حاميد اليوسفي - أمهلنا أيها الموت حتى نحتسي الفنجان الأخير!

لم يدر كيف وجد نفسه في غرفة إنعاش. الثمن الرسمي لليلة الواحدة يفوق خمسة آلاف درهم. وقد تصل تحاليل الصباح، وتحاليل المساء والأدوية في الحد الأدنى إلى ألفي درهم. يعني اليوم يكلف حوالي سبعة آلاف درهم أو أكثر. وبين الدخول والخروج لا بد أن يمر من جهاز فحص تصل كلفته لأكثر من أربعة آلاف درهم.
ظل يطلب من الله ألا يَتعب قلبه ، ويذهب إلى مستشفى أو مصحة لأن دخله ضعيف، ولا يتوفر على تغطية صحية.
المصحات الخاصة آلات صماء تدور بدون إحساس مثل السلسلة في معامل فيلم الأزمنة الحديثة لشارلي شابلن. وظيفتها الأساس امتصاص النقود من الجيوب المثقوبة للمرضى وأهاليهم.
قال المريض محدثا نفسه:
ـ لو تسلمت مثل هذا المبلغ لمدة يومين أو ثلاثة قبل أن أمرض، لما عرف التعب طريقا إلى القلب!
الأهل والأقارب يحترقون من أجله، لكن الله غالب. لا يستطيعون عمل الكثير. يتمنون أن يبقى معهم مدة أطول. كلما رأوه يتنفس بشكل طبيعي، أو يرفع يديه ملوحا لهم من خلف الزجاج، يبتسمون، ويعود إليهم الأمل من جديد. تقارير الأطباء تكون أحيانا مخيفة، لكنه يصمد. يستغربون كيف يملك كل هذه العزيمة. يفقدون الأمل في المساء. وعندما يستيقظ في الصباح، يتعجب الطبيب ، كيف يفتح عينيه، ويتحدث معه، ويكذّب تقاريره بشكل مُفاجئ.
رائحة المرض في قسم المستعجلات، تشبه رائحة الدواء. فريق من العاملين ينقل مريضا بسرعة إلى غرفة العمليات. وجوه شاحبة تُطلّ من بعض الغرف المفتوحة. لون المرض والموت في المصحة أبيض وأزرق كجدران مدينة شاطئية في يوم بارد بلا شمس ولا رائحة.
كل شيء يشبه السوق. كثرة المرضى المكدسين في الغرف، وكثرة الزوار في الممرات، والمرافق الإدارية.
كل النوافذ مغلقة . تكاد تخنقك الكمامة . تتلهى بقراءة بعض الملصقات. ملصق يطلب من الزوار إبداء ملاحظاتهم حول الخدمات التي تنهض بها المصحة، وتقديم اقتراحات. أغلب الملصقات التي تُغطّي الممرات، تتضمن بعض الإجراءات الاحترازية الخاصة بوباء كورونا. يثير انتباهك ملصق آخر، يحدد أوقات الزيارة بين الخامسة والسابعة مساء، ويدعو إلى احترام راحة المرضى.
لا أحد يحترم التوقيت. المرضى يُحبون رؤية الأهل ! والأهل يُحبون زيارة المرضى في أي وقت تسمح به ظروفهم. يُمكن أن يختلق الزائر ألف ذريعة ليدخل إلى المصحة. الزيارة في جناح العناية المركزة، تقتصر على النظر من خلف الزجاج. وعلى الزائر أن يلوح بيده. لا بد أن يبتسم، ويَظهر فرِحا من خلال ملامحه. المرضى في غرف الإنعاش ينظرون إلى وجوه الزوار، ويتحسسون مدى خطورة وضعهم الصحي. الوجه المبشور يمد بالطاقة، ويرفع المعنويات، مادام الطبيب المختص لا يُطلع المريض على أحواله بدقة. بعض الزوار لا يستطيعون إطالة النظر إلى المريض. قد ترتفع دقات قلوبهم ، وتزداد سرعتها. عليهم أن يتألموا بالتقسيط. السن والوضع الصحي لا يسمح للبعض بالتحمل. إذا لم يتحكم هذا البعض في مشاعره، قد يجد نفسه في أحد الأسرة المجاورة.
انتابك خوف فظيع، خشيت أن يتسرب إلى ملامحك. تألمت في صمت. تخيلت أنك أنت الذي يتمدد هناك. تبتسم وتوزّع نظرات الرجاء على الزوار، وتتمنى أن تعود لحالتك الطبيعية بسرعة، وتجلس مع أهلك وأصدقائك تشرب القهوة، وتستعيد الذكريات الجميلة. تلوح بيدك مودعا، موهما المريض بأنه يجب أن يرتاح، وتهرب في صمت حزين.
طيلة حياتك، وأنت تسُبّ المال وتلعنه! أنت لست قطا عندما يشعر بالجوع، ولا يجد قطعة من الرئة يعيبها، ويقول بأنها نتنة!
لكنك عندما دخلت المصحة هزمك المال. لو كنت تملك البعض منه لتبرعت به لزرع كلية، أو رئة، أو قلبا، لتنقد حياة إنسان عزيز، يتأرجح بين الحياة والموت.
وأنت عائد في المساء إلى البيت، بقيت كلمات الطبيب التي وردت في تقريره الشفوي تطن في أذنيك:
ـ نحن مثل رجال المطافئ. إذا تدخلنا في بداية الحريق، تمكنا من إطفائه. نصف القلب احترق. هناك دائما أمل، لكنه في هذه الحالة ضعيف. عضلات القلب ارتخت، ولم تعد تعمل، والدم لا يصل بانتظام إلى أسفل... الدواء والتنفس الاصطناعي وحدهما يعملان الآن مكان أعضاء أخرى. نحتاج بعض الوقت لإصدار تقييم نهائي. إذا استقرت الحالة يمكن أن نجري العملية. نحن نراقب الوضع وننتظر.
كلمات حادة مثل شفرة الحلاقة. الوقت يمر بطيئا، والقلق يرتفع. وعندما تنهض في وقت متأخر من الليل إلى الفراش، تبدأ الكوابيس ولا تنتهي إلا عندما تقفز مرتعبا. تشعر بالتعب ، تعود إلى الفراش، تسرق ساعة أو ساعتين. تستيقظ في الصباح . لم تنم جيدا . التوتر باد على ملامحك . لا شيء يسير كالمعتاد . مرة ذهبت إلى المصحة ممتطيا دراجة نارية، وقبل تركها عند الحارس، وضعت القفل في العجلة الخلفية وأغلقته ، ثم تذكرت أنك نسيت المفتاح في البيت! في اليوم الثاني تذكرت المفتاح، لكنك نسيت البطاقة الرمادية وبوليصة التأمين! حمدت الله وشكرته أنه لم يعترض سبيلك شرطي مرور ويوقفك ليسألك عن أوراق الدراجة! كل شيء يسير بشكل عكسي. حتى الهاتف الذي كنت تطرب لسماع رنينه أصبح يرعبك. عندما يرن يكاد قلبك ينخلع من مكانه.
تذكرت الأقرباء الذين رحلوا. رباه كم أنستك مشاغل الحياة استعادة صورهم. لا نتذكر أحبابنا الذين رحلوا إلا عندما نشعر بخطر الموت يقترب من أحدنا. نتأسف ونتخيل أنهم يسألون عن أحوالنا في صمت، وينصحون بأن نقف بجانب بعضنا البعض. لا أحد يعلم ماذا يفعلون تحت التراب! هل تصعد أرواحهم إلى السماء؟
سألت نفسك في صمت لماذا يدفن الناس أهلهم جنبا إلى جنب؟ هل يسألون من يرحل إلى العالم الآخر عن أحوالنا، ويروي لهم بالتفصيل ما صنعته الحياة بنا؟
الموت يمكن أن يأتي في أي لحظة. لا أحد يريده، ولا أحد يستطيع الهرب منه. لا تحب أن تموت مشلولا فوق سرير، أو تسقط مثل قط تحت عجلة سيارة أو شاحنة.
ـ لو كان الموت إنسانا يسمع، لطلبتَ منه أن يتركك تجلس لبعض الوقت على الأريكة، حتى تنتهي من تناول فنجان قهوة، وكتابة السطر الأخير من قصة ، ثم يأتي بعد ذلك على غفلة، ويأخذ الروح بسرعة، قبل أن تدخل إلى مستشفى أو مصحة، وتخرج من أحدهما جثة باردة.
ـ وهل يسمع الموت !
ـ لا أعرف أحدا تكلم مع الموت من قبل، واستجاب لرغبته.
ـ ربما يفعل ذلك مع الأنبياء.
ـ الأنبياء وحدهم يتبادلون الكلام مع السماء .
ـ القضاء المعاصر أيضا يسمح للمحكومين بالإعدام بالتعبير عن آخر طلباتهم، قبل شنقهم.
ـ وأنت لم تطلب أكثر من فنجان قهوة، ودقيقة واحدة لكتابة السطر الأخير!
ـ وهل تعتقد بأن الأمر سهل إلى هذه الدرجة؟!

مراكش 16 / 09 / 2021

تعليقات

الارواح المعذبة في حياتنا تستحق ان نتناولها في السرد القصصي ونوثق لغلاء المجتمع وهو يحتضر بين امام جشع قصاصيب الطب الذين خلت الرحمة من قلوبهم. قصة حكائية اشعر بواقعيتها لجمال الصياغة وتسلسل احداثها بحكبة قصصية جميلة.
 
أعلى