سمعناه يدعو حقاً للحيرة والعجب. لقد بدا صالح كمستشار ثقافي وقتها للسادة رئيس الجمهورية جعفر محمد نميري مبذراً منذ اللحظة الأولى. يذبح خروفاً في كل يوم تقريباً، يدعو إليه أصدقاء ومثقفين وكتّاباً وصعاليك كانوا يبرونه بسيجارة أيام فقره المدقع ذاك وشعراء بهيئات مهملة بدا أغلبهم منتمياً إلى يسار "تاريخي" متخم بمزاعم وقصص بطوليّة الأرجح من نسيج كاتب "ثوريّ" من طراز مكسيم جوركي. كان في ولائم صالح الطيب "الذي أُخذ يعرف بمستجّد النعمة" الكثير المتنوّع من "الشراب"، عوضاً عن قدرة صالح الطيب المذهلة في مقاربة النصوص واتجاهات الأدب والنفاذ بيسر إلى جوهر الأشياء، ناهيك عن قدرة صالح الطيب المصقولة "جيّداً" في تجسير الهوّة القائمة كما الأسى ما بين أولئك الصعاليك وهؤلاء المثقفين "العضويين"، حسب جرامشي. في نهاية تلك السهرات، كانوا يشتمونه: "لكنك تفتقر يا صالح إلى شرف الكلمة". "يا لك من خائن طبقي. بأحلام برجوازيّ صغير"!! "لقد بعتَ روحك للشيطان يا صالح". "تعلم أيّها الظلاميّ القميء المتستّر بالنور يا هذا المدعو صالح الطيب والطيبة منه براء أننا أكلنا أكلك وشربنا شرابك لأنّ أصل المال سُرِقَ من جيب الكادحين". كانت السخريّة المسالمة سلاح صالح للاحتفاظ طويلاً بطعم اللحمة داخل فمّه.
سألتُ طبيبة، وخيط الأمل ذاك في عودته معافى للحياة لا يزال معقوداً داخل نفسي، عن "وضعه الصحي الأخير". قالت بنبرة جافّة كما صرير آلة حادة تزحف ببطء على سطح صلب: "لا يزال كعهده، في حال سيئة. غير قادر على التواصل".
هذه ليلة الخوف والرجاء.
عبثاً، أحاول النوم إلى جانب زوجتي المتعبة جراء الحمل وعمل البيت. لقد صار صالح الطيب الآن أكثر شبهاً بربّان وحيد في مفترق طرق خطير وحاسم. قد يطيب له في الغد المقام بيننا على سطح هذه الأرض، وقد يؤثر الرحيل. قالت زوجتي وهي تراني أتقلّب طويلاً هكذا على الفراش يمنة ويسرة: "لكن يا عزيزي، غير الانتظار، ما الذي بالوسع فعله هناك"؟
المؤكد أن هذا ما سيحدث بعد الانتظار: ستتوقف غداً الآلات الطبية المساعدة على الحياة. سيحقنونه "بما لا يدعه يتألم". ليبقى الجسد وحده في مقام القرار: الذهاب قدماً في طريق الموت، أو العودة إلى الحياة. لا لم يعد صالح يمتلك حتى ذلك القدر الضئيل من إرادة البقاء. "سنحقنه بما لا يدعه يتألم". كانت تلك العبارة ترددت في سياق التقرير الطبيّ القاضي بخيار القتل الرحيم". لا أدري عن حقّ إن كنت قد سمعتها هكذا كما جملة منتزعة من القاع السحيق للجحيم أم أنني أتخيل؟ وصالح لا يزال طريح الفراش نفسه، متقلّباً هكذا ما بين مصير ومصير، لاحظتْ زوجتي بدهشة أنني قد بدأت أتحدث عنه على نحو قد يفهم منه كما لو أن صالح الطيب قد مات بالفعل. كان ذلك في منتهى اليأس، أو القنوط. كنت ببساطة أشير إليه المرة تلو المرة في ثنايا ذلك الحوار الخافت المتتابع عنه، قائلاً بعفوية لا تخلو من أسى:
"المرحوم صالح الطيب"!
ذهبتُ إليه، خلال نهاره الأخير بيننا نحن زمرة الساعين وراء الرزق، ناشدته في رهبة غرفة العناية الفائقة باسم أسرته وأصدقائه وقرّائه وولديه أن يبقى، "حتى تقول كلمتك الأخيرة كاملة غير منقوصة، يا صالح". لم يكن هناك أحد غيرنا ليسمع.
كان بوسعي أن أرى عبر زجاج الغرفة ذاك درج الممرضات في الخارج. قلت: "هل كنت أنت تردد يا صالح صديقي، قائلاً: تكفي الكتابة كموقف ضد الفناء والعدم مبرراً للحياة، أو الصمود"؟ ذلك جوهر ما حكم مسار مناجاتي تلك. كان صوتي لا يزال خافتاً قرب رأسه: "لقد كنتَ أنت تردد كذلك يا صالح أن كل شيء هناك يتعلّق بعمليات التحكم في أجسادنا يوجد في الدماغ. الدماغ كربان السفينة الغارقة. آخر مَن يغادر". كيف حدث يا صالح أن كان دماغك أول من يُغادر؟ كنت تقول كما لو أنّك نبي جبران خليل جبران: إن السعادة توجد في قلوبنا. وهذا يشبه قول أحدهم لك وأنت في الكوفة إن ما أتيتَ للبحث عنه هنا في هذه الأصقاع قد تركته خلفك هناك في بسطام". بدا كما لو أن خيطاً من الدموع أخذ يحيط بعينيه المطبقتين. لاحقاً، أدركت من إحدى الممرضات أنهم ظلوا يبللون عينيه بسائل مُرطِّبٍ من آن لآن.
ما قد أذكره الآن دون غيره أنّه طلب مني عند نهاية لقائنا ذاك قرب بوابة المستشفى أن نكون على اتصال في "الأيام المقبلة". تحقق هذا التواصل كما ترون أثناء غيبوبته تلك الممتدة كما ليل الأرامل الطويل. "نحن حقاً في حاجة يا صالح إلى هذه اللقاءات". ما لبثت أن أضفت بلوعةِ كاتِبٍ منفِيٍّ حتى النخاع: "الكتابة تذبل دون ماء كلام، يا صالح"؟ لعل كلانا أنا وهو ظلّ يتجنّب طويلاً الاعتراف علناً حتى لنفسه أن الشغف بالكتابة لم يعد حيّاً في أعمقنا بالعنفوان القديم. كانت المعطيات لا تني تشير إلى احتضار ذلك الشغف بالكتابة والحوار عنها، في ظلّ تصاعد وتيرة واقع مغاير لغويّاً وثقافيّاً.
لا بل الشغف لا يزال هناك. أو للدقة لا بدّ له أن يظلّ كما الهواء لمواصلة العيش. ذلك أن تقارب اللقاءات وتعددها بيننا نحن جمهرة "النقّاد والأدباء" قد يبقي على أمل عودة الشغف إلى عهده ذاك وقد تحول منذ مدة على ما بدا إلى محض رغبة أخرى مغلّفة بالشجن، أو الحنين، وقد علمنا أنّ هذا النزوع العميق للتشبث بأسباب الكتابة كموقف من العدم ومبرر للحياة قد يتعذّر تحققه عمليّاً إزاء تفاقم حالة اللا استقرار وعنف القوى "المُزَعْزِعَة" تلك في وضعية المنفى نفسه. وقد ظلّ يحدث ذلك التباعد بيننا هكذا قسراً وباطراد. كذلك بدا كلانا أنا وصالح واعٍ هناك في العمق بحقيقة أخرى عن طبيعة هذا التيه الذي يدعى "المنفى". تلك الحقيقة التي أشار إليها إدوارد سعيد، نقلاً عن والاس ستيفنس، ومفادها يتلّخص في كون المنفى "عَقلُ شتاء" تكون فيه "أنفاس الصيف والخريف قريبة بقدر تباشير الربيع لكنّها لا تُطَال". مع ذلك، وجدتني عند نهاية ذلك اللقاء أذكر شيئاً آخر، عن أرقام الهاتف. وقد قلت مُعَضِّداً حصون جزيرتي ضد موج فوضاه: "حاول أن تهاتفني أولاً، صالحَ صديقي". فقط، لو أنني كنت أعلم لحظتها أن ذلك سيكون آخر لقاء بيننا؟
كان رسخ لدي أنني بدأت أعتاد على هيئته الجديدة المتداعية كأركان بيت ربما آلت قريباً للسقوط، عندما تناهى صوت أدوين:
"وقت الراحة ينقضي سريعاً، يا ماجد".
أدوين هذا ثعلب ماكر جداً في مثل هذه الأمور. يضيف هكذا إلى أوقات الراحة دقائق فوق ما قد هو مقرر. كانت الضحكة البلهاء قارب نجاة أدوين إذا ما حدث وواجهنا أحد أولئك الرؤساء في العمل. "هههههههه.. هيءهيء". على أي حال، واصلنا هبوط درجات السلّم القليلة تلك المنحدرة من شارع الكينزواي متجهين إلى عملنا في تلك الطوابق أسفل الأرض. كان صدى تشوقات صالح الطيب لقراءة ما قد كُتِبَ في الوطن أثناء غيابنا الطويل الممتد لا يزال يتردد في أذنيَّ: "ما جودة ما يُكتب هناك، يا ماجد"؟ لقد رحل صالح الطيب بعد مضي أسابيع قليلة وفي نفسه شيء من حتّى. تلك ثلاثون دقيقة وربما أكثر لوداع أبدي لا تلاقٍ هناك بعده. قال: "لا بدّ يا ماجد صديقي أن أسماء عديدة قد ظهرت على الساحة الثقافية، في أثناء غيابنا هذا"؟ قلت: "وغيابنا كثير يا صالح"! ابتسم. لعله أدرك عبر حدس ما أنّه لن يكون بوسعه تفحّص مدى ما تتمتع به تلك الأسماء من جودة. قلت معتذراً من حديثنا باللغة العربية في حضوره: "ذلك صديق قديم، يا أدوين". كما لو أنّ أسى ما خالط صوتي. مع ذلك، لم يخطر لي أن الأسوأ الغائب لا محالة قادم على الطريق!
سألتني أمل زوجته وأمّ ولديه ضياء وبهاء بعد مضي أكثر من أسبوع على سقطته بالسكتة القلبية أن أترجم لها "كل شيء".
قالت:
"أنت تعلم كم يعني لي صالح هذا"!
وبكتْ.
كان طبيب تعود جذوره إلى مكان ما في وسط آسيا وكان شاباً بوجه راهب طيب عجوز قد أجلسنا معاً أنا وهي داخل غرفة جانبية تستخدم كمكتب، من قسم العناية الفائقة. قلت في نفسي: "لا بدّ أننا الآن نمر بحذاء ما لم نكن نود رؤيته قطُّ".
صدقت مخاوفُ تلك الأيام. إذ ما لبث الطبيب أن طلب مني بتهذيب جمّ وأدب رفيع راق أن أترجم لها ما قد تُعرِض عن وطأته الجبال. وهو ينظر إليها، خاطبني متابعاً: "أعلم أنها مهمة لا يرغب فيها أحد: تصدير الأنباء السيئة". لقد بدا جليّاً أن شيئاً ما يُقبِل كما قطار مندفع لا سبيل مطلقاً إلى وقفه. أخيراً، قالت: "يريد إذن مني أن أمنحه الإذن بموته"؟
قلت:
"ذلك (أملَ يا شقيقتي) ما يطلبه هذا الطبيب". الله وحده يعلم أيّ سدٍّ متين ٍ وراء عينيَّ أخذت تمور من خلفه كل تلك الدموع.
مرّ الآن أكثر من العقد على موت صالح.
وأنا لا أزال أنام وأصحو، أقوم وأقعد، أستقبل أُناساً وأودع آخرين، لكنّ تفاصيل آخر لقاء بيني وأدوين وصالح معاُ لا تبرح ذاكرتي. مع أنني والشيء بالشيء يُذكر لا أتذكر على وجه الدقة متى وأين وكيف تمّ لقائي ذاك بصالح الطيب لأول مرة في القاهرة. رأيته إذن وهو يهرول نحوي عابراً شارع الكينزواي ذي الاتجاهين، تماماً كما نعبر الشوارع بلا تقاليد معينة في بلادنا، وقد انعكس شيء ما من أشعة الشمس الضعيفة الغاربة على حواف نظارته الطبية المميزة لهيئته العامة.
وقد بدا من هرولته الخفيفة تلك كما لو أن روحه تصنع ثورتها الأخيرة على جسد لا يكاد يقوى طويلاً على حملها. وذلك بالضبط ما أخذتُ أدركه لاحقاً. أشار بيده بعد أن توقف لاهثاً قبالتي إلى الشرق. قال وهو بالكاد يستجمع أنفاسه اللاهثة: "كنت (يا ماجد) في الطريق لزيارة صديق ربما لا تعرفه يعمل في محطة البنزين هناك. ثم لمحتك. قلت أدردش معاك شويّة". ثم كان يا ما كان من حديث أعقاب السجائر المتناثرة. كان آخر ما رأيتُ من صالح شبح اِبتسامة، وإيماءة مودع.
...
......
كنت أتسوق قبل أشهر قليلة في الطابق الأرضي من مجمع تجاري يدعى سيتي سنتر، وقد أنهيت للتو مهام وظيفتي الأولى، منتصف ذلك النهار. بدا لزاماً أن أذهب بعدها إلى البيت القريب قبيل بدء مهام وظيفتي الأخرى. كان يساراً هناك داخل قاعة تحيط بها محلات الطعام في نصف قوس أشبه بفم واسع عمال نظافة وموظفون وقت الراحة وسياسيون متقاعدون من العالم الثالث ناهيك عن غرباء آخرين بوجوه أضناها رهق الحنين، أو السعي خلف ذلك الشيء المدعو "الدولار".
"ماجد"!
هكذا، من بين مئات الأصوات وعشرات الألسن التي أخذت تشكل الضجة المكتومة داخل ذلك المجمع التجاري، أخذ يتناهى إليَّ صوت صالح، أليفاً خفيضاً كعادته على الرغم من نبرة النداء، مستوقفاً العهد به بمحبة سائلاً على بعد خطوات:
"إزيك"؟
سألته بدوري لحظة أن استقر وميض التحايا تلك في عتمة الوقت الفاصل ما بين وظيفتين عن "الحال والأحوال، يا صالح؟ وكان صالح نفسه قد بادرني قبل مرور نحو العام قائلاً إنه قد أخذ يعتمد في حياته على ما أسماه "العيش بالحيلة".
أُفكِّر الآن فيما إذا كانت وسائل صالح الطيب من أجل البقاء في عالم قاس قد عطبت حينه جميعها، بينما أكاد أرى في هذه اللحظة من كتابة هذه المذكرات عينيه الخامدتين وقتها وهما تبحثان بتوسل وحيرة أثارا ارتباكي عمّا قد تركه ذلك المصطلح على وجهي من أثر. "ما الذي كان يفعله صديقك صالح، هناك"؟ سألتني زوجتي ليلتها على أعتاب النوم.
لو أن استطلاعاً جرى بين أولئك المستهلكين شغفاً بشؤون السوق لمعرفة اتجاهات الرأي والتكهن به "ماذا كان يفعل صالح داخل ذلك المجمع التجاري الضخم" لما توصل أحدهم لإجابة ما قريبة من مرامي صالح الطيب تلك. وما قد علمتُ من أسباب مقدمه إلى ذلك المجمع قد كان مثيراً للدهشة أو الشفقة. يا للإنسان وهو مغمور بالبهاء الذي يسبق موته!
...
كانت المحلات داخل المجمع تغري بالشراء. كل منتج تجاري هناك قد تمّ عرضه بجاذبية شيطان وعناية ملاك: الملابس، لعب الأطفال، الأطعمة، مفارش المنازل، وغير ذلك مما وصلت إليه في حمَّى المنافسة يد خبراء في فنون التسويق وعمال مهرة بدا دوماً كما لو أن الله خلقهم فقط للقيام بهذه المهام أو تلك. قال وهو يشير بيده إنه أتى "إلى هنا" لأن "ذلك المحل يُقدِّم هذه الأيام" تخفيضات في أسعار الأقلام والورق وأشياء أخرى خاصة بمتطلبات "الكتابة". ثم دعاني لتفقد المحل المذكور. وأخذ يلح، موضحاً أن بوسعي إلقاء نظرة "لن تأخذ من وقتك الكثير، يا ماجد". أوشكتُ أن أخبره أنني لم أعد أستخدم الورقة والقلم لكتابة شيء ما. لقد وقعت ببساطة في أسر ساحر حديث يدعى "الكومبيوتر". لو أنني قمت تلك اللحظة بتلبية دعوته ضارباً عرض الحائط بواجبات وظيفتي الأخرى ولو لمرة واحدة لربما رأيته وهو يداعب تلك الأوراق والأقلام والدفاتر البيضاء بكل ذلك الحنان الذي يمكن أن تحدثه أنامل ناقد حصيف على مشارف الكتابة.
...
بعد مرور تسع سنوات، أو قبل مضي نحو العام، بينما أهبط من الباص رقم (
😎
في إحدى محطات وسط المدينة متجهاً صوب عملي الآخر مُبكِّراً على غير العادة، بادرني شخص طاعن في السن بالسلام وهو يمد يده اليمنى نحو كتفي على طريقتنا السودانية. لبثت حائراً قبل أن أدرك أنني أمام صديقي القديم نفسه وجهاً لوجه. صرخت: "صالح شخصيّاً"! كان يهم بالصعود إلى الباص الذي هبطت أنا منه، للتو. لعله كان متجهاً لتفقد أسرته الصغيرة جنوبي المدينة.
"لقد تغيرتَ كثيراً يا صالح".
قال:
"أنا طبعاً السُّكري والضغط لكنك يا ماجد أنت نفسك تماماً كما تبدو من صورك في بعض مواقع الانترنت. على ما يرام".
قرأت سراُ بعض التعويذات.
لكأنني أُحادث غريباً لا هو!
كان عليَّ أن أعتاد على ما طرأ عليه. على أنني سرعان ما حاولت التخفيف من وطأة الشعور بالرثاء تجاهه موضحاً أن الزمن ترك أيضاً شيئاً من آثاره على ملامحي. قلت بحسٍّ رفاقيٍّ خالص هذه المرة: "لا تقلق يا صديقي، لقد ملأتْ الدمامل حوائط روحي منذ فترة". ثم شرع كلانا يتوغل داخل دهليز صمت كثيف حلّ على غير توقع. كان صالح الطيب لا يزال يقلب بين يديه "لوعة الغياب"، لعبد الرحمن منيف، حين أخذ يتحدث فجأة عن "مفهوم الموت" لدى عدد من الكتّاب. كان من بين أولئك الكتّاب نجيب محفوظ وأمل دنقل والباحث في عبقرية المكان جمال حمدان إن لم تخن الذاكرة.
غريبان يجلسان في محطة. يتحدثان خطفاً عن معضلة أزليّة. قال: "تعامل هؤلاء يا ماجد مع الموت كما لو أنّه حدث عادي".
أخذنا نحرق السجائر في تتابع مذهل. "إنها إحدى مُتع الحياة". كان يحلو لصالح الطيب أن يردد على مقاهي القاهرة زمان، وهو يجذب أنفاس الشيشة الدائرة بالتناوب بيننا. قال يجيبني عن سنوات غيابه التسع "هنا في كندا" إنه قد أنهى تأليف سبعة كتب. فكرتُ في الحال بيني وبين نفسي في شح المصادر والمصاعب الأخرى التي قد يكون واجهها صالح الطيب كناقد يكتب من منفاه البعيد المختلف تماماً "هذا". ناهيك أن عملية إنجاز كتاب واحد فقط بمثابة مسألة تستنفد الكثير من الطاقات الداخلية. سألني قاطعاً حبل تفكيري ذاك: "وأنت، يا ماجد، ماذا كتبت"؟ قلت: "لا شيء، أتقلب بين الوظائف الهامشية فقط". حين رأيته ينطوي حزيناً على نفسه: "ربما أكتب قريباً مرثية لك يا صالح". انفجرنا معاً بالضحك.
كانت الغرفة الخالية، من قسم العناية الفائقة، التي قادنا إليها ذلك الطبيب بوجه راهب مشحونة برهبة الموت الماثل. زوجته أمل تبدو عهدها حزينة متعبة غارقة منذ سقطته المباغتة تلك في وحدتها. "كما قطّة مبتلة تماماُ بالبرد وماء المطر". كان إذن قد مرّ أكثر من سبعة أيام منذ أن توقف قلب صالح الطيب وأُسعف. قال الطبيب وهو يحتفظ بنفس رباطة الجأش والنبرة الهادئة لمن يدرك جيداً بحكم الخبرة أو التدريب ذلك الحد الفاصل ما بين عواطفه ومهنته إنهم كمختصين في أمراض القلب كانوا في انتظار "قرار أخصائي المخ". وإن حالة "مستر صالح الطيب" وفق ذلك القرار "ميؤوس منها". قال وهو ينظر إليها وهي لا تزال تقبع إلى جواري نظرته تلك إلى سيدة على أعتاب الترمُّل: "قل لها: لقد وافق رئيسه وأخصائي المخ معاً على ألا أمل يرتجى هناك في نجاة مستر صالح، وفي الواقع، لا شيء هناك قد يكون أكثر رأفة له من القتل الرحيم، وإنه لم يتبق في الأخير سوى موافقة الأسرة على القرار المتخذ برحيل المريض صالح الطيب". لكأن شيئاً ثقيلاً يسحب روحي نحو أعماق مظلمة سحيقة لا قرار لها. وأفقت سريعاً على صوت أمل تسألني ضارعة هذه المرة أكثر أن أترجم لها "بالحرف الواحد" ما قد ظلّ يقوله لي الطبيب "هذا" بشأن وضع صالح الأخير:
"أبداً لا تخفي عني شيء"؟
قال:
"قل لها: إن القلب قد عاد إلى دقاته الطبيعية تلك، لكن توقف القلب قبل اسعافه لأكثر من 15 إلى 25 دقيقة أحدث دماراً واسعاً في المخ، لقد ترددوا (ربما) في الإبلاغ عنه لحظة أن توقف قلبه، وإنه يتنفس الآن فقط بمساعدة الآلات الطبية. بقاؤه هكذا ينتقص لا شك من كرامته كإنسان"! كان صالح حين توقف قلبه يتواجد في بلكونة شقة يتشارك إيجارها مع بعض الشباب كذلك بعد أن تعذّر المضي قدماً مع أمّ ولديه. لقد كانت أمل تراه بصورة ما خاملاً يسعى وراء الأحلام و"الكتب غير المجدية في عالم قاس مثل عالمنا هذا". يا لها من مهمة عسيرة على الترجمة؟ "قل لها: إنهم عادة ما يتابعون مثل هذه الحالات لمدة 24 أو48 أو حتى 72 ساعة آملين في تحسنها، لكنه مر عليه الآن أكثر من أسبوع، ولا يزال جسده ينتفض بشدة كلما حاول معالجوه نزع الآلة المساعدة على التنفس أو الحياة، وهذا يطيل أمد معاناته، لكأن الجسد يقول دعوني أذهب". وصمت. قلت لها: "توقف الأطباء هنا لكن قدرة الله (يا أمل) لا حدود لها". لم أكن أنظر إلى عينيها. قالت وهي تتطلع إلى الجزء الفارغ من الغرفة: "وجعي عليك أبو بهاء وضياء يا صالح ود نفيسة".
قبل نحو أربع سنوات، في أمسية مضيئة بالثلج المترامي وراء نوافذ شقتي الزجاجية الواسعة في مدينة كندية أخرى تدعى "وينبيك"، ولم أكن قد تزوجت وقتها بعد؛ رنّ جرس الهاتف الأرضي تماماً كما لو أن الرنين أصابع روح غريبة تطرق الباب بغتة، فإذا بصوت صالح الطيب الأليف ذاك نفسه يأتي من الطرف الآخر مهنئاً بسلامة وصولي القريب إلى كندا. كان صالح سبقني مهاجراً إلى كندا بنحو خمس سنوات، وقد بدا راغباً في الكلام في أثناء تلك المحادثة غير المتوقعة "قطُّ"، إلى الدرجة التي أنستني فيما يبدو لي الآن أن أسأله كيف تحصَّل على رقم هاتفي رغم حداثة عهدي بالمكان!
كان حديثه يتجه إلى المنطقة المشتركة من ذاكرة أولئك المنفيين: "القاهرة". سألني عن الناس، الأماكن، الحركة الثقافية في مصر، وأشياء لا أتذكرها الآن. بدا من شدة الحنين كأن هذه البلاد تكشّفت له عن وهم جديد آخر، لا عزاء. ما أحزنني أن شخصاً ما أخذ يطالبه بإنهاء المكالمة "فوراً". اعتذر لي بتهذيبه ذاك موضحاً أنّه ظل يشغل الهاتف بينما أحد رفقائه في ذلك السكن يتوقع مكالمة هاتفية ما. كان صالح عاطلاً وقتها عن العمل. قلت له: "لا عليك". كان وعدني قبيل أن يُنهي المكالمة هكذا مرغماً مسالماً أن يمكث معي قريباً بضعة أيام في محافظة "منيتوبا" في طريقه من "ألبرتا" إلى "أونتاريو" في الشرق، وهو ما لم يحدث. لم أشأ أن أسأله عن أسرته الصغيرة. لقد كنت على علم بتباعدهما ذاك!
في المستشفى الذي لا أزال أعمل فيه، والذي رحل منه صالح في صباح بدت فيه السحب السوداء الكثيفة قريبة كما أذرع تمتد لأخذ عزيز من بين يديك إلى الأبد، ظللت ألقي نظرة إلى ما وراء الحواجز الزجاجية لتلك الغرفة القريبة من درج الممرضات كلما دلفت إلى قسم العناية الفائقة. في كل مرة أفعل فيها ذلك، كان يتراءى لي خيال صالح على الفراش وشحوب تلك الأيام على وجه زوجته، وهي تقف قبالة عينيه المغمضتين، وقد بدا غير بعيد منهما الصغيران ضياء وبهاء وهما يعلنان عن خيبة أملهما الكبرى في شأن وعد قطعه لهما والدهما قبيل أيام من سقوطه: شراء لُعبة تدعى "كيربي".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى