عبير عزاوي - الفراغ

عيناها خاليتان من النظرات ، شاخصتان الى المرأة القابعة في الزاوية محدقة في الفراغ، تحاول ان تجتذب نظراتها إليها فلا تفلح ؛ يتململ طفلها في حضنها البارد يعيدها إليه فتحاول إرضاعه ، لكن ثديها يمانع فلا يدرّ له الحليب ، تعاود البحث عن المرأة في الزاوية فلا تجدها اختفت فجأة ، تشرد بعينيها تبحث عنها في ارجاء الغرفة ، يوقظها من شرودها صوت بكاء الطفل ، تهرع إليه اختها من الغرفة المجاورة :
- لم أشعر أنك أفقت من النوم !
تلتقط الطقل من حضنها بخفة
- من جلب لك الصغير ؟!
: - عامر! جلبه لي لأرضعه . تهمس بوهن .
- هل درّ حليبه ؟!
تهزّ راسها نفياً ، تعود للشرود وعيناها تبحثان في زوايا الغرفة ..
- ارتاحي الآن .
ساعدتها أختها لتعاود الاستلقاء في فراشها ..بقيت عيناها معلقتين بالسقف مستمرتين بالبحث عن تلك المرأة .
خرجت اختها وضعت الصغير في فراشه ، كانوا قد أعدوا له غرفة خاصة زينوها بألعاب متنوعة وهي رافقت زوجها عامر ليشتريا أغراض الطفل . اختارا الوان قوس قزح ليطليا الغرفة والسرير الخشبي والخزانة الصغيرة ، جهزا الفراش الناعم ؛والأغطية الوثيرة المزينة برسومات لامعة ، والألعاب على شكل حصان وزرافة وغزلان متعددة الأحجام والألوان .
عند ولادتها ؛ احتفل بها في المشفى ؛ زيّن الجناح الخاص بالولادة كلّه بالبالونات الزرقاء والبيضاء ؛ كان انتظاراً دام خمسة عشر عاما ؛ لم ييبس الأمل ولم يتوانيا عن سلوك كل السبل لتحقيق حلمهما بانجاب ولد ؛ وقد تحقق الحلم وكانت سعادتهما ستكون كاملة لولا الحزن الذي داهمها في شهور الحمل الأخيرة وتفاقم بعد الولادة خصوصاً بعد أن ظهرت تلك المرأة قرب سريرها في المشفى ؛ حدقت في وجهها ونفثت فيه وهجاً من أنفاسها السخينة ، ثم جلست في الزاوية تنظر إليها تارة و تغوص في فراغ الغرفة تارة أخرى .أغمضت عينيها لتنسى وجه المرأة المعذب وأنفاسها الحارقة .ظنته حلماً أو هلوسات الإفاقة من التخدير بعد العمل الجراحي .
فتحت عينيها وجدت المرأة نفسها تحدق في الفراغ ..أجفلها صوتها وهي تئن ؛ حاولت الهروب من صوت الأنين المتواصل وضعت يديها على أذنيها فلم يتغير صوت الأنين بل أخذ ينخر رأسها يخترق أذنيها نازلاً إلى حلقها ثم يدفق من مؤخرة رأسها.
غادرت المشفى لتجد المرأة نفسها في بيتها تجلس في الزاوية المقابلة لسريرها وتحدق في الفراغ عينه.
- سلوى ؛ أتشعرين بالجوع ؟!
قالت أختها نجوى
هزت رأسها موافقة .أحضرت طبقاً فيه حساء خضروات مخضر اللون . وبدأت تلقمها رشفات صغيرة في .لم تكد تبتلع اللقمة الثالثة حتى هرعت إلى الحمام وأفرغت كل ما في جوفها ، جلست على الأرض وانخرطت ببكاء صامت .عادت متحاملة إلى غرفتها وأختها نجوى تسندها ؛ توقفت فجأة .لمست بأصابعها ثويها المبلل عند صدرها ببقعتين مدورتين حول حلمتيها ؛ ارتجفت ، همست أختها : - الحمدلله ؛ سأحضر الصغير لترضعيه .
جلست على طرف الفراش ونوبة الارتجاف التي اجتاحتها تزداد عنفاً ؛ وضعت أختها الرضيع في حضنها وساعدتها في إخراج ثديها وإلقامه لفم الطفل ، وهي مشغولة بارتجافها الذي لايتوقف ..أبعدت الطفل عنها بجفاء ؛ واستلقت على الفراش وأدارت رأسها باتجاه الزاوية التي تقيع فيها المرأة فرأتها تضع كفيها على رأسها وتواصل أنينها ..فوضعت يديها على أذنيها لتمنع الأنين من طرق رأسها .
قالت نجوى :- ما رأيك أن أضع الطفل هنا . عندما تشعرين بالدفء قليلا عاودي محاولة إرضاعه ..سأذهب لأحضر لك غطاء صوفياً آخر . أحكمت الغطاء حول كتفيها ومضت .
كاتت الرائحة التي تنبعث من الطفل عذبة تتغلغل في أنفها وصدرها ؛ فغفت لثوان ثم فزعت من غقوتها على صوت أنين المرأة يمخر رأسها من جديد ويبدو قريبا منها حد الالتصاق ؛ فتحت عينيها صدمها وجه المرأة وهو يجاورها في الفراش وهي تفتح فمها على اتساعه والأنين يحطم آخر خلية في رأسها ويدفق بلاتوقف من مؤخرة رأسها ..تناولت الوسادة وضعتها على وجه المرأة أغمضت وأخذت تضغط وتضغط حتى اختفى الأنين وهمدت المرأة .
ارتخى ذراعاها ببطء كانت رائحة الطفل تنسحب من حولها وهو يرقد بلا نفس .هزته مرة بعد مرة وهي تصرخ وتصرخ .وأمامها تجلس المرأة في الزاوية صامتة تحدق في الفراغ .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى