أمل الكردفاني - ياسمينة تحت الهجير.. قصة

تستقيم الساق حاملة نورتها الوحيدة التي تعلو متوجة بمراوحها الصفراء. تهتز قليلاً حين تعبرها ريح جافة من بين ثلمات الخيوط الشمسية.
- لم أشاهد البحر الأبيض المتوسط من قبل، لكنني نقلت كل شيء إلى هنا. تقول وتضيف: لم يتبق لي إلا أسماكه.
وتداعب زهرة الياسمين الوحيدة المتبقية في هذا الموسم..
- هل تحب الهدوء؟
تظلل عينيها بكفها وتتسع ابتسامتها البيضاء.
- استنشق الياسمين قبل النوم لتحصل على نوم هادئ ورائع.
ركعت أمامها وأمسكت بيدها التي تداعب الياسمينة الصفراء:
- هل يمكنني العبور بدونك؟
- إنها مقطوعة جميلة..
وامتدت بين عينينا حِقب.
...
"لن تحمل الأصيص في كل مكان هكذا؟ إنك تبدو مضحكاً".. يقولون ذلك ولكن.. من يبالي.
- إنها أغنية وليست مقطوعة..
كدت أن أخبرها بذلك، لكنني فضلت الصمت، ومن يبالي، هبطت وأنا أستدعي كلماتها في ذهني. الألحان في الذهن تتدفق بسلاسة، والأرض الحجرية الصماء تنحدر متدفقة من الزقاق الصغير نحو الكورنيش.
- جئت إلى هنا خصيصاً من أجل ذلك..
- من أجل ماذا؟
- أن أرى مدن البحر الأبيض الساحلية.. وأشم رائحة الياسمين..
- إنك لم تعاني أبداً من الشعور بعدم التكيف؟
قالت ذلك بعينين مكتئبتين، وجزعتُ أنا حين حامت برأسي فكرة كونها مجرد بديل لعشق قديم. كانت تبدو ككبش فداء، حتى وهي ترمق الأصيص الذي تنبت فيه زهرة الياسمين الوحيدة. لم تسألني أبداً عن ذلك. ولم أدرك إن كان ذلك منها عدم اكتراث أم خوف من إعلان صريح يهدُّ صرحاً تجاهد لتبنيه في قلبي.
- سأزرعها في الشرفة.
قلت، فلم تجب.
كان المقهى حاراً، وقد غمرت أشعة الصيف زجاجه، وكذلك رائحة السمك. قال صاحبه الذي يرتدي طربوشاً مخروطياً كبدي اللون:
- إلى حين إصلاح الكهرباء ستحصلون على فيتامين دي بكثرة.
دخنت هي سجارتها، وافترقنا بعدها.
يجب أن تكون تربة الأصيص محتفظة برطوبتها دائماً لذلك سكبت بقايا كوب مائها عليه. ومضيت.
...
لا يمكنه أن يقتل حشرة. قالوا ذلك حين وجدوا جثة الرجل ملقاة في السلم الخلفي الحديدي.
أجمع السكان على ذلك، ووصفوني لرجال البوليس:
"إنه يحمل أصيص الياسمينة دائماً معه ككلب أليف".
وقرأت في الصحيفة: "عشيقة المتهم تؤكد بأنه لا يستطيع إيذاء نبتته التي تلازمه ويلازمها".
لقد نجوت من الإعدام بسبب أصيص الياسمينة..
لكنني قتله بالفعل.
....
وفي مثلث يقرن بين شارعين وضعت أصيص الياسمينة وجلست أتلقى الصدقات. أعطوني كلهم، لكنهم أعطوني من أجل الياسمينة لا من أجلي.
....
كانت تلك ليلة ماطرة، حين أحكمتُ ربط الكيس البلاستيكي الأسود حول جسدها. ثم كومتها في الدولاب الخلفي للسيارة. كانت جثتها بلا دماء، غير أن وجهها كان مزرقاً وشفتاها كانتا جافتين ومبيضتين.
المطر ينهمر فوق الزجاج، والمساحات تعزف إيقاعاً لطيفاً مع صوت المطر.
في مصنع الصهر وضعت جثتها في الفرن.. ثم قدحت الشُعل الحارقة وأغلقت الباب.
....
- هل تحبين تلك المقطوعة؟
تهز رأسها:
- دائما تسألني هذا السؤال؟
- لأنني دائماً أبحث عن إجابته؟
- ألا أجيبك؟
- لا..
تسحب كفها عن كفي بنعومة متعمدة، وتنهض لتتركني مع زهرة الياسمين.أسألها بيأس:
- غداً؟
- ستحضر؟
لا تنتظر إجابتي بل تمضي ورأسها مطأطأ، لأبقى أراقبها وأراقب زينة العرس التي نصبت حول جدران المنزل.
....

لا أحب تذكر ذلك المشهد.. ليس لأنها لفظت أنفاسها فيه ولكن لأنها قاومت كل عاطفة داخلي تجاهها.. لا زلت أتذكر نظراتها التجريمية حين رأتني أدخل وراءها إلى المنزل.
- ماذا تريد؟
كانت تلك هي الجملة التي حسمت كل شيء..
- هل يمكنني العبور بدونك؟
....

نمت الياسمينة فوق رماد رفاتها.. نمت برائحة أقوى من رائحة الياسمين المعهودة..أقوى من عطر أي ياسمينة شممتها من قبل.

(تمت)
  • Like
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى