نور الدين صمود - طه حسين كتب الشعر المرسل

بدأ طه حسين حياته الأدبية شاعرا، ولعله أراد أن يكون مثل أبي العلاء المعري، وقد تراوحت قصائده الأولى بين الطول المفرط والقصر المخل حتى أنه كتب أغنية باللهجة المصرية قيل إن الوثائق أشارت إلى أن كامل الخلعي غناها في أوائل القرن الماضي، ولكن طه حسين تخلَّى عن كتابة الشعر بجميع أنواعه واتجه إلى كتابة النثر بجميع مواضيعه لأنه أدرك أنه لن يستطيع أن يكون مثل المعري أو غيره من مشاهير الشعراء، وهكذا تراوحت كتاباته في النثر بين الإبداع الأدبي مثل «دعاء الكروان وجنة الشوك والمعذبون في الأرض»... وبين الدراسة والنقد مثل «في الأدب الجاهلي وحديث الأربعاء» بأجزائه الثلاثة... وإلى الأبحاث التاريخية مثل «الفتنة الكبرى وعلي وبنوه»...ولو ظل يكتب الشعر لما استطاع أن ينقد الشعراء المعاصرين خاصة، فقد وجه له الرافعي سهام النقد الجارحة بل القاتلة بنقده قصيدته في استقبال عام هجري جديد، وذلك في كتابه «تحت راية القرآن».
لقد تخلى طه حسين عن كتابة الشعر ولم يعد إليه في وقت مبكر نسبيا من حياته الأدبية، ولكننا عثرنا له خلال فصل من فصول الجزء الثالث من كتابه «على هامش السيرة» تحت عنوان «ذو الجناحين» جاء فيه هذا المقطع الذي يقدمه بأسلوب سردي على أنه نثر، ولكننا نكتشف أنه كتبه موزونا على البحر المديد، ووزن كل سطر منه يساوي شطرا على البحر المديد بزحافاته الجائزة المعروفة مع اختلاف الضروب، وسنضع في نهاية كلِّ ما يعادل نصف بيت خطًّا مائلا ليدرك القارئ وزنه الذي هو:
(فاعلاتن فاعلن فاعلاتن/ (فاعلاتن فاعلن فاعلاتن/
ذو الجناحين
(أقبلتْ تسعَى رويدا رويدا/ مثلما يسعى النسيم العليل/
لا يمسّ الأرضَ وقعُ خطاها/ فهي كالروح سَرَى في الفضاءِ/
نشر المسكُ عليها جناحًا/ فهي سرٌّ في ضمير الظلام/
وَهَبَتْ للروض بعضَ شذاها/ فجزاها بثناءٍ جميل/
ومضى ينشر منه عبيرا/ مستثيرا كامِناتِ الشجون/
فإذا الجدول نشوان يُبْدي/ من هواه ما طواه الزمان/
ردّت الذكرى عليه أساه/ ودعا الشوقُ إليه الحنين/
فهو طورا شاحِبٌ قد براه/ من قديم الوجد مثلُ الهُزال/
صَحِبَ الأيّامَ يشكو إليها/ بَثَّهُ لو أسعدته الشَّكاة/
وهو طورا صاخبٌ قد عراه/ من طريف الحبّ مثل الجنون/
جاش حتّى أضحك الأرضَ منه/ عن رياضٍ بهجة للعيون/
ونفوس العاشقين كُراتٌ/ يعبث اليأس بها والرجاء/
كحياة الدهر تأتي عليها/ ظلمة الليل وضوء النهار/).
ذلك هو النص أو القصيدة المرسلة أو المقطع المنظوم الذّي أملاه طه حسين فكتبه كاتبه مثلما يكتب النثر. إمّا لأنّ عميد الأدب لم ينبّهه إلى الصدر والعجز ولم ينتبه الكاتب إلى ذلك لانعدام القافية، وإمّا لأنّ طه حسين أراد أن يكتب هذا الكلام الموزون كما يُكتب النثر امتحانا للقرّاء، أو تنصلا من الشعر الذي تخلى عنه وعن كتابته منذ أوائل القرن العشرين بعد أن كتب بعض القصائد في بداية حياته الأدبيّة، والغالب على الظن أنه تعمد هذا الإغماض والتعمية.
وإذا تأملنا المقطع السابق لطه حسين أدركنا أن القافية أو الروي فيه لم يُلتزم تماما ولم نجد أي توافق في نهايات السطور إلاّ في البيت الخامس في كلمة (الشجون) والبيت السابع في كلمة (الحنين) والعاشر في كلمة(الجنون) والحادي عشر في كلمة (العيون). إذا قرئت جميعا بالسكون، ولكنّ بُعْد هذه الأبيات عن بعضها لا يشعرنا بوحدة القافية فيها. أمّا بقية الأبيات فقد اختلفت اختلافا كليّا، ويمكن تحريك روي بعضها بالضم، وبالفتح في البيت السابع، أو قراءتها جميعا بالسكون، كل ذلك بدون نظام مضبوط.

لقد وقف العقاد في بداية ظهور هذا النوع من الشعر مع الشعر المرسل وتحمّس له، ولكنه بعد ذلك تنكر له ورأى أنّه ضرب من الشعر لا تقبله الأذن العربيّة. وقال إنّ قبوله لنماذج كتبها عبد الرحمن شكري في بداية ظهورها يعود إلى أنّه كان يظنّ أنّ الأذن العربيّة ستتعوّد على هذا النوع من الشعر بكثرة الاستعمال والاستماع، ولكن تبيّن له أنّ هذا الشعر المرسل من القوافي لا يستحسن في الشعر العربي ولا يمكن أن تقبله الأذن العربيّة المتعوّدة على وحدة الرويّ ولا يمكن أن تميل إلى الفقر بعد الغنى.
ومهما يكن موقف النقاد من الشعر المرسل فإننا نرى الوزن فيه صحيحا وموسيقاه الشعرية متوفرة في كل بيت على حدة، علما بأن للشاعر فيه مطلق الحرية في التزام القافية والروي أو التحرر منهما، فليكتب من يشاء من «المحافظين» أصحاب الثروة اللغوية مثل المعري بطريقة «لزوم ما لا يلزم» وليكتب من يشاء من «المجددين» أو دعاة الحداثة أو أصحاب الزاد اللغوي المحدود، بطريقة «الشعر المرسل»، لأن العبرة في الإبداع بالروح، لا بالمسائل الشكلية.


نور الدين صمود
نشر في الشروق يوم 12 - 12 - 2009
أعلى