أمل الكردفاني- أحلام مؤجلة دائماً- قصة

المرأة تندب وتنوح على خرف زوجها في سنوات عمره الأخيرة. هكذا تظل تعتقد دائماً أنه موشك على الموت لكنه لا يموت وتظل هي تُرحِّل خوفها من موته عند بداية كل عام. لكنها تدعو عليه بالموت لأنها تعبت من تصرفاته الخرفة. لقد أرسل داعياً صاحب الكشك وأخبره بأنه يرغب في بيع كرسيه المتحرك. غير أن الزوجة نحت بصاحب الكشك جانباً وأخبرته بأن زوجها أصبح فاقداً لأهلية التصرف. ثم عادت إلى العجوز وهي تصيح:
- ستقتلني قبل أن تموت يا رجل.. إذا بعت كرسيك فمن سيحملك من سريرك إلى الحمام؟ أنا؟ وهل أنا صغيرة لأتحمل ذلك؟ ألا تفكر إلا في نفسك؟.
كان وجهه يمتقع وتكفهر ملامحه كاظماً سخطه دون أن ينطق.
- لماذا لا تنطق.. ماذا تريد مني.. ضحيت بشبابي من أجلك وأنا في فقر مدقع..عانيت وعانيت وأنت تجهض أحلامي بحياة ملؤها الرفاهية.. لا طباخة ولا غسالة ولا خادمة.. لا شيء.. أعيش معك على حد الكفاف.. والآن قبل أن تموت تريد تعذيبي.. تريدني أن أحملك من سريرك إلى الحمام ومن الحمام إلى عيادة الطبيب.. هل أنت مجنون؟..
يكظم العجوز غيظه، ويدفع عجلات الكرسي بعنف حتى يبلغ أطراف السرير، فيحمل جسده العلوي ويطرحه على السرير بتعب، ثم يلف الملاءة حول جسده وينكفئ على جنبه دون أن يغمض له جفن.
تخرج المرأة في الصباح وتتركه نائماً. الغبار يعفر قدميها وهي تعتلي الحافلة إلى منزل ابنتهما الوحيدة، فتشتكي وهي تبكي. لكنها في الحقيقة ترغب في أن تجعل من دموعها سبباً لعودة ابنتها إلى المنزل لتقضي معهما بضعة أيام. غير أن الابنة تخبر أمها بسفرها العاجل مع زوجها للوضع في الولايات المتحدة الأمريكية حتى ينال ابنها الجنسية الأمريكية وهكذا يضمن مستقبله. تفزع الأم وتسألها:
- ومن سيعتني بك هناك؟
لكنها لا تنتظر الإجابة إذ تتذكر زوجها الراقد وحده في سريره، فتهرع إلى المواصلات وهي تحمل بقايا طعام له من منزل ابنتها. وما أن تدلف من باب منزلها حتى تشتم رائحة عفنة. فتهرع إلى حيث يرقد الزوج الكسيح. تغسله وتلبسه رداءً جديداً، وتعطره وهي تقول:
- ماذا لو جاء أحد وأنت في هذا الحال..
فيشعر بالغيظ:
- لماذا تلومينني يا حفية؟ ألا تعلمين أن هذا ليس بإرادتي.. أنك تذليني كلما فعلتِ لي شيئاً.. وإذا كان مقابل ما تفعلينه هو إذلالي فأنا ارفضه..
فتزيد شعوره بالعجز:
- وماذا ستفعل؟ هل ستستطيع العيش وحدك؟..
يصيح:
- سأذهب لدار العجزة.. ما كنت لتجرؤي على إذلالي أيام شبابي..
يبعد يدها عن فخذه النحيل حين تحاول تغطيته:
- اغربي عني..
يحرك كرسيه ويتجه إلى باب الشارع وبصعوبة يحاول تجاوز العتبة، ثم ينادي على الشاب الذي يبيع في الكشك:
- اذهب ونادي لي شيخ الكارس..
غير أن الشاب يقول:
- لا استطيع ترك الكشك..
يصر العجوز فلا يجد الشاب بداً من ذلك..وحين يلتقي العجوز بشيخ الكارس يطلب منه البحث له عن ملجأ للعجزة لأنه سئم إذلال زوجته له، غير أن شيخ الكارس يحاول تهدأته:
- استهدِ بالله يا حاج.. حفية امرأة طيبة..
وكالعادة يمتقع وجه العجوز ويصيح:
- اسمع يا شيخ الكارس..إما أن تخدمني في هذا الأمر او ترفض.. لقد فكرت ملياً وحسمت أمري..
يقول الكارس:
- ولكن ملاجئ الحكومة سيئة الخدمة..
- ليس أسوأ من هذا الأذلال اليومي..فليذلني الغريب الذي لا يعرفني هذا أفضل لي..
تمد المرأة رأسها من باب الشارع ثم تتجه نحو الرجلين وتصيح:
- يا شيخ الكارس.. هذا الرجل فاقد للأهلية.. يريد بيع كرسيه المتحرك.. أليس هذا جنوناً؟..
غير أن العجوز يصيح:
- حفية.. هل بلغت بك الجرأة هذا الحد..
ثم يلتفت إلى شيخ الكارس:
- غدا نذهب إلى الملجأ.. كلم ابنك ليقلني إليه..
ينهض شيخ الكارس ويغادر آسفاً.. أما حفية فتنزوي في ركن مظلم من المنزل وتظل تبكي.
في الصباح ركب العجوز مع ابن شيخ الكارس واتجها إلى الملجأ.. تم الاتفاق بسرعة وكان الملجأ مجموعة من الغرف بكل غرفة سريران. سأل العجوز المرأة العاملة فيه:
- هل هناك كرسي متحرك عندكم؟
فهزت المرأة رأسها ايجاباً.. حينها قال لابن الكارس:
- غداً اذهب وبع الكرسي المتحرك الذي أملكه.. إنه في االواقع الشيء الوحيد الذي تبقى لي في الحياة.. بعد ذلك ستذهب إلى سوق المدينة.. على الناصية الشرقية من شارع المكانس ستجد محلاً صغيراً..
هز الشاب رأسه وقال:
- نعم اعرفه.. إنه محل لبيع اسماك الزينة..
قال العجوز:
- بالضبط.. اشتر لي حوضاً متوسطاً وسبع عشرة سمكة ملونة وكمية من طعام الأسماك.. يجب أن تتأكد من أن آلة ضخ الأوكسجين تعمل ولا تعطب بسرعة..
ثم قال بتذلل:
- أرجوك غادر الآن..
غادر الشاب ولا تزال الدهشة مرتسمة في ملامحه. أما العجوز فكان يدرك بأن الشاب إن لم يغادر فقد يتراجع هو عن قراره .. هذا القرار الذي أجله منذ سبعين عاماً..

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى