عبد الجبار الحمدي - المطربش الجديد شارلي

حُبلى هي ايامه، فمنذ سنين تاه العد فيها اخصيت حياته بغير شرعية او رضا، لم يعتد الخروج منذ زمن بعيد، فما كان منه إلا ان لبس خمارا غطى به سوءته التي وصمت عارا عليه، كونه يحمل فكرا تحرريا، أمسك كل مقتطفات اقاويل الهجاء والذم رفات، طرز بها كفنه الذي حمله على كفيه، عارضا ذاك الابن المحرم دية لمسوغات براءة، أشتدت به النوائب عصابة رأس لفها بقوة خوف اخراج اسباب لعنته تلك، فما زالت تلوط الألسن النازحة بأبكار الحياة شراسة، دون النظر اليها، هكذا بررت بِمُسوِغات المتغيرات، فما كان منه إلا ان لبس عباءة الماضي غطاءً لعيوب حديثة، سكن في أسطح منسية، لثمت الرطوبة كل جدران مسكنه قبل حياته، إلا ما أحتفط به رمزا لزمن ولى... الطربوش؟؟ ذاك الذي احتل المساحة الاكبر من رأسه وحياته، فتراه لا ينفك يزدان زهوا متى ما أراد ن يلبسه لكأنه تاج لأبن حرام. وفي ذات يوم ودون تردد او تخطيط مسبق، لبس سترته بعد ان خاط فتقها من تحت الابطين لأكثر من مرة، فما أن عمد الى لبسها حتى استقام ظهره رغما عنه، كأنها قولبته ليكون بتلك الهيئة، شعر بضيقها، لكن ما باليد من حيلة فهي كل ما يملكه، أما القميص فقد ترنح سكرا من التصاقه بجسد ذو شعر كثيف عميت مساماته منذ فترة عن رؤية ماء لغسلها، لم يأبه لذلك كثيرا، ولا لرائحة ابطيه التي اعتاد فركها ببعض ورود القرنفل الذي يأخذه خلسة من باعة الورد العجوز، تلك التي رَكنت نفسها عند باب مدخل العمارة التي يقطن فيها، لا يرى شكله حين يلبس في المرآة، بل لا يلبس الطربوش إلا حين ينسل نازلا الى محل الحلاق الذي ينزوي في نفس الزقاق، كعادته يمسك السلم بحذر فقد تهرئت درجاته كأسنان شيخ هرم، لا يعلم متى تسقط، اما الجدران فقد اصابها التهاب مزمن من رطوبة فاحت رائحة الموت منها، كان يُمني نفسه أنه شارلي جابلن زمانه، فهو لا يختلف عن تلك الشخصية التي غرزت الانتقاد على كل الفوارق سهاما، غالبا ما ترتد على صاحبها فتقتله لوما او تقريعا، نزل بعد ان علق عصا يده بواحدة واتكأ على الحائط بالاخرى حتى تنشق هواء الزقاق الذي لا يفرق عن رائحة جسده، كأن العالم العلوي يلقي زفيره المنتن إلى ذلك الزقاق، تاركا كل روائح الفساد الادمي تهاجر من عوالمها لتسكن مقبرة الاحياء الفقيرة، توجه الى دكان الحلاق، دخل دون ان يعير لصاحبه اي اهتمام، بالمثل عامله الحلاق، فهو معتاد على من هم بوصفه ذلك منذ ان حلق له ذقنه، لا يعلم منذ متى؟ أمسك بالطربوش نفخ عليه وتذكر رائحة اسنانه، سارع الى فركه بكم سترته مداعبا كركوشته السوداء، والتي احزنته ساعة تساؤل!! لما هي سوداء وليست حمراء مثل لون الطربوش... لا يدري!!؟ لم يكلف نفسه قط.. السؤال، مخافة نعته بالجهل بما يلبس، وضعه على رأسه بحذر كأنه يوزنه بميلان وزاوية هو يراها تعكس شخصيته، وما أن يضعه حتى يتقمص الحياة .. كل الحياة بوابة داعرة لا يدخلها إلا من لبس الزيف وجها كطربوشه، بلل سبابته من لسان لحس الأزمات شواذا عامة، سرح بها شاربه وحاجبيه، زرر سترته بذلك الزر الوحيد المتبرم من عروة ضيقة تخنق مجرى تنفسه، خرج ممسكا بعصاه التي أصابه السل عمرا كئيبا فأمست كقلم رصاص أجوف بالكاد يكتب حروف ذات معنى، شرع بالسير إلى عالم الانفتاح الجديد وهو يلبس عنوانا قديم، فكان كمن يسمع أسطوانة مشروخة، لا تفهم معاني المفردات التي تغنى بصوت تحشرجت صعودا ونزولا من ابرة في ذراع معوجة، ما أن شعر بتسارع الذباب يتجمع عليه، حتى اخرج مقشته ضاربا تجمعها، مفرقا من شمت روائح أَلِفتها خلال تنقلها على بقايا نفايات، أطل العالم الجديد الصاخب بكل معنى الكلمة، فراح لا يميز أي متاهة دخل فيها، فكل ما يراه يلبس طرابيش متغيرات العالم الحديث، حتى القديم جدد وأصبح عالما من الموضة، يا الله ما الذي أراه؟؟ كيف سمحت لنفسي ان اعيش في محيط لا يتعدى حواسي الخمس؟ إن هذا العالم لكبير، كيف لي ان أدخل مسالكه؟ لابد أني سأتيه في صخبه ودوي انفاسه، تطلع نحو السماء فوجدها غير تلك التي يراها من نافذه مسكنه، فبالكاد كانت تُهمش على انتقادته متى ما أرقه شيطان اللغو، كان لهيئته أثرا بارزا سرعان ما أنعكس على تعليقات سارع بها من يراه مستهزءا بشكله، سار ببط مبتعدا عن الارتطام بأحدهم، خوفا من اسقاط طربوشه، سار حتى وصل الى ركن في تقاطع شوارع، لفتت انتباهه تلك الأعلانات التي تسوق دلالات مستحضرات تجميل، وقبعات ملونة تلبس فوق وجوه مستعارة، والاخرى تُرَغِبك في اقتناء رفاهية مع قلة جهد في عمل، الكثير منها تمجيد لاشخاص رغبوا ان يكونوا اصحاب مناصب، أخذ يدور في مكانه لعدة مرات، فقط ليتسنى له ان يلم بما يراه من عناوين وشعارات، لكن قدميه خارت ارتعاشا من العالم المفتوح على مصراعيه دون قيود، أراد الركون الى مكان يريح هلع عقله وجسده، إلا ان حالة غثيان مفاجأة جعلته يترنح، كاد الطربوش أن يسقط ولكن... رغم ترنحه سارع الى المسك به، مُجبرا على فتق سترته وهرب الزر الوحيد من بيت عروته الى عالم جديد لا يدري اي مصير ينتظره، هرع بعض من المارة على الامساك به ولملمة شعث هيئته، إلا انهم سرعان ما أدركوا انه رجل فقد الزمن ذاكرته، حين تكالبت عليه الاحداث فرمى بالكثير من هم على شاكلته في دهليز يسمى النسيان، حاول استعادة نفسه والتقاط ما أراد نبذه خجلا، بعد ان حبل به هماً، فوجد ان كل شيء تغير إلا الافكار، فهي لا زالت تتلون وتلبس الحرية عناوين محسوبة، إلا ان مروجيها لا زالوا يلوطون بأبكار الايام، وخلفهم علقت مقاصل لقطع من يحملها فكر تحرريا، امسك بطربوشه بقوة، جرى مسرعا نحو زقاقه الأزلي ليعود الى مصفوفته التي تأقلم معها، وما ان وصل حتى التفت الى ذلك العالم، ليبصق على أرضه التي حبلت بلقطاء جدد، اخصوا من يمكن له ان يورث قيم الحياة الحقيقية الى عالم الانسان الكبير.



عبد الجبار الحمدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى