علي البدر - "ستوتة.. ستوتة".. قصة قصيرة

ولم أعتد بقائي تحت الشمس المحرقة لساعات كل يوم متنقلًا بين السيارات، متوسلًا وعلامات اليأس والذل مرسومةً على وجهي. يائسًا أرجع لبيتي أحيانًا وفرحًا مهرولًا تارة اخرى وأنا أطوق بذراعي أمي واضع خدي على صدرها لأشعر بأمان ضاع مني وسط الزحام، لكن الذلَّ الذي يلازمني يأبى أن يزولَ او على الأقل أنساه ولو لحظات..
وكانت فرحتي لاتوصف، واستغرابي قد بلغ مداه عندما سحبتني من يدي مبتسمةً ثم همت بفك عقدةِ فوطتها السوداء لتفاجئني برزمة نقودٍ أدهشتني.
- خذ يا ولدي الوحيد وحقق حلم حياتك. إمرأة متوسطة العمر بدت عليها علاماتُ النعمة، سلمتني هذا المبلغ ورفضت التعريف بإسمها. ابتسمت وهي تتفحص جدران الغرفة وسقفها والأغراض المتناثرة ثم قبلت أخواتك الثلاثة وتقدمت نحوي باكيه تمسح دموعها وغادرت مودعة. لن ترى الذل بعد اليوم وانت تتوسل بالمارة وتأمل نسمة هواء بارد من سيارة وسط الزحام.
وقد تفاجأ اصدقائي عندما اكتشفوا مهارتي التي اكتسبتها بوقت قصير وانا أتخطف بين السيارات والعربات والمارة حاملًا الركاب والبضائع ومختلف الحاجات، لكن حدثًا أيقظني وهزني بقوة، غيَّر مسيرة حياتي، عندما وجدته مقبلًا نحوي مهنئًا، يمسح عينيه تارة ويفركها تارة أخرى وعلامات الحماس بدت واضحةً عليه.
- مباركٌ لك هذه الستوتة الحمراء!
- أشكرك..عيناك.. مابهما يا "أحمد"؟ حمراء. لابد ان تراجع الطبيب.
- اشتريت قطرة ومرهم من الصيدلية والآن في تحسن. ياويلتي. حرقة شديدة ودموع تنهمر وانقطاع نفس وبت على وشك الموت وأنت....
- أنا!
- في حضن أمك مرتاحٌ ونحن نصرخ ليلًا ونهارًا ولا أحد يسمعنا.
- الان فهممت. ولكن..لا أحب رمي الشرطة بالحجر كما تفعلون ولا بالزجاجات الحارقة. أنا انسان مسالم لا أحب القتل والعداوات. فتحت عيني وانا في بيت من الصفيح. بركة آسنة شتاء وجحيم قاتل صيفا. اتنقل بين الشوارع بائعا الماء والنفاخات أو السكائر والمناديل الورقية وغيرها. تركت مدرستي والمعلمين واصدقائي لأجد نفسي تائهًا بالشوارع من أجل لقمة خبز وغطاء يسترنا.
- كل ما تقوله صحيح لكنك عندما تأتي معنا ستفهم أكثر يا "شاكر". ياصديق العمر وأخي الغالي.
ساحة واسعة تتوسط شوارع متفرعة نصبت على جانبيها خيمٌ وعُلَقت شعاراتٌ مختلفةٌ تطالب بالتعيين وبزيادة الرواتب وقطع يد من نهب البلاد وزاد من فقر الكثير من ابنائها. رسوم هنا وهناك. وجدت نفسي في عالم آخر لم أألفه. عالم منحني الاطمئنان وأزال عني الخوف والريبة والتوجس، لكن أحد الشباب دخل بيننا واشار بيديه وبدا وكأنه يعرفنا، وبلحظات أصبح كلُّ شيء مختلفًا. حجار يُقذف من أيدٍ غاضبةٍ، ودخان يتصاعد مع دوي انفجاراتٍ تنتهي بكتل من الدخان الذي يحرق عيوننا ويكتم أنفاسنا ويجعل الدموع تنهمر بلا توقف.
إصابات هنا واختناقات هناك. بعض الشباب حمل احد المصابين بالستوتة مسرعًا الى المستشفي. مرت ساعاتُ الليل ثقيلة. لم افكر بأمي التي تنتظرني. كل همي أن أوصل الجريح الى المستشفى باقصى سرعة حيث ينفتح لي الطريق وانا اتخطف بين المتظاهرين بكل خفة ومهارة . هبَّ الشباب نحونا ونقلوا الجريح وانا اتفحص الذين احاطوني واسمعوني عبارت المديح والثناء حيث بدا وكأن بركانا تأجج في اعماقي. واستمرت محاولاتي لعدة مرات وأنا بين الم وغبطة. شاب في الثلاثين صعد فجأة ومن دون كلام مد ذراعه نحوي .
- إفتح يديك يا سبع..
- أتمزح معي؟ من أنت؟
- عراقي مثلك. أسعى للتغيير وايجاد وطن.
- أنت يا أخي في اشرف بقعة الآن، في أشرف وطن. تعودَت أرضها على شرب الدماء.
- خذ إذن. ها أنا افتح لك يدي!
- ما هذا؟ ورقتان؟
- تجدها قليلة. خذ. هذه ثلاثة. نقلتَ ثلاثةَ جرحى واثنين على وشك الموت. ستحصل على المزيد. لا تقلق. ستشتري بدل الستوته سيارةً راقية في يوم قريب..
- إسحب يدك أرجوك. أجرٌ لإنقاذ جريح من الموت! قل لي .. من أنت؟ ومن أين لك هذه الرزمة؟ ولماذا هذه العملة التي قتلَنا اصحابُها ودمروا حياتنا وسرقوا شبابنا وغيروا افكار الكثيرين منهم؟
نظر اليَّ باستغراب ثم ابتسم ودسها بجيبي وغادر مسرعا حيث اختفى وسط الظلام. حاولت تتبعه لكنه ذاب بين الزحام والصخب. أغلقتُ باب الستوتة. تحسست ما دسه في جيبي. تذكرت أمي وعلبة الدواء التي لابد ان اشتريها غدا. ياترى.. من يكون؟ تساؤلات لم تغادرني وانا اتجول بين الخيم حيث ساد هدوء مشوب بتوقعات يبدو ان المتواجدين قد اعتادوا عليها. خيمة مُلئت بصور معلقة وشعارات تدعو للثورة وبعض رموزها يسرقوننا ويهرِّبوا نفطنا. حلقة بشرية هناك وجدال بين الجد والهزل. في الجانب الأيسر، خيمة تجمع داخلها بعض الشباب و الرجال وراحوا يتناقشون بضرورة الحياة الكريمة والوطن الحر الذي لابد ان يكون سعيدا. كلامٌ لم اسمعه من قبل، منحني الهدوء والثقة بالنفس والرغبة بالمواصلة. إحساس ورغبة في النوم. الصبح بات قريبًا. جملة يبدو انها آخر ماسمعت، عندما شعرتُ بغطاءٍ خفيفٍ يلفني. فتحت عيني. ابتسم في وجهي وردد ثلاث مرات. لابد ان يكونَ الوطنُ سعيدًا..لابد ان يكون الوطنُ سعيدًا. لقد ابدعتَ اليوم يا صديقي. أجل.. لابد أن يكون الوطن سعيدًا..."

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى