جمال نجيب التلاوي - شرفة تطل على النهر

جمال نجيب التلاوي


من شرفة غرفته المطلة على النيل ، كان يراه متسعًا وعميقًا ، وزرقة صافية تظلل لونه، جاءه إحساس أن، السماء تسبح في مياه النهر ، وحين نادته أمه ـ وهي مجهدة ـ قالت :
– هذه الأصص وزعوها بينكم … لم يعد لنا بيت !!!
هي لم تقل الجملة الأخيرة ، لكنه وأخوته أدركوها ، كانت أصص الزرع عشقهم ومتعتهم ، تملأ كل جوانب البيت .
– أصص الزعتر هذي لك .. أعرف أنك تحبها .. واختصتني بها ، في صمت حمل أخوتي بعض الأصص ، وكانت زهور البوتس الخضراء تتقطع أوصالها؛ لأنها كانت تربط كل جدار البيت ، تدخل حجراتنا وتخرج ، كلما دخلت حجرة ، وقفت أمي ، يساعدها أبي ، قبل رحيله ، وهي تقف فوق كرسي وتمد الحبال في أعلى الحجرة ، ويرفع لها أبي عود البوتس برفق ، وتثبته برفق ، وهي تقول: ها هي تظلل الآن حجرتين ، ثلاثًا وهكذا … حتى ربطت بين حجراتنا جميعا ، كنت أنظر للأصيص الصغير الذي يحمل الجذر وأتعجب كيف لهذا الجذر الصغير أن يمتد ليشمل البيت كله ، بدأ نبتة صغيرة في حجرة أبي وأمي ، ثم امتد ، الآن تحاول جاهدة أن تلملم عود البوتس ، وأن تجمع أطرافه من الحجرات المختلفة قد غادروا المنزل منذ سنوات … واحدا بعد الآخر ، جلست متهالكة وقالت : عندي حل ، كل واحد يأخذ فرعا من الأفرع التي تقطمت ويضعها في أصيص في شقته سوف تنمو…
– البوتس لا يموت إذا أوليته قليلًا من الرعاية ..

أومأت صامتا لأمي … أما أخوتي فلم يعنهم الحديث كثيرا . كنت أود أن اخفف عنها ، أعرف أن آلامها كثيرة ومرضها يزيد ويتضخم ، كانت تخشى أن تترك هذا البيت، لكنها الآن تواجه الأمر بشجاعة نادرة …
– أو ربما قتل للنفس : لست أدري
اتجهت بناظري تجاه النهر ، كانت الشرفة التي أطل منها في الردهة الواسعة التي اعتدنا أن نجتمع فيها .. عندما كنا نجتمع فجلس في أماكن متقاربة ، لكن وحدي كنت أقف بجوار الشرفة ، أطل منها على النهر الواسع الكبير ، قص لنا أبي عن هذا البيت وعن التعديلات التي أدخلها قال : أيامكم صعبة ، ربنا يكون في عونكم ، في زمنا كنا نقدر نشتري بيتاً في شرفة على النهر ، وقص لنا أنه بعد شراء البيت بأسبوع أعلن الزعيم تأميم القناة .
– كنت أستمع للمذياع وأنا لا أستطيع أن أحضن الزعيم, أحببته كثيرا ، رفعت صوت المذياع ووقفت عند الشرفة المطلة على النهر ـ هذه وليست غيرها ـ
( وأشار بإصبعه تجاه الشرفة ) ورأيت النهر ، كنت أشعر أن هذا النهر لي وأنى له ، على النهر رأيت صورة الزعيم ترتسم وتكبر حتى تملأ النهر ، وهكذا استطعت أن أحضنه وأقبله من شرفتي ، قلت له : أنا أحبك … والله قلت له هذا ……
هكذا قال أبي .
لكن شيئًا لا يدوم يا أبي ، عندما كنت صغيرا وكنت أرى أبي يقف دائماً بجوار هذه الشرفة يحتسي الشاي . كنت أتعلق بقدميه وأصرخ حتى يحملني وأشاهد ما يشاهد لكني ـ بالفعل ـ لم أكن أشاهد ما يشاهد .. هذا ما أدركته عندما كبرت .. كنت أحمل كرسيا وأضعه بجوار النافذة لأحاول النظر من النافذة في غياب أبي ، وكنت أقيس طولي ومدى كبري ، بمدى وصولي للنافذة …
الآن أقف في نفس مكان أبي ، استبدل النيسكافيه بالشاي! أستعيد كل ما كان … خاصة حينما كنا نجتمع حول أمي نخفف عنها مرض أبي ، نستعيد أياما جميلة كانت تبتسم بصعوبة ، وعينها على حجرة أبي ، أشد ما ألمها هو فقده النطق ، كانت تفهمه بإشارة عينيه ولما احتاج والدي لعمليات كثيرة ومرهقة لنا ، ولم نكن نملك شيئا ، اضطررنا في صمت لبيع البيت ، كان أحد الوافدين إلى الحي قد حاول كثيرًا مع أبي من قبل ، وعرض عليه أماكن كثيرة في أحياء أكثر رقيًا مما نحن فيه ، لكن أبي كان يرفض ، أقام الوافد مشروعات كثيرة. وكنا نرى صوره في الجرائد وعلى شاشات التليفزيونات ، لكنه لم يترك لنا فرصة أن نستمتع ببيتنا ، عندما عرف أزمتنا المادية ، لم يعرض شراء البيت وإنما عرض علينا مساعدة ، على سبيل القرض ، ولما لم يكن لدينا بدائل وافق أخوتي الكبار ، ووافقت أمي بصمتها الحزين المنكسر .
أبيع عمري وأبوكو يصحى ، وترجع له عافيته الت أمي.
بجوار النافذة وأنا أرقب صفحة النهر، وأحيانا الصيادين الهواة الذين يغازلون أسماك النيل بصناراتهم الصغيرة ، أرى حكايات شيقة لهؤلاء الصيادين ، والسعيد الذي يخرج بسمكة يتباهى بها على أقرانه، أما الصيادون المحترفون الذين كانوا يستقلون مراكب صغيرة ، ويعودون عند الغروب بصيدهم الوفير ، يأتي إليهم الأهالي للشراء ، وكان والدي يتعامل مع صياد بعينه ، يوصيه والدي على أنواع بعينها يحبها وأحببناها نحن معه ،كان الصياد يأتي بحمله ، يأخذه والدي كما هو وأحيانًا يأتي بأنواع لم يطلبها والدي ، لكن حركة الأسماك وطزاجتها كانت تدفع والدي ليأخذ كل ما حمله ، رغم معارضة والدتي
– هذا كثير والسمك لازم يتاكل صابح
وبالتالي تبدأ أمي عملها ونتأهب لأكلة سمك في أي وقت يأتي فيه الزاد من النهر.
من نفس الشرفة لمحت نادية تسير بمحاذاة النهر سمكة جميلة رائعة ظهرت مرة واختفت ، وشربت العديد من أكواب النيسكافيه حتى أراها ثانية ، لكني لم أرها ، وبالصدفة رأيتها مرة تصعد الأتوبيس الذي أركبه، ولم أضع الفرصة وعرفت أنها جارتنا … وأخبرتني أنها سمعت عن الشرفة التي نرى منها النهر .
– كنت تسيرين بجوار النهر فتملكين النهر كله … قلت لها
– لكن النظر للنهر من شرفتكم لابد أن له مذاقاً خاصاً … سمعت هذا كثيرًا … قالت … وابتسمت والتزمت الصمت …
وبعد محاولات وتخطيطات كثيرة نجحت محاولتنا في أن تأتي لزيارتنا -حيث أوجدنا علاقة بين أمها وأمي – وعندما دخلت مع أمها بيتنا كان بحثها الدائم عن هذه الشرفة.
ولما توقفت العلاقات العائلية بين أسرتينا كان بمقدورها أن تقف معي بجوار الشرفة ونرى النهر معًا، -مرة أخرى- ، وفي هذه الشرفة قبلتها القبلة الأولى، وكان للنهر روعة أكبر من أي مرة أخرى ، وفي هذه الشرفة احمرت وجنتاها وجرت تحمل حقيبتها وتغادر المنزل -خجلًا- لكنا كنا تواعدنا على الزواج ..
– هل تذكر هذا أيها النهر ، كنت شاهدا علينا وكنَّا في هذه الشرفة ..
قلت لنفسي ، أم قلت للنهر ، أم قلت للشرفة … لا أدري …
كنا نبني حلمنا على هذا النهر … بعد رحيل والدي قالت والدتي :
ستتزوج نادية ، وتعيشوا معي هنا .. في هذا البيت ، لا تكن مثل إخوتك …
وكانت زيارتهم لنا قليلة ، كانوا مشغولين بأعباء الحياة ، والعمل والأسرة، وإن لم يمنع الانشغال من الاجتماع في الأعياد السنوية .
رحل والدي … ورحلت معه أحلام كثيرة … كثرت الديون ، وجاء وقت الدفع .. هل كان الوافد يخطط لذلك ؟ أم أن الصدفة خدمته؟ ، كان والدي يشير بإصبعه … إلى مكان كانت أمي تفهم إشارته وتقول إنه يعني لا نفرط في بيتنا … كانت زيارة الوافد لنا تقلق والدي ، وكان يغمض عينيه عندما يدخل ليسأل عنه .
كنت في نافذتي عاجزًا عن فعل شيء، نظرت للنهر ، وبحثت عن صورة زعيم يملأ النهر وأقبله كما فعل يوم تأميم القناة ، وأصبح لدينا بدل المذياع تليفزيون يبث إلينا أخبار الغزاة الذين احتلوا العراق، وكان الزعيم يفاخر بنجاح برنامج.
«خصخصة مصر» وأنا أبحث عن صورة زعيم تملأ صفحة النهر وأقول له بصدق شديد وفخر :
– أنا أحبك …
كنت أود أن أجد زعيمًا مثل أبي .. أقبله … أشعر معه بالحنان الذي افتقدته برحيل أبي … لكن النهر في هذه اللحظة بدا قاسيًا وعنيفا ـ بشكل لم آلفه من قبل، أحسست بإنني أغار من والدي ، وجد بيتا يعيش فيه، وزعيما يقبله على صفحة النهر ويفرح معه ويقول له : « أحبك» .
أغار من والدي؛ لأنه مات في بيته ..
نظرت لأمي من خلف نظارتي السميكة التي امتلأت عدساتها بالدموع ، كانت تلملم الأشياء المتبقية من المنزل
– هيا يا بني … نرحل ، قبل أن يأتي ويحرجنا … هكذا قالت أمي …
وكنا قد بحثنا عن شقة صغيرة بعيدة عن النهر ، وضعت فيها أمي بقية أشلائنا … ووضعت فيه أصص الزعتر .. وقفت أمي حائرة .
– أين سنضع أصيص البوتس ، وأين سنمده ؟
قالت أمي … ولم أجب …
– لو سمحت ورانا شغل …
كان صوت العامل الذي جاء بيتنا الذي كان لأنه يريد أن ينزع خشب الشرفة التي تطل على النهر … فوجئت به وبالمالك الجديد الذي أنهى كل عبارات الترحيب
التي كانت بيننا ، فجأة وجدته داخل
المنزل وينظر إلى بعيون حيادية …
– هكذا بدون سلام … تدخل
– لا سلام … ولا كلام … خللي الراجل يشوف شغله !
قلت … وقال …
قلت لنفسي كنت أستمتع بصفحة النهر من غرفة صغيرة تطل من البيت الذي كان ، ها أنذا أستطيع أن أستمتع بالنهر كله دون نوافذ ، سعدت بالفكرة, سيصبح النهر ملكي وربما أجد نادية تمر بمحاذاة النهر ، من هنا ستكون الرؤية أوضح .
قلت لنفسي. ومشيت بجوار النهر … لكني حين اخترت أن أجلس وجدتني أعطي ظهري للنهر ووجهي لشرفة في منزل يطل على النهر … ولمَّا طالت جلستي ولم يأت صيادون هواة أو محترفون ، أحسست بهجوم كبير من سباع النهر التي تخرج منه وتحاول أن تنهشني .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى