أمل الكردفاني- القاتل بالصدفة- قصة قصيرة

- إنني متعب يا امرأتي.. متعب (صمت) هة؟ أشكرك على مسح خديَّ بكفيك.. هذا يخفف عني قليلاً.. أشكرك حقاً.. أنتِ الإنسان الوحيد الذي استطيع أن أتعامل معه بعفوية..(صمت) أعرف.. أعرف أنك تحبينني وأعرف كذلك بأنني استغل حبك هذا فأضجرك بآلامي..
يأتي صوت من الزنزانة الأخرى:
- أسكت ايها المجنون.. لقد أزعجتنا بحديثك مع امرأتك هذا..
ويأتي صوت آخر من زنزانة أخرى:
- المرأة التي يتوهمها.. لا توجد امرأة تستطيع تحمل قرفك..
يستمر إلياس في الحديث إلى امرأته المتوهمة مهمهماً.. فيأتي صوت مختلف:
- ما هذا بحق الجحيم.. ما هذا.. ألا نستطيع النوم؟..
- زنزانات منفردة وضيقة ورائحتها عفنة..وبالإضافة إلى ذلك مزعجة..
يظل إلياس ممسكاً بالقضبان الفولاذية على كوة صغيرة بالباب سانداً خده إليها ثم يصيح.
- إنكم لا تستطيعون التخلي عن أذية الآخرين حتى وأنتم في زنازينكم..
- لسنا نحن من ذبحنا ذلك الرجل..
- أنا ذبحت أكثر من ثلاث نساء..
- لكن إلياس ذبح رجلاً واحداً..إنك ذبحت نسوة ضعيفات لأنك جبان..
(يضحك السجين بحنق..ويجلس إلياس إلى ركن الزنزانة المظلمة..)
- آه يا امرأتي.. إن العالم عبثي جداً.. عبثي وفوضوي.. (صمت) لا.. لست مؤمناً.. وليست المسألة تتعلق بالسماء بل للأسف..هي ملتصقة بالأرض (يدق بقدمه على الأرض بعنف ويصيح) بالأرض..بالأرض.. بالأرض..
- كفى..
- بالأرض..
- كفى أيها المجنون..
- بالأرض..
- قلت لك توقف..
- بالأرض بالأرض بالأرض..
(يجهش بالبكاء)
يأتِ صوت سجين:
- كنت أعلم أن هذه ستكون نهايتي.. أقسم لكم..كنت اعلم منذ أن كنت أرضع ثدي أمي..
- مجنون آخر سيبدأ في حكاية قصته..
يأتهم صوت إلياس:
- احتاج لدفئك يا امرأتي.. احتاج لدفئك..
يضحك أحد المساجين:
- إنه قاتل رومانسي..
- ليس كذلك.. إنه قاتل بالصدفة.. والقتلة بالصدفة يعانون كثيراً..
- هل أنت متاكد أنه ذبح الرجل بالصدفة؟
- هذا تحليلي للهذيان الذي يصيبه يومياً عند غروب الشمس..
- يبدو أنك متعلم؟
- أنا خريج جامعي.. ماذا كنت تعتقد؟ هل كنت تعتقد أنني جاهل مثلك؟
-(يضحك) لا لا.. ففي كل الأحوال أنت مجرم مثلي ولن يغير تعليمك من هذه الحقيقة شيئاً..
- بل يغير الكثير.. أنا لم أقتل مثل إلياس ومثلك.. أنا مزور.. أزور الأوراق الثبوتية.. جوازات سفر..شهادات ميلاد..شهادات علمية.. تأشيرات.. الخ.. وأزيف النقود أيضاً.. أنا لست مجرم عادي مثلك.. أما أنت فأنت مجرد مجرم مخبول يذبح النساء..
يأت صوت إلياس:
- نعم... ارتحت قليلاً.. لكن.. لكن.. من أي شيء يأتِ كل ذلك الألم.. أعصابي تنهار.. تنهار باستمرار وأشعر بالوهن.. لقد صبرتِ عليَّ كثيراً.. صبرتِ رغم أنكِ لا زلتِ في ريعان شبابك..
- أصمت..
- دعه يتحدث.. ألا تتحدثون أنتم إلى بعضكم البعض..
- إلى بعضنا البعض.. ولكننا لا يشاركنا تلك الأحاديث..
- يبدو أنه كان يحب زوجته..
- هل أنت متأكد من أنها زوجته؟
- لا أدري.. هل تظن شيئاً آخر..
- كل الدلائل تشير إلى علاقة زوجية..
- لكنها لم تزره أبداً..
- ربما ماتت؟
- الأرجح أنها طلقته وتزوجت شخصاً طبيعياً ومحترماً..
يقفز إلياس ويقبض على قضبان الكوة:
- أصمتوا أيها التافهون.. لا أقبل أي إساءة لها.. إنها أشرف من أمهاتكم العاهرات..
- تعرف أننا لن نستطيع الخروج من الزنازين لتأديبك لذلك تتمادى في إهانة أمهاتنا العاهرات..
(يضحك سجين آخر)
- أنت تعترف بأن أمك كانت عاهرة؟.. إذاً فقد صدق إلياس..
- أنا لم أعترف.. إنه خطأ في التعبير فقط..
- خطأ في التعبير أم أن ذلك ما كانت عليه أمك بالفعل..
- وما الضير إن كانت عاهرة.. هذا شأنها.. في الحقيقة أنا لم أعرفها أبداً..
- لم تعرف أمك؟
- أبداً..
- أبداً أبداً؟
- لا.. لقد فتحت عيني فوجدت نفسي بلا أم.. هذه كل المسألة.. ولا أعرف إن كان ذلك ضرورياً كما يعتقد الناس أم لا.. بالنسبة لي.. لا أرى ضرورة لذلك..
- إذاً لماذا غضبت من حديث إلياس؟
- أنا لم أغضب..
- بل غضبت..
- أسكت..
- عليك أن تقر أولاً بأنك غضبت..
- لا تتعب نفسك معه إنه يكذب..
- لم أكذب..
- بل تكذب لأنك قتلك أمك.. ألم تكن أمك كما جاء في الحكم الذي تلاه وكيل السجن..
(صمت)..
يتمدد إلياس على أرض الزنزانة.. طويل القامة، في أواخر الأربعين..قوي العضلات ونحيل..
- إلى متى يا امرأتي.. إلى متى هذا الضعف الذي يعتريني.. هة؟ ماذا تقولين.. كيف هذا.. كيف لستُ ضعيفاً.. بل أناْ ضعيف جداً.. أعصابي تنهار بسرعة وأفقد السيطرة.. العالم يبدو لي جحيماً.. البشر.. البشر.. إنهم كئيبون..
- متى سيصمت هذا الكلب..نريد أن ننام..
يجيب سجين:
- لقد نمت بما فيه الكفاية.. آه.. هذه الزنازين الضيقة.. متى سينتهي هذا السجن الانفرادي؟
- هذا أفضل حتى لا نرتكب جرائم ضد بعضنا بعض.. كان أحدنا سيقتل إلياس حتماً..
- وامرأته
(يضحكون)..
- مرت سنوات طويلة حقاً.. طويلة طويلة..
(صمت)
- طويلة جداً.. سيأتي الحارس خلال دقائق لتوزيع الطعام..وحمل صفائح التغوط ليستبدلها بأخرى نظيفة..
- إن طعامهم هذا يصيبني بالإمساك..
- بل بالإسهال..
- قلت لك بالإمساك..
- ولكنني أصاب بالإسهال..
- إنك تحب المغالطة فقط..
يدخل الحارس الشاب إلى الممر الضيق ويدق بعصاه على كوة الزنزانة:
- إلياس.. إلياس..
يظل إلياس راقداً..
- لقد تفاقم جنونه أيها الحارس ذو الشفاه الجذابة..
(يضحكون)
يشعر الحارس الشاب بالخوف فيضرب بعضاه على البيبان:
- أصمتوا أيها الجرذان..
- احدهم شغوف بتقبيلك أيها الولد..
يصيح الحارس:
- والآن.. سأفتح الكوة وتخرجوا علب الصفيح بحذر.. أما هذا الذي يريد تقبيلي فليحتفظ بصفيحته لأنني خائف من التعامل معه..
- ولكن كيف؟
- هكذا..
- ولكن الرائحة.. الرائحة لا تطاق..
- وأنا لن أقبلك ورائحتك لا تطاق..
- أرجوك..
(يقهقه الحارس)
- ظننتَ نفسك ذكياً.. حسنٌ..
- إنني لم...لم أقصد.. أقسم لك.. أقسم بشرف أمك..
- شرف أمي.. حسن.. لا بطانية لك لمدة أربعة أيام..
- لا أرجوك.. فالجو بارد والزنزانة رطبة..
(يقهقه الحارث)
- ضف كلمة ذكية أخرى لأحرمك من أشياء أخرى..
- لن أتحدث ولكن أرجوك استبدل لي صفيحة الغائط..
(يطرق الحارس على الأبواب بعصاته)
- والآن.. كونوا فتيات لطيفات.. لا أريد أن أسمع شجاركن..
يخرج الحارس..
- إنه حارس كلب..
- أنت من فعلت ذلك بنفسك..
- كنت أمزح فقط يا إلياس
- كنتَ تستفز رجلاً لديه سلطة تدميرك..
(يبكي السجين)
- الآن.. لا سبيل لك إلا أن تتحمل الحياة مع غائطك..أو لا تتغوط مرة أخرى..
- كنا أغبياء.. كنا أغبياء..
يتراجع إلياس ويجلس على الأرض..
- لا.. إنه القدر.. القدر فقط..
- إنه قدر ظالم..
- إنه كذلك بالفعل.. لكنكم أنتم أيضا ظلمة.. لقد ظلمتم ضحاياكم أيضاً..
- كنا أغبياء.. أغبياء..
يقفز إلياس ويضرب بيده على باب الزنزانة بعنف:
- لا اعرف.. لا أعرف.. أريد أن أخرج من هنا.. اخرجوني..
(يضحك الحارس خارج الزنازين)
- ستتعفنون جميعكم هنا.. ستتعفنون كغائطكم القذر.. إنكم لا تستحقون سوى ذلك.. هكذا قال قدركم..
- وماذنبنا..
- ذنبكم؟!.. لا.. ليس لكم ذنوب.. بل هو قدركم.. أن تكونوا كائنات منحطة.. يتم دفعها دفعاً لتكونوا عبرة للأقل انحطاطاً منكم.. دائما هي الحياة.. هناك بشر أساسيون فيها وهناك بشر على الهامش.. وأنتم كبشر على الهامش هذا دوركم.. أن تثبتوا للبشر الأساسيين أنهم كانوا ليكونوا مثلكم على هامش الوجود لو لم.. لو لم..
(يختفي صوته)
(يعم صمت)
يحاول إلياس النظر من خلال القضبان:
- لو لم ماذا أيها الحارس؟.. أين أنت؟.. لو لم ماذا؟ أجبني.. أجبني.. لا تصمت..
- لقد غادر أيها الأحمق..
- لو لم ماذا؟.. هيا.. اخبرني..
- لا تصرخ وتزعجنا..
- هذه مساوئ الاحتجاز مع مجرمين بالصدفة..
- صحيح.. عليه أن يعتاد السجن ليكون مثلنا..
- لن أعتاده..
- بل ستعتاده يا إلياس..
- لا لا..
- عليك أن تعتاده.. أنت جزع جداً.. خائف أكثر مما يجب..
- ولكنكم أنتم أيضاً خائفون..
- لا.. لسنا خائفين لأننا نعرف بأننا مجرمون..
- وأنا أيضاً أعرف..
- إنت لست مجرماً يا إلياس.. أنت شخص منحوس فقط..
- (يصيح) لا.. لا تقل ذلك.. حياتي ضاعت.. أعيش في جحيم.. لا أتحمل.. لا أتحمل (يبكي)..
- هل تريد أن تتحمل يا إلياس..
ينظر إلياس من بين القضبان وعيناه غارقتان في الرجاء:
- نعم؟..
- إذاً أقتل مرة أخرى..
- ماذا؟
- نعم.. أقتل مرة أخرى.. أليس كذلك يا فتيات..
- صحيح.. صحيح.. أقتل مرة أخرى..
- ولكن أقتل من؟
- إنه يقول الحق.. عليك أن تقتل مرة أخرى.. أقتل نفسك..
- أقتل نفسي؟!
- نعم.. هذا اقتراح جيد.. على الأقل ستتعفن جثتك وسيتم إخراجنا من هذه الزنازين الضيقة ريثما يطهرونها من جديد..
- لا.. لن أقتل نفسي..
- هذا وشأنك..
(يدخل الحارس)
- ما كل هذا الضجيج؟
- إلياس يتذكر امرأته..
(يقترب الحارس من كوة باب إلياس)
- كن عاقلاً أيها الشيخ..
(يمد إلياس اصبعين ويقبض على رقبة الحارس الذي يحاول الفكاك منهما دون جدوى)
- أتركني.. أتركني..
(يقهقه الرجال)
- لقد أمسكه بأصبعين فقط.. يبدو أنه أقوى مما كنا نتصور.
- أتركني أيها المجنون..
- أصبعين فقط؟
- أترك رقبتي إنني.. إنني.. إنني .. أختنق.أخت.. ت.. ن.. ق
(ياتي صوت سقوط جثة الحارث)
- نعم .. لقد قتله بأصبعين فقط.. إن.. إن زنزانته تواجه .. تواجه زن..ز..انتي..
(صمت)..
يضع إلياس جبهته على قضبان الزنزانة:
- آه..
(صمت)..
تظهر وجوه باقي المساجين جزعة وشاحبة..
يطلق إلياس قهقهة عالية.. فيزداد شحوب وجوه المساجين الآخرين.. أما الحارس فتبدو ملامحه نائمة في سلام.. وشفته رطبة كشفاه فتاة جميلة.

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى