حنان حلبوني - هاتف ذكي

أخيراً وافق جدي أن يقتني.. هاتفاً ذكياً بدل هاتفه النوكيا الأنتيكا، كان موقفه عدائياً دوماً من ذلك الشيطان الرجيم -كما يصفه- يقول: هذا ما كان ينقصني؛ أن أصبح مثلكم قليل عقل، هذا شيطانٌ رجيم، يحتوي من الموبقات ما لا يعدُّ ولا يحصى، تضعون رؤوسكم فيه، وتحركون أصابعكم وتبتسمون له ابتساماتٍ بلهاء، ولا تتكلمون مع أحدٍ من حولكم، حتى نسيتم الكلام وأصبحتم مثل المساطيل، هذه مؤامرة استعمارية، هدفها أن يبعدوا الأولاد عن آبائهم، والأحفاد عن أجدادهم، ويستولوا على عقولكم الصغيرة.
محاولاتٌ عديدة باءت بالفشل، إلى أن قبل أخيراً أن نحضر له واحداً. جدي رجلٌ سبعيني متقاعد، بقي وحيداً بعد وفاة جدتي، انتقل إلى العيش معنا ليؤنس وحدته قليلاً، (بعد خديجة لم أعد أريد شيئاً من هذه الدنيا، الله يرحمك يا خديجة) هذه اللازمة اليومية التي يرددها في الصباح والمساء وما بينهما، حتى أصبح زاهداً كئيباً لا يشعر بطعم الأشياء، يشاهد التلفاز قليلاً ثم يبدأ بالشتم واللعن، برامج سيئة منحطة لا أخلاقية، أين أصبحنا يا الله! يقرمش أصابع البطاطا المقلية بطقم أسنانه الجديد، ويتذمر من طعمها وقوامها، ويقول: كل شيءٍ تغير، أين البطاطا التي كانت تعدّها خديجة؟! رحمة الله عليك يا خديجة. يخرج من البيت إلى المسجد ويعود من المسجد إلى البيت، ليس له صديق ولا رفيق ولا نزهة. حاولنا كثيراً منذ وفاة جدتي أن نحضر له هاتفاً ذكياً كي يتواصل مع بقية أولاده وأحفاده، ويخرج من اكتئابه، لكن دون جدوى، إلى أن طلب منه الشيخ قاسم في المسجد رقم هاتفه كي يضيفه إلى مجموعته ويرسل له مواعيد الدروس الدينية والفتاوى والأسئلة والأجوبة وما إلى هنالك، فاضطر عندها للإذعان والموافقة على اقتناء هاتفٍ جديد. أضفناه إلى مجموعة الشيخ قاسم وصارت الإشعارات تصله ليلاً نهاراً فقط، تذمر في البداية ولم يعجبه هذا الوضع الجديد، خصوصاً أنه سيضطر إلى طلب المساعدة مني ومن إخوتي كي نعلمه كيف يستقبل ويرسل، لم يعرف في البداية كيف يتعامل مع هذه الأعجوبة، لكنه تعلّم شيئاً فشيئاً كيف يسيطر على الوضع، خصوصاً بعدما أنشأنا له حساباً على الفيسبوك، ورأى كيف انهالت عليه طلبات الصداقة، ثم علمناه كيف يرسل باقات الورد المزينة بعبارات المجاملة، من قبيل صباح الخير، مساء الخير، جمعة مباركة، ليلة جمعة مباركة، إلخ...
وما هي إلا عدة أيامٍ حتى اعتاد جدي على هاتفه الجديد، وصار يرسل لنا كل صباح أزهاراً وعباراتٍ، وليس هذا فقط، بل أصبح يرسل مقاطع الفيديو الإرشادية والدينية،
وصار يأخذ زاويته في الغرفة مضطجعاً على الأريكة، عيناه في هاتفه وأصابعه تعمل على لوحة المفاتيح، وعلى وجهه ابتسامةٌ هادئة، وتحولت غرفة الجلوس إلى مقهى؛ رأس كلٍ منا في هاتفه، لا أحد يتكلم، بل الصمت هو سيد السهرة!
مضت أسابيع وتطورت مهارات جدي الهاتفية أو التواصلية أو التكنولوجية، لا أدري ماذا أسميها! وأصبح يرسل لنا مقاطع الفيديو المضحكة، ويضع القلوب الحمراء والزرقاء، والوجوه الصفراء المعبّرة، ونسي امرأةً اسمها خديجة ولم يعد يذكرها أبداً، عادت إليه حيويته وحبه للطعام؛ صار يطلب من أمي أن تعدَّ أطباقاً جديدة، يخبرها بالطريقة التي تعلّمها من اليوتيوب خطوةً خطوة، ويصوّب لها أخطاءها في إعداد الطعام!
ليس هذا فقط، بل صار يلتقط لنفسه الصور، ويغير صورته الشخصية على الفيسبوك والواتسآب كل يومين، ويضع حالاتٍ جديدة، دائماً مبتسمٌ وشارد، لا يستطيع الاستغناء عن هاتفه أبداً، وها هو يصرخ: ألم ينتهِ شحن البطيخ الموبايل بعد؟
منذ أسبوع صار يصلي في البيت على عجل ولم يعد يذهب إلى المسجد. قلقنا عليه وظننا أنه مريض، لكنه نفى أن يكون مريضاً، أو أن أي شيءٍ يؤلمه، بل بالعكس تماماً؛ قال إنه يشعر بقوةٍ وصحةٍ تسريان في جسده، وفعلاً إقباله على الطعام وابتسامته التي لا تغادر وجهه، وخدّاه الورديان، كل ذلك يدلّ على تمام صحته النفسية والجسدية.
ثم وبعد عدة أشهر من اقتنائه الهاتف الجديد، استبدل الخروج إلى المسجد بالخروج إلى الحديقة، واستبدل مجموعة الشيخ قاسم بمجموعة (شباب على طول)!
البارحة عاد من الحديقة يحمل ثياباً جديدة، ارتداها ونظر إلى نفسه مليّاً في المرآة، ثم طلب من أمي أن تجري بعض التصليحات على البنطال الجديد، وأن تكويه جيداً وتركّز على الكسرة. واليوم خرج منذ الصباح مرتدياً ثيابه الجديدة، واضعاً الجل على شعره، ولم يعد إلا في الرابعة عصراً، كان يحمل في يده دبدوباً أحمر!
اليوم هو عيد الفالنتين، الله يرحمك يا خديجة!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى