ثروت عبدالهادي علي - أَشْبَاحُ بَارْكَةِ*.. قصة قصيرة

هيا إستيقظ، كيف لك أن تنام حتى السادسة مساء، إنه خريف أسمرا البارد، لقد أعددت لك آخر عشاء قد تجد فيه لحماَ، وأنفقت راتبي الشهري كله في هذه الوجبة!.
لا تُظهر مشاعر الضعف، يجدر بك الآن أن تدخِّر هذه الدموع حتى الصباح.
أعلم أن هذا صعبٌ جداً عليك؛ أن تتركني، وأن تترك أخاك الأكبر الذي لم تره منذ أكثر من عشرةِ أعوام، ستكون هذه ديمومتك.
هيا بنا لأصطحبك في جولة بسيطة في هذه المدينة البائسة؛ فمنذ صغري وهي كما هي، مدينة وجدت في خرائط القلوب لكي تُحبها وتتعلق بكل ما يخصها: هواؤها، وماؤها غير النقي النازل من على أسطح مبانيها بعد هطول المطر، وأشجارها البهية، وسكانها الخالدون، فهم يورِّثون الذكريات فقط!.
أذكر جيداَ قصص أمي عن هجرة جدي من (روره حباب) إلى قرية (أربعتي أسمرا)، نعم إنها كانت أربع قرى صغيرة متقاربة، أسسها الإيطاليّون وأورثوها إلى الإنجليز، وجاء بعدهم الأثيوبيون، حتى استعدنا أسمرا كما تسلمناها من الإيطاليين، بعد أن شاخت وأضحت كما الأمهات هنا بوجوه شاحبة، وبشرة نضرة تستمد نضارتها من ربيع أسمرا الدائم، وأضحت مدينة أشباح.
هيا بنا في آخر جولة، سنذهب إلى باحة كنيسة (إندا ماريام)، ومن ثم سنلقي تحية الوداع على بعض الأشباح.. لا تنظر إليّ ولا تتعجب من كلمة أشباح! فقط تفحص الوجوه برويّة، واستمع إلى أصوات الشهيق المتسارع، ستشعر ببعض الاضطرابات، تمنيت لو لم أعد إلى هنا، كم كنت أخاف من تلك اللحظة!.
لوهلة لم أكن أشعر بأي شيء، اعتدت على تدفق الأندروفين حتى الألم، تمنيت أن أمر بهذا الشعور البغيض.. لكن اعتدت هذه الحالة.
تجاوز هذا الصوت، أعلم جيداً ما يدور في خلدك، لا تظهر لي هذه الابتسامة لتغطي بها مشاعر الحزن، دع الأدرينالين يتدفق كما هو.
سنذهب الآن إلى ضاحية (غزابرهانو)، قد تشاهد بعضاً من المتعة الرخيصة، لا تفرح فلن تفرِّج عن همك، أنصت إلى هذه النكات البذيئة، كم اشتقت إلى ابتسامتك فعلياً، كدت أنسى ابتسامتك الجميلة.
أنزل القبعة ودع البرد ينهش رأسك الصحراوي، هيا بنا إلى قلب المدينة ستجد أمثالك الكثير، لا أريد أن أكذب عليك كثيراً، ستتغير مفاهيمك بالكامل ولا أستطيع أن أجزم لك أن المفاهيم الجديدة ستعجبك.
انظر إلى هؤلاء.. لا تفزع، إنهم مثلك تماماً، الفرق بسيط بينك وبينهم، إنهم يفضلون حالة الفنتازيا وملاحقة أمثالي.
لا تخف عليّ؛ فأغلبهم يعرفونني حق المعرفة، لا أحتاج إلى الهرب أو إبراز بطاقة الإعفاء.. لي مواقف كثيرة جداَ معهم، منها الصالح ومنها الطالح، سأقص عليك إحدى المواقف ريثما تقبِّل سيجارتك.. بعد أن هربت من المدرسة وظللت مجرد مراهق فاشل أمضى ثلاث سنوات في كل عام دراسي، قررت الهرب من البلاد، وبينما أنا في طريقي للهروب، صدمت بخبر وفاة أمي، لم أشعر حينها سوى بالبرد الشديد ينهش لحمي، عظمي يتآكل كتآكل الجيفة في الأدغال، أظافري بيضاء ينسحبُ منها الدم شيئاَ فشيئاَ، قلبي ينكمش، أضحى ينافس سرعة الضوء المتقلص في التلاشي، وتيارات الهواء القوية التي تمر، أخذت الكثير من الألم، لبرهة قررت العودة، لكن سرعان تلاشت هذه الفكرة.
كان وداعي لأمي وداع تتبادله القلوب فقط، فهنا منذ القدم الوداع بمختلف الطرق كان ليَتم، كنت محطم الفؤاد، جسدي يود المغادرة وقلبي يرفض الفراق، كان بيني وبين الخروج ساعات قليلة، كنت أشعر بالاختناق، لا أستطيع التنفس، قررت لأول مرة في حياتي الخروج إلى الحانة، أخترق عالم الحانات وأغوص في براثينها، ذلك العالم الذي أمقته وأخاف منه، رائحة البيرة الرخيصة تملأ المكان، موسيقى صاخبة تدوي، ليس لها لحن ولا إيقاع، لكنها تطرب كل من هم في الحانة، العري كما لم أشاهده من قبل سوى في أيام الطفولة، حينما كنت أتسلل إلى نافذة الصالون الذي يطل على زوجة جارنا وهي تستحم، هي أول جسد عارٍ عرفته بعد جسدي، أطول تنورة رأيتها في هذا المكان لا تتجاوز الحد الأعلى من الأرداف، بل أكاد أجزم أن بعضهن لا يرتدين ملابس داخلية.
كانت محاولة فاشلة مني لتناسي الظرف الذي أمر به، لم أمكث سوى دقائق معدودة، غادرت بعدها دون أن أتذوق طعم الكأس المصبوب، إتجهت إلى منزل التخزين، حيث تعد العدة للرحيل.
تغيرت الأجواء فجأة فأحسست بالبرد يغزو جسدي، تجاهلت الأمر، بدأت أتصبب عرقاَ بطريقة تكاد تكون أبعد من المعقول، أحاول التماسك لكني لا أقوى حتى على التنفس، صعُب عليّ الأمر، سقطتُّ دون إرادتي، ولم أشعر برأسي وهو يرتطم بالأرض ولا بأطرافي المتجمدة.
ظننت أنها النهاية كما تمنيت، لم يكن بمقدوري العيش بعد وفاة أمي، وزد عليه معايشة الواقع المرير، استيقظت في المشفى، لم أدرك ذلك.. أغمضت عيني وتمنيت أن أكون في حلم وأنا خارج أسوار هذا المشفى، لأنني موقن تماماً بأن مستقبلي قد يتوقف في المشفى.
لم أمكث كثيراَ بعد استيقاظي، قام أحدهم بفك الأصفاد من يدي، وأتى رفاقه واصطحبوني إلى المحاكمة، لا تتعجب! فمحاكمة الهارب فورية ومحاكمة القاتل ملغية، فرغُتِ المحكمة بتوزيعي إلى معسكر التدريب نظراَ لصغر سني، لكن قبل المعسكر كان عليّ أخذ جرعة خفيفة من التعذيب وتأكيد الندم، أدخلوني إلى غرفة مظلمة تماماَ، وبدأ الضرب ينهال علي من حيث لا أدري، فقدت الإحساس بالألم وفقدت بعض الأطراف، فرغت من الجلسة الأولى ومازلت أنتظر ترحيلي إلى الجحيم، كان هناك اثنان يطلون علي بين الفينة والأخرى، كعمود ساعة الحائط، بعد مرور بعض الوقت دخل علي الاثنان، ظننت أنها الجلسة الثانية، لم يتفوها بكلمة، بعد مرور عدة دقائق سألني أحدهما عن قدرتي على الوقوف، قبل أن يصل لساني إلى طرف اللثة، امتعض الآخر وأمره بعدم التكلم معي والانصراف، لبى الأول نداءه في انصياعٍ تام.
بدأ يحدثني بأنها فترة قصيرة وستمر وأنه يجب عليّ الصبر. لم تكن أذني قادرة على إيلاج كلماته ونقلها، فأنا كنت في حالة من (التاكتسوبو)، لكني أدركت أنه يكن بعض العواطف تجاه حالتي، وعدني بوجبة دسمة بعد سويعات الاستراحة، خرج وأغلق الباب دون أن يحكم القفل، تسلل زميله في خِلسة حاملاَ معه كوب لا أعرف محتواه! أمرني بأن أشربه بسرعة قبل أن يدركه أحد، وقام بدس قطعة خبز داخل بنطالي وأخذ الكوب الفارغ معه وانصرف مسرعاَ.
لم تمر دقائق حتى أتاني قائده بالوجبة الدسمة الموعودة، وأمرني بالتهامها سريعاً. لم يكن بمقدوري حتى مضغ لبانة هشة، أحس بتهالكي فأعد لي بعض اللقيمات، وألقمني إياها في توددٍ، إلى فمي.
أيقنت بعدها بأننا في حالة واحدة نقف على نفس المسافة من الألم والهم والعواطف المبعثرة، الشكوك المتبادلة، العواطف المبطنة، تفصلنا فقط مخاوف العصيان، وزفات الطبول الممجدة لرغبات القادة.
خرجت من جنةِ التعذيب إلى جحيمِ المعسكر، مررت بحالتك تماماً، الفرق الوحيد أنني لم أجد من أودِعه عواطفي وحسراتي.
اقترَب وقت رحيلك.. يتوجب عليّ أن أودع لك شيئاً من المال، لكني لا أملك سوى الدعوات.. الدعوات فقط هي التي تودع من قبلي، وبعض النصائح قد تفيدك، لا تقلق عليّ فأنا أنكسر ما بداخلي تجاه الهروب، قد أفلح في التمرد، وأتمنى أن لا ألتقيك بعد عدةِ سنوات وأنت في حالتي، تعال إليّ.. أريد أن أكسر عظامك بين أضلعي، قد يكون هذا آخر لقاءٍ بيننا، لا تسقط الدموع، ادخرها إلى يومٍ آخر، لا تفرط فيها فهي دليلك الدامغ على أنك من بني الإنسان، لا تكن مثلي فأنا أتيت من زمنٍ بعيد، أرقدُ في سباتٍ شتوي طويل المدى، لكن..من يعلم قد أتمرد وأثور على نفسي!.
ها هي الشمس تشرق، احزم حقائبك واتجه إلى (باركة)، لعلمك.. أنا أيضاَ درست في (باركة)، وتجولت في الباحة الخلفية، وأجهدت الغفير المنهك كما رأيتك تفعل البارحة، إنها ترِكتنا التي نورثها بعضنا البعض، سأكون في انتظارك العام المقبل، وإن لم تجدني فلا تبحث عني!.

ثروت عبدالهادي علي
(كاتب قاص من السودان)

هوامش
ـــــــــــــــ
- الأندروفين: هرمون في جسم الإنسان يخفف من حدة الألم.
- الأدرينالين: هرمون في جسم الإنسان يتدفق لحظات الخوف والقلق.
- باركة: مدرسة ثانوية في أسمرا.
- غزا برهانو: أحد أحياء أسمرا.
- كنيسة أنداماريام: توجد في أسمرا.
- التاكتسوبو: اعتلال عضلة القلب وهو حالة قلبية مؤقتة ناجمة عن الاجهاد.

جائزة محمد سعيد ناود للقصة القصيرة
#مكتبة أغردات العامة
مكتبة أغردات العامة ( APL )

* القصّة القصيرة التى حازت على إشادة، و تقدير نقدي عالٍ من لجنة تحكيم جائزة محمد سعيد ناود للقصّة القصيرة في دورتها السابعة للعام 2021م، التي تنظمها سنوياً؛ مكتبة أغردات العامة “الجهة الراعية للجائزة“

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى