أمل الكردفاني - قبل النهاية.. قصة

كانت السماء مظلمة كعادتها، منذ أن اختفت الشمس بعد أن تراجعت الأرض إلى الخلف أكثر مما يجب. صارت الأرض باردة، وتعبرها أطياف ضوئية ملونة على نحو متقطع.
هكذا قبعت أدخن بصمت..
- منذ متى لم أعشق؟
سألت نفسي وكان المقهى فقيراً من الزبائن.. بضعة أشخاص (رجال) يتوزعون هنا وهناك. والنادلة تجلس بعيداً. يتم توزيع ضوء الشمس الصناعية ثلاثة أيام لكل إقليم من أقاليم العالم المتبقية. هناك أقاليم تحصل على أربعة أيام من بزوغ الشمس فوق سمائهم. أما نحن كإقليم مهمش فلم ينل سوى ثلاثة أيام خلال الشهر..وكان هذا كافياً لنبقى في رمق الحياة.
- منذ متى لم أعشق؟
سالت نفسي وأنا أدخن.. ويبدو أنه سؤال ترفي في عالم مقبور في الظلمة.
قال أحد الرجال:
- أسعار الجعة ارتفعت بشكل غير معقول.
أضاف آخر:
- لم تعد هناك جعة في هذا الإقليم.
لم تهتم النادلة بسماع أحاديث الزبائن. وكان موضوع الجعة مملاً. مع ذلك رد رجل آخر:
- ستجدها رخيصة في الإقليم الأول.
- يسرقون عنب الأقاليم الأخرى..
قلت:
- لا يوجد عنب.. إنهم يصنعونها من الجثث..
- فائدة برضو..
قلت:
- نعم خير من ذرها بالطيف.. سأتبرع بجثتي لصناعة كوب جعة لك..
قهقه وقال:
- سأصاب بالتسمم فأنت تدخن هذا العشب بكثرة..
سألته:
- متى آخر مرة عشقت فيها؟
صمت قليلاً وبدا حائراً، ثم أجاب بتردد:
- تقصد امراة؟
- امراة أو غلاماً أو كلباً.. أيا كان؟
أجاب:
- منذ توفيت زوجتي في الموجة الأولى لم أفكر في ذلك..
- هل كنت تعشقها؟
انتبه الثلاثة الباقون وهم في انتظار إجابته، لكنه قهقه وقال:
- أحببتها بعد مضي السنوات.. مجرد أُلفة..
- وهي؟
- كانت تكرهني..
ثم نهض ودفع الثمن وغادر المقهى.
في السابق كان الناس يتحدثون كثيراً، أكثر مما يفعلون؟ لكنهم بعد الكارثة الكونية لم يعودوا يتحدثون ولا يفعلون. لقد ثبت أن كل ماضي البشر بني على وهم كبير. ساد القنوط الأرض.
همس أحد الرجال:
- دقائق وتبزغ الشمس الصناعية.. أود أن أشاهدها..
خرجنا جميعا وبقيت النادلة. وقفنا في الشارع نحدق في السماء المظلمة. ثم بدأت الشمس الصناعية ترتفع..اختفت النجوم والظلمة بسرعة وحل شعاع الشمس.
قال الرجل الذي تكرهه زوجته:
- الأجيال القادمة لن تعرف ضوء الشمس الحقيقية.. ستشاهد هذا الضوء الباهت والخيوط الضوئية التي تهبط إلى الأرض بشكل حلزوني قبيح.. آه..
ظلت الشمس تتحرك من الشمال إلى الجنوب بسرعة ثم توقفت لتظل قابعة في مكانها لثلاثة أيام أخرى قبل أن تختفي وتعاود الظهور بعد شهر.
عدنا إلى المقهى وعندما دخلنا وجدنا النادلة في مكانها. نظرت إلى وجوهنا وقالت ضاحكة:
- لماذا تتمسكون بكل الأوهام.. ألم يكفكم ما حدث؟
توزعنا في مقاعدنا ذاتها وكأنها مسجلة بأسمائنا.
قالت:
- نعم.. حتى مقاعدكم القديمة.. يبدو أنكم لم تتعلموا شيئاً..
ثم وقفت وقالت:
- لدى زجاجة جعة.. من يريد؟
نظرنا إلى بعضنا البعض، وترقرقت أعيننا بالدموع. ثم انطلقنا في بكاء جماعي.. وكانت النادلة تبكي أيضاً..

(النهاية)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى