ميمون حِرش - رُدّوا قلبي

تستيقظ بوهن أزرق مثل جرح متورم. تنظر في المرآة ولا تصدّق ما ترى. تستغرب تحولاً مفاجئاً في تقاسيم محياها.. لم تعهد في وجهها هذا الانحدار .. كرهت دائماً المنحدرين في كل مكان .. وهذا الصباح الماطر يعلوها رغماً عنها .. يزحف نحوها. إنها في الخمسين من عمرها، و حباً في الخريف لم تطمع في ربيع هذا العمر يوماً منذ أن هجرها ابنها الوحيد..
تخرج من البيت متحسسة وجهها. قطرات المطر لا تغسل جراحها. تنظر خلفها مرات عدة. تسرع الخطى. تنتشر مع المنتشرين... وكأي معذب في الأرض، تتأبّط همّها لا حقيبتها. تضع يدها على قلبها وتضغط .. إنها تخاف أن يقفز من جسدها الواهن أمام جيش من الغادين فيفضحها. لم تثق في قلبها يوماً .. تحمله بين أضْلُعها، وتكره نبْضه. إنه "صندوقها الأسود"!.. يوماً ما، فــي غــيابهــا أو حضورها، قد يحكي عنها ما تخشى أن تفصح عنه حتى مع نفسها..
حين تختلط بموظفات زميلات لها في العمل، تغار كثيراً، لا من زينتهن، ولا حتى من حليهن .. بل ممّا يحملن في صدورهن.. قلبهن مختلف تماماً .. دليلها على ذلك أنهن لا يضعن أيديهن على الصدر لجسّ نبضه .. اليد هو مقياسها.. إدمانها على وضع كفها على صدرها يوحي لها بهذا الحكم .. تحس بقلبها يخفق بشدة، ولا تعترف، مع ذلك، بأنها حية تُرزق وتعيش..
وصلت متأخرة إلى مقر العمل كما العادة. ينظر إليها من يعرفها من الذين يشتغلون معها طمعاً في تحية الصباح، لكنها تتخيّلهم ينهشون لحمها، ويتنصّتون على نبضات قلبها. تفتح فمها واسعاً كنعسان غير مبال. تتمتم حين تمر بهم. ينظرون إليها، وتضع هي يدها على صدرها مكانَ القلب تحديداً، وتضغط .. ما همّتها النظرات يوماً، ولكن تبعات هذا القلب المريض تحيرّها .. ولا تواصل عملها في وجودهم إلا بعد أن تأخذ نفَسها. لا تفعل ذلك إلا جالسة .. خفقان القلب مع الوقوف معناه انهيار تام .. وهي التي تحرص على أن تبدو قوية، رابطة الجأش..
كان فمها ما يزال مفتوحاً حين سحبت كرسي مكتبها. ترتمي عليه بكل ثقلها، وتضطجع بحرص كامرأة حامل. تغمض عينيها، لا فمها، ثم تنام .. تفعل ذلك كما لو أتت لنزهة لا لعمل .. يحلو لها أن تتأمل ذاتها بهذا الشكل. في الليل لا تحلم أبداً، لكنها في النهار تظل تحلم وتحلم، وبالألوان. تمقت الأبيض والأسود معاً .. الأبيض ترجوه ولا تناله، والأسود هو ما آلت إليه الآن؛ بسبب قلب يُشعل النار بين جوانحها!..
ظلت على هذه الحال مدة .. تستيقظ على ضجيج منهمر كما المطر في الخارج. تفرك عينيها بيدين مرتجفتين. تحملق في طابور من عباد الله ينتظرون عند بابها توقيعها على وثائقهم الإدارية.. زميلتها إلى جانبها منهمكة في تصفح بعض الوثائق، لا ترفع رأسها عنها إلاّ بعد أن وكزتها ، وهي تصرخ في وجهها أمام استغراب الجميع:
"إنه ليس في حقيبتي .. تركته أمسِ هنا .. اُنظري .. اليوم لا أثر له!..."
تقول ذلك، وتفرغ حقيبة يدها التي تتركها في المكتب، ولا تحملها أبداً .. من كان حاضراً، وقريباً منها، يحملق في ما اندلق منها .. لم يكن غير مشط خَرِب، وأحمر الشفاه، ورزمة من المفاتيح، وبطاقة التعريف، مع ورقة مالية يتيمة بالأبيض والأسود..
تطوّع بعضهم، يجمع مِن على الأرض ما سقط منها. يمدها بأدب لها. لا تقول له: شكراً، وإنما تنهـره:
"يفضل قلبي أيها المأفون؟... رُدّ قلبي .. رُدوا قلبي .. بالأمس كان هنا .. أين هو الآن؟.. لصوص..."
أفواه عدة رددت: "الله يستر"، مصحوبة بوشوشات تصدر من هنا وهناك، تحولت، فجأة، إلى احتجاج بصوت مسموع..
كانت ما تزال تتأمل حقيبتها حين حاول أحدهم أن يقترب منها بهدوء حذر. تصرخ في وجهه، وفي وجه الجميع:
"مكانكم جميعاً .. ولا حركة .. قلبي في الأرض .. تحت أقدامكم .. احذروا أن تدوسوه"..
فوضى عارمة تلتْ صياحها .. كانت تصرخ، وهي تفرغ من جديد محتويات الحقيبة فوق مكتبها. ترشق الحاضرين بما ملكت يمينها. المشط شاطَ بعيداً، لكن المفاتيح تقع مثقلة على رأس عجوز، فيما أحمر الشفاه ترسم به قلباً فوق مكتبها، وتلون ورقتها المالية اليتيمة... بدأ بعضهم ينسحب من الطابور. آخرون توزعوا في القسم. القليل منهم يخرج متأففاً ومردِّداً: "لا حول، ولا قلب، ولا عقل!". الباقي يتفرق، وكما الجراد تكالبوا على المكاتب، وهي تصدهم وتصرخ شاخصة إلى أخمص أقدامهم...
زميلتها ضائعة، تبدو - وهي النحيلة - كابنتها حين كانت تصدّ عنها ضربات خابطة، ثم بيدين ثملتين تركّب رقماً في هاتفها الوردي:
"احترامي سيدي الرئيس .. عذراً .. لكن الحالة لا يُسكت عنها ألبتة .. اليوم مختلف تماماً .. الرجاء التصرف، الآن، وبسرعة .. النجدة أرجوك...".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى