عبدالله عبدالإله باسلامه. - (صلى الله عليه وسلم)

تعبت من طول البكاء، والانعزال عن الناس، أدركت بأن علي الخروج من البيت؛ فكل شيء يذكرني به.
غرفته المغلقة، الكرسي الذي كان يحب الجلوس عليه عند تلاوة القرآن الكريم، سجادة الصلاة، مسبحة أمي المعلقة التي سقطت من أصابعها وهي تلفظ آخر كلماتها :
- سألحق بأبيك.. أوصيك بعماد لم يعد له أحد في الدنيا غيرك .

لا زالت الشوارع تحمل ندوب جراح الأحداث الدامية، أكوام الحجارة تسد أفواه الشوارع الصغيرة، الشعارات تغطي الجدران، ورماد الإطارات يصبغ أجزاء متفرقة من الإسفلت، هياكل الإعلانات، واللافتات متناثرة تشوه كل مكان.
حاولت تجاهل كل شيء، وأن أطلق لنفسي العنان أمشي وأمشي، أتنفس هواء الصباح الباكر، شعرت بالارتياح، أو هكذا ظننت إلى أن وجدت نفسي بجوار جامع (المصطفى).

قررت العودة، وتغيير الطريق بسرعة لكن باب الجامع المفتوح قدم لي دعوة للدخول لم أقو على رفضها. وجدت نفسي اندفع إلى داخل الحرم الواسع الخالي إلا من روحه العذبة، لأجلس في نفس المكان الذي كان يفضله تحت المنبر مباشرة كي يكون قريبا من (الشيخ الصالح)، جالساً القرفصاء، ضامّاً ركبتيه إلى صدره مصغياً بكل جوارحه لمحاضرات الشيخ التي كان يداوم عليها حتى صار من أتباعه.
كنت أشعر بالارتياح وأنا أرى أخي الوحيد يجتاز مرحلة مراهقته بين جنبات الجامع بعيداً عن أصدقاء السوء، ومواقع التواصل الفاسدة.
كنت أشعر أن أبي وأمي يبتسمان برضى، فنحن أسرة معروفة بالتدين والاستقامة، لكن في الوقت ذاته كنت ألحظ بعض التغيرات تطرأ على عماد؛ فقد بدأ يعطي ملاحظات حول ما ترتديه زوجتي، وحذفه أغلب قنوات التلفاز ،كما بدأ يتكلم في السياسة !!
رغم انشغالي بالعمل إلا أنني شعرت بأن علي مرافقته إلى الجامع، يومها بدا سعيداً، وسعادته أعادت لي شيئا من الاطمئنان بأن كل شيء على مايرام، وأن ليس هناك ما يخفيه، زاد من اطمئناني عند وصولي الجامع رؤية عدد كبير من الناس أغلبهم من الشباب، سألته :
- أين الشيخ ؟
أشار بحب وإكبار إلى أحد الملتحين في الصف الأول:
- هناك .. صاحب الكتفين العريضين.
التفت إلي كأنه يستقرئ رد فعلي، ربما ظن أنني سأشهق إعجاباً، لكن يبدو أنني خيبت ظنه فمال نحوي وهمس بإجلال :
- هل تعرف أنه يلتقي برسول الله في المنام؟!
هتفت متأثراً:
- اووه.. صلى الله عليه وسلم!.

ما إن قضيت الصلاة حتى تدافع الشباب يشكلون حوله نصف دائرة واسعة، بدا لي الرجل عادياً إلا من لحية كثة، وشارب محلوق يبرز شفتين رفيعتين تنفرجان بين الحين والآخر عن أسنان بيضاء، ويعتمر عمامة ملفوفة جيداً في شكل طيات متساوية، تنحسر قليلاً عن غرة فاحمة، تتوسط حاجبين غليظين فوق عينين صغيرتين مؤطرتين بالكحل، بدأ حديثه بنبرة خافتة، ثم أخذ يتلو آيات كريمة بصوت شجي دافئ، وشيئاً فشيئاً تغيرت نبرة صوته إلى الخشونة، والإرتفاع عند حديثه عن النظام الحاكم، والتي ازدادت سوءاً يوماً إثر يوم؛ فرغم كرهي للسياسة، وعزوفي عن متابعة أخبار مشاكل الحكومة مع المعارضة إلا أنني كنت أتابع - من بعيد - الأحداث بدافع الخوف على عماد لذلك حرصت على حضور خطبة صلاة الجمعة التي دعا إليها (الشيخ الصالح)، والتي قال فيها (أن على ولي الأمر الاستجابة لمطالب الشعب، وتغيير الحكومة الفاسدة، وإلا سيقوم الشعب بإسقاطها بنفسه).

لم أفهم ساعتها معنى هذا الكلام، ولا مدى خطورته، ولم أفطن لصمت عماد، وهدوئه بقية ساعات اليوم على غير عادته منذ بدأت الأحداث، ومع تأخره عن موعد عودته إلى المنزل بعد صلاة العشاء بربع ساعة، وقبل أن أقرر الخروج للبحث عنه فوجئت بإعلان حالة الطوارئ عبر قنوات الأخبار الرسمية، وإغلاق الطرقات، وانتشار قوات مكافحة الشغب، ونزول الجيش، ثم بصور الاشتباكات تترى عبر قنوات التواصل. انطلقت كالمجنون نحو الجامع لكني عجزت عن تجاوز حدود الحارة؛ فقد أغلقت كل الشوارع وقطع التيار الكهربائي، والإنترنت، وطغت أصوات الأعيرة النارية، وأبواق سيارات الشرطة، مع تصاعد ألسنة النيران من الشوارع الرئيسية، وانتشرت أدخنة الحرائق في سماء المدينة، عدت لأقضي ساعات الليل في التنقل بين باب، وسطح، ونوافذ البيت، يتأكلني الندم لأني لم أتعرف على أحد أصدقائه، ولا أملك حتى أرقام هواتف رفاقه في الحلقة، افترسني القلق، والخوف طوال الليل على أخي الحبيب الذي وصل مع شروق الشمس محمولاً على الأكتاف، مضرجاً بدمه، قد انطفأت عيناه، ملفوفاً في خرقة مكتوب عليها ((لا إله إلا الله)) .

انتزعتني أصوات جلبة مصدرها باب الجامع، لأرى مجموعة كبيرة من الشباب، والمراهقين يتقدمهم شاب أكبر سناً منهم بقليل يغطي رأسه بشاشة بيضاء منسدلة على كتفيه، تميزه غرة فاحمة، ولحية كثة، حدجني بنظرات غريبة، ربما من وجودي في هذه الساعة المبكرة.
ما لبث أن تجاهلني، وجلس ليتحلق حوله الشباب، فبدأ حديثه بنبرة خافتة، وتلاوة آيات كريمة بصوت شجي دافئ،ثم تغيرت نبرة صوته إلى الخشونة، والإرتفاع وهو يتحدث عن الصفقة الشائنة التي تمت بين (الشيخ الصالح) والنظام الحاكم، وأن الشيخ قد خان الأمانة بقبوله منصب وزير في الحكومة، ويجب الخروج على الشيخ، وعلى الحكومة حتى تستجيب لأمر الله.
اقتربت من فتى بالكاد دخل مرحلة المراهقة :
- من هذا الشاب؟
نظر إلي مستنكرا :
- ألا تعرف من يكون ؟! هذا العالم الرباني المشهور (الشيخ الصادق) .
ثم التفت إلي كأنه يستقرئ رد فعلي، ربما ظن أنني سأشهق إعجاباً، ويبدو أنني خيبت ظنه فمال نحوي وهمس بإجلال:
- هل تعرف أنه يلتقي برسول الله في المنام؟!
أجهشت بالبكاء :
- آآه صلى الله عليه وسلم ! ِ


عبدالله عبدالإله باسلامه.
اليمن - ذمار .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى