أمل الكردفاني - الساعة.. نص قصصي

المشهد:
رمال شاطئ بحر صفراء، ينفتح المشهد بثلثيه على المسطح البحري المتصل بالسماء. هناك صوت ريح باردة جافة.
يدخل شبه إنسان.. يرتدي قبعة غريبة طويلة ويحاول حمايتها من تطيير الريح لها فيمسكها بيده اليمنى.
شبه إنسان، أي شخص بلا ملامح.. وجهه ليس فيه سوى نقطتين سوداوين مكان عينيه. يده ليست من خمسة أصابع بل من أصبعين فقط. لكنه يرتدي ملابس بشرية، يرتدي معطف أزرق قديم ومهلهل وبه رقعة في الظهر، رقعة ظاهرة.. ينتعل حذاءً أسود لامع.
يتحرك من اليمين إلى اليسار ثم يقف في وسط المشهد فوق الرمل، ويعطنا ظهره.. يتأمل البحر والرياح ويده لا تزال تمسك بالقبعة السوداء. يمسك بياقة معطفه ويشدها إلى عنقه لتحجب عنه البرد بينما تظل يمناه ممسكة بالقبعة فوق رأسه المطاول. يباعد بين ساقيه ثم يهبط بركبتيه قليلا لأسفل. يعود فينصب قامته مجدداً ويضم ساقيه ثم يدخل يسراه داخل جيب معطفه. يبقى كذلك لبرهة ثم يجلس على الأرض، يمدد جسده بالكامل على الرمل.. ويغطي وجهه بالقبعة.. يستمر صوت الريح ويزداد.. فيتكور الكائن حول نفسه ليدفئ جسده. يظل كذلك، ثم يرتجف جسده بشدة. ينهض بسرعة ويسير وهو يثني ركبتيه ويتشبث بقبعته. يتحدث إلى نفسه بصوت مرتعش.
- أحتاج لساعة.. ساعة حائطية.. نعم..
يظل يعطينا ظهره وهو يتحرك ثانياً ركبتيه ومنفرج الساقين، يميناً ويساراً.
- أحتاج لساعة.. فالمشهد لا يتغير.. لا يتغير أبداً..
يتوقف.. يقبض على ياقة معطفه:
- بررررد..
يجثو على ركبتيه:
- آه.. هناك ضوء شاحب.. ضوء أزلي.. ضوء بلا مصدر.. من أين يأتي هذا الضوء.. ما مصدره؟ ولماذا لا يتحرك البحر رغم الرياح الشديدة.. ومن أين تأتي الريح رغم كل ذلك..
يمدد جسده ويتكور على نفسه:
- أحتاج لساعة.. أح..أح.. أحتاج لساعة.. ساعة حائط.. ولكن.. أين أعلقها؟.. في الهواء؟ نعم.. في الهواء... لا مكان سوى الهواء..
ينهض وينصب قامته ثم يقفز عدة قفزات:
- سأشعر بالدفء..
يتوقف:
- إذا حصلت على الساعة سأعرف الزمن.. وسأعرف المكان..
يشد ياقة معطفه:
- المكان؟!.. هة.. لا.. لن أعرف المكان.. لكن.. إذا كنت لن أعرف المكان.. فما الفائدة من الساعة.. في كل الأحوال أحتاج لساعة.. ساعة حائط.. نعم..
يجلس على الأرض مقرفصاً..يمسك بقبعته بيده اليسرى ويريض اليد اليمنى:
- تعبت من الإمساك بالقبعة.. عضلات ذراعي اليمنى تؤلمني.. لذلك لا بد من ساعة.. أحتاج لساعة.. ساعة حائط.. هذه مسألة لا يمكن فهمها.. لا يمكن فهمها أبداً.. هذا الكون فسيح أم ضيق؟ تام أم ناقص.. محدود أم لا نهائي.. إن كل شيء غامض..
يفرد أصبعي يده اليمنى ويقلب كفه متطلعا إلى الأصبعين..
- أين المخالب.. من المفترض أن يكون هناك مخلب واحد على الأقل.. مخلب واحدة.. ما فائدة المخالب؟ إن خيالي عظيم.. عظيم جداً.. أحتاج لمخلبين على الأقل..
ينسى ويدخل يديه في جيبي معطفه فتطير القبعة ويظهر رأسه من الخلف أصلعاً ويبرز منه غصن فوقه زهرة..
يلاحق القبعة لكنها تتطاير هنا وهناك ثم أخيراً يتمكن من الإمساك بها..
- آه.. لذلك قلت بأنني.. آه.. من أين تأتِني هذه الأفكار.. أنا.. أنا وجدت نفسي هنا.. فمن أين تأتني هذه الأفكار والخيالات.. ما هي الساعة أساساً.. ثم.. ثم من ألبسني هذه الأشياء.. كيف جئت إلى هنا.. وأين كنت قبل أن أجيئ.. وإلى أين سأذهب؟ هل سأذهب؟ شيء غريب؟ لا أعرف كم مضى عليَّ من الوقت.. الوقت؟ ما هو الوقت؟.. ثم أنني لم أحاول أبداً أن ألمس هذا السائل الأزرق.. لماذا لا أحاول.. لماذا؟ هل هو شيء سيصيبني بالضرر... أخشى أن أفقد معطفي وقبعتي.. معطفي أهم من قبعتي.. ولكن.. ربما قبعتي أهم من معطفي.. ولكن.. من أين يأتِني هذا الخيال؟
يمدد جسده على الأرض ويغطي وجهه بالقبعة..
- ما هذا الشيء الذي في رأسي.. شيء غير مفيد أبداً..
يتحسس الغصن والزهرة..
- لا شيء مفيد..
يستمر صوت صفير الريح، ولكن لا توجد أصوات أمواج..
- سأخلع معطفي..
يخلع معطفه..
- سأخلع كل ملابسي
يبدأ في خلع كل ملابسه وهو يعظي ظهره للمشهد، يظهر شوك كبير فوق سلسلته الفقارية...
يخلع حذاءه فتبدو قدمه بأصبعين فقط..
يُجَنِّح بذراعيه.. ثم يتنسم الهواء:
- هواء بارد.. بارد.. منعش.. منعش..
يجلس ويضم ركبتيه إلى صدره:
- إنني لا أشعر بالخوف ولا السعادة.. هل هذا جيد؟
يقف ويحاول الطيران دون جدوى..
- لكن ما معنى كل هذا؟
يتعب ويتمدد مضطجعاً على جنبه الأيسر وظهره للمشهد..
- إنني أتأمل هذا المشهد منذ سنوات.. ولا جديد فيه.. ألا توجد كائنات أخرى.. ليس خلفي شيء سوى.. سوى ماذا.. هل هما عينان تراقبانني؟.. من هذا الذي يراقبني؟ ولماذا؟.. أبدو كشيء ما؟.. ك.. ك.. ك.. ربما .. ربما كنص؟! من أين تاتني هذه الجمل والمفردات؟ كيف ومتى اكتسبتها؟ المسألة تحتاج لضابط خارجي؟ ساعة.. ربما ساعة..نعم ساعة.. ساعة حائطية... لدي ارتباط ما بالساعة كارتباط صيصان السلاحف بالبحر.. ذلك الرابط الخفي بين شيئين أو أكثر...
يتكور على نفسه:
- برررد..
يرتعش صوته:
- لكن شيء خير من لا شيء.. خير من لا شيء.. لا شيء.. شيء...
يمضي بعض الوقت وهو يرتعش.. ثم ينفخ من خديه ويقفز ليمارس لعبة الضغط.. مرة..مرتان..ثلاث..أربع.. يرتمي على بطنه لاهثاً:
- شخت.. هرمت.. كبرت.. هكذا بدون ساعة.. ماذا لو كانت هنالك ساعة؟.. قد لا أكون هرمت ولا كبرت.. كيف أعرف وانا بلا ساعة.. بالإحساس فقط؟!.. فقط؟!.. يبدو ذلك متهافتاً.. يبدو ذلك كئيباً..
يمد يده ويتحسس الزهرة النابتة في رأسه من الخلف..
- ما هذا الشيء؟ هل.. هل هي أصابع زائدة؟.. وما فائدتها.. ما هذا..
يرتفع صوت الريح..
- أريد صراعاً.. صراعاً.. دماءً..موتاً.. حزناً.. أريد ذلك لان في كل ذلك تكمن الحياة.. أما هنا.. فلا شيء.. ليس سوى الزرقة ترف على سطح السائل الأزرق.. وهذا الضوء الشاحب.. البارد.. الكئيب.. هل أنا حزين.. ولماذا أنا حزين.. لا أعرف.. أحتاج شخصاً يكون معي حتى لو كان عدواً..
يتحسس الزهرة..
- ما هذا الشيء..؟ ماذا لو اقتلعته من جمجمتي؟ ساحاول..
يقبض بقوة على الغصن ويبدأ في شده ثم يصرخ:
- آآآآه..كم هذا مؤلم..
يتوقف، ثم يعود فيقبض على الغصن ويبدأ في شده:
- ولكن جيد.. كم كنت احتاج لهذا الألم..
يقتلع الغصن بزهرته فيصرخ بقوة.. ثم يبكي.. يظل كذلك دون أن يلقي نظرة على الغصن.. بعدها يفعل:
- آه.. كم هذا غريب؟ ما هذا الشيء العجيب..
يرتعش الغصن في يده فيلقيه بعيداً.. يلقيه بحيث يخرج عن إطار المشهد ويظل يراقبه بخوف:
- ما هذا.. إنه..إنه يكبر.. ينتفخ.. ما هذا؟!!! إنه يتشكل.. يتشكل.. أكائن.. أكائن آخر هو؟!! ما هذه المصيبة.سيدمر وحدتي.. سينتهك عزلتي..
يتراجع إلى الخلف وهو يحبو..
- ولكن..ولكنه كائن جمييييل.. جميل جداً..
يظل يراقب بدهشة.. يحبو ببطء نحو الإطار.. يمد يده وصباعه مفرود.. يبرز صباع آخر من الإطار.. يقترب الصباعان والكائن مندهش.. يتلامس الصباعان..
- هة؟!!!
تند آهة من فم الكائن..
- ربااااااه.. الساعة..

(النهاية)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى