زكي نجيب محمود - مقدمة «أوطيفرون»

هذا حوار يمثل سقراط قبل محاكمته بتهمة الفجور التي اتهمه بها نفر من الأثينيين. وقد أراد أفلاطون أن يبين للناس مدى جهلهم بحقيقة الفجور الذي رمَوْا به سقراط؛ فاتخذ حادثة قد تكون وقعت بالفعل في أسرة أوطيفرون موضوعًا لمحاورته. وبطلُ الحادث رجل من أهل أثينا، عَلا كَعْبُه في شئون العلم والدين، ألا وهو «أوطيفرون».
يقدم لنا أفلاطون هذا الرجل وقد التقى بسقراط في دهليز كبير القضاة؛ إذ كان لكل منهما عند القاضي مسألة قصد إلى إنجازها، أمَّا سقراط فقد جاء في شأن قضيته التي اتُّهِمَ فيها بالإلحاد والتي أقامها عليه «مليتس»، وأمَّا «أوطيفرون» فجاء مدَّعيًا في قضية قتل أقامها على أبيه. وتفصيل هذه القضية الأخيرة أن رجلًا فقيرًا من أتباع أسرة أوطيفرون قتل عبدًا من عبيدها في «ناكسوس»؛ فأمر أبو «أوطيفرون» بالقاتل، فشُدَّ وثاقه وأُلقيَ في خندق ريثما يستفتي علماء الدين في أثينا عما ينبغي أن ينزل بهذا المجرم من صنوف العقاب، ولكن المنيَّة لم تمهل الجاني حتى يعود الرسول من أثينا يحمل الفتوى، فقضَى نَحْبه لما أصابه من جوع وبرد، فلم يتردد «أوطيفرون» في أن يتهم أباه بجريمة القتل.
لم يكد سقراط يصغي إلى رواية الرجل في اتهام أبيه حتى أيقن أنه لا بد عالم أدق العلم بطبيعة الخير والشر والتقوى والفجور، وإلا لما اجترأ أن يقدِم على هذا الاتهام الخطير، وما دام سقراط نفسه على وشك أن يتقدم إلى المحاكمة مُتَّهَمًا بالفجور، فخيرُ ما يصنعه أن يتلقى عن «أوطيفرون» العلم بحقيقة التقوى والفجور لعله يفيد به شيئًا أثناء محاكمته، ويكفيه أن يحتج للقضاة برأي هذا الرجل، ولن يسع القضاة إلا التسليم والقبول … فما التقوى إذن؟
ألقى سقراط هذا السؤال؛ فأجابه أوطيفرون أن التقوى هي أن يصنع كما صنع هو؛ أعني أن يتهم أباه — إن كان مُخطئًا — بجريمة القتل، وهو إن فعل ذلك فإنما يقتفي أثر الآلهة أنفسهم، فذلك ما صنعه «زيوس» ﻟ «كرونوس» وما صنعه «كرونوس» ﻟ «أورانوس».
فلم يكد سقراط يسمع هذه القصة عن الآلهة حتى أعلن مَقْته لهذه الأساطير، وأخذ يستوثق من أوطيفرون صدقها، فيجيب هذا بأنها حق صريح، ويبدي استعداده أن يقصَّ على سقراط مزيدًا منها، ولكن سقراط يرده في رفق ويعود به إلى سؤاله الأوَّل عن التقوى، ما هي؛ فأما أن يجيبه بأنها فعل ما فعله هو من اتهام المرء لأبيه إن كان أبوه ذا خطيئة، فإنه بذلك لا يزيد على أن يسوق مثلًا من أمثلة التقوى؛ إذ لا يمكن أن يكون هذا القول تعريفًا جامعًا لها.
هنا يجيب أوطيفرون بأن «التقوى هي ما هو عزيز لدى الآلهة، والفجور ما ليس بعزيز لديهم»، ولكن سقراط لا يطمئن إلى هذا الجواب؛ أفلا يجوز أن يختلف الآلهة في الرأي كما يختلف الناس سواء بسواء؟ إن ذلك جائز ولا ريب، وبخاصة فيما يتعلق بالخير والشر؛ إذ لا يقوم الخير والشر على قاعدة ثابتة. ولعل هذا الضرب من أوجه الاختلاف هو الذي يُثير الخصومة والقتال؛ وإذن فالفعل الذي يكون عزيزًا لدى إله قد لا يكون عزيزًا لدى غيره من الآلهة، فيكون الفعل الواحد على هذا الحساب تقيًّا وفاجرًا في وقت واحد. خذ مثلًا لذلك اتهام أوطيفرون لأبيه؛ فقد يصادف هذا الفعل رضًى في نفس «زيوس» (لأن زيوس أقدم على نفس الفعل نحو أبيه)، ولكنه قد يُغضب «كرونوس» أو «أورانوس» (لأنها لقيا من ولديهما مثل هذا العقوق).
هنا يجيب أوطيفرون أن الآلهة والناس أجمعين لا يختلفون في وجوب عقاب القاتل، فيوافق سقراط على ذلك، ولكنه يشترط لهذا الإجماع على إنزال العقوبة بالقاتل أن يَثْبُتَ أنه قاتل حقًّا، وألا يقوم الاتهام على مجرد الظن؛ فهل إذا نظرنا إلى قضية أوطيفرون على أبيه وتقصَّينا بالنظر كل ما يحيط بها من ظروف، نستطيع أن نقيم الدليل على أن الوالد قد اقترف جريمة القتل، حتى نقطع بأن الآلهة مجمعة على عقابه راضية عن فعلة أوطيفرون؟ ويستطرد سقراط فيقترح تعديلًا في تعريف التقوى والفجور بحيث تكون صيغته: «إن ما تجمع الآلهة على حبه فهو تقي، وما تجمع على كراهيته فهو فاجر»، فيوافقه أوطيفرون على هذا التعديل.
عندئذٍ يأخذ سقراط في تحليل الصيغة الجديدة، فيقول إن في بعض الحالات يسبق الفعلُ الحالةَ؛ أعني مثلًا أن الفعل الذي يتم لك به أن تكون محمولًا أو محبوبًا يسبق حالة كونك محمولًا أو محبوبًا؛ وبِناءً على ذلك يكون العزيز لدى الآلهة عزيزًا لأنهم أحبوه أوَّلًا، والعكس غير صحيح؛ أي إنهم لم يحبوه لأنه عزيز لديهم. أمَّا الفعل التقي فيحبه الآلهة بسبب تقواه، وهذا مساوٍ لقولك إنهم يحبونه لأنه عزيز لديهم. وهنا يبدو لنا شيئًا من التناقض غير الواضح؛ إذ تَبين لنا منذ برهة قصيرة أن الفعل يسبق الحالة، فيكون الشيء محبوبًا أوَّلًا وعزيزًا ثانيًا. ولكن هذا التعريف الجديد معناه كما رأينا أن الشيء يكون عزيزًا لدى الآلهة أوَّلًا ومحبوبًا من أجل ذلك … وهنا يحس أوطيفرون أنه قد تورط فيما لا قِبَلَ له به، ويعترف لسقراط أن ما قدمه من أقوال وشروح مضطرب لا يثبُت ولا يستقر، بل إنه ليحس أن سبيل البرهان قد التوى عليه، وأن براهينه تفلت من يده وتدور في دائرة كما تفعل أشباح «ديدالس» التي تُروَى عنها الأساطير. ولا عجب أن يُثير سقراط في أقوال مُحاوره هذا الاضطراب وهذا الدوران؛ إذ هو خلَفٌ تحدَّر من سلالة «ديدالس» فيظهر أنه قد ورث عن جده الأكبر هذا الفن.
ولكن سقراط لا يَأْبَه لهذا الضجر من صاحبه ويُلقي السؤال في صورة أخرى، فيقول: «هل كل تقي عادل؟» فيُجيب أوطيفرون أنْ نعم، فيُتبِع ذلك بسؤال ثانٍ: «وهل كل عادل تقي؟» فيجيب محاوِره بالنفي، فيُلقي سقراط سؤالًا ثالثًا: «إذن فأي أجزاء العدل تكون التقوى؟» فيجيب أوطيفرون بأن التقوى هي جانب العدل الذي نخدم به الآلهة، كما أن للعدل جانبًا آخر نخدم به الناس، ولكن ماذا نريد «بخدمة» الآلهة؟ إننا إذا أطلقنا لفظة «الخدمة» فيما نقدمه من العناية إلى الكلاب والجياد والناس، إنما نريد أننا ننفع هؤلاء بما نؤديه لهم من «خدمات»، فإذا كانت أفعال التقوى عبارة عن «خدمة» للآلهة؛ فهل نريد بذلك أننا ننفع الآلهة بخدمتنا إياهم؟ … فيوضح أوطيفرون ما أَشْكَل من الأمر على سقراط بأنه يريد بشعائر التقوى تلك الأفعال التي نؤديها في عبادتنا للآلهة، فيستأنف سقراط اعتراضه بأن «الخدمات» التي يؤديها الزارع والطبيب والبنَّاء لها غرض ترمي إليه؛ فأي غرض نقصد بخدمتنا للآلهة، وماذا تُجدي عليهم خدماتنا؟ فيعتذر أوطيفرون بأن الوقت قصير، ولا يستطيع أن يُجيب على مثل هذه الأسئلة بغير تدبُّر وتفكير، ولكنه على كل حال يمكنه أن يقول في يقين إن التقوى هي أن نعلم كيف نرضي الآلهة بالقول والعمل؛ أعني بالصلاة وتقديم القرابين، فيفسر لنا سقراط هذا القول بأن التقوى إذن هي «علم الأخذ والعطاء»، فنطلب من الآلهة ما نريده، ونرد إليهم في مقابله ما يريدون؛ أعني أنها بعبارة: موجزة لون من التبادل التجاري بين الآلهة والناس، ولكنه تبادل مُجْحِف بالآلهة لأنهم يعطوننا كل خير، أمَّا نحن فماذا نقدمه لهم من الخير في مقابل عطائهم؟ فيعترض عليه أوطيفرون بأننا إذا لم نعطِ الآلهة خيرًا، فحسبنا أننا نتخلق إزاءهم بأخلاق الشرف، فيقول سقراط جوابًا على ذلك: إذن فنحن لا نعطيهم شيئًا ينفعهم، ولكننا نفعل ما يسرهم، وما يكون عزيزًا لديهم، وذلك ما أقمنا البرهان على فساده فيما سبق.
وهكذا لا يبرح سقراط ملحًّا في سؤاله رغم ما يحاوله مُحاوره من المراوغة والهروب؛ لأنه لا يشك في أن أوطيفرون لا بد عالم بحقيقة التقوى، وإلا لما حدثَتْه نفسه قطُّ أن يتهم أباه وهو الشيخ المسن؛ فهو إذن يرجو أوطيفرون ويلحُّ في رجائه ألا يبخل عليه بعلمه الغزير وأن يتفضل بتعليمه حقيقة التقوى، فيعتذر أوطيفرون أن وقته قصير لا يسمح له بإطالة الوقوف؛ فيخيب أمل سقراط في أن يعرف من هذا العالِمِ شيئًا قد ينفعه فيما هو مقبل عليه من المحاكمة.
•••
لا ريبَ في أن أفلاطون قد قصد بهذا الحوار أن يقارن معنى التقوى والفجور كما يفهمها عامة الناس بمعناهما على حقيقته وكما يجب أن يُفْهَم، ولكننا نرى سقراط يفند الرأي الشائع عن التقوى والفجور دون أن يُعقِّب على ذلك بتعريف لهما كما يراهما؛ فهو يمهد الطريق ليظفر من محدِّثه بجواب عن سؤاله الذي ألقاه في أول الحوار، ثم يرفض أن يُدلي آخر الأمر برأيه في الموضوع كما هو منهجه في المحاورة.
ومما ينبغي ملاحظته أن أوطيفرون رجل من رجال الدين كان له ما للسفسطائيين من الغرور الكاذب والاعتداد بالنفس، فلم يداخله الشك أول الأمر في أنه على حق حين تقدم إلى القضاة باتهام أبيه، في حين أنه كغيره من السُّفسطائيين يعجز أن يصوغ تعريفًا جامعًا لما يظن أنه على أتم العلم به، بل يعجز عن أن يتابع إقامة البرهان على سلامة ما يقول. ولقد أفلح أفلاطون في تصوير شخصيته تصويرًا يمثل كل أفراد طائفته بما عرف عنهم من خطأ الرأي وضيق الفكر والثقة الكاذبة بالنفس.
وإنَّه لجدير بنا أيضًا أن نشير إلى ما في هذا الحوار من موازنة رائعة بين العقيدة الدينية الجامدة حين تتمسك باللفظ فيضيق أفقها، وتصدر على الجهل والغرور، والعقيدة الدينية السامية المستنيرة التي حاول سقراط عبثًا أن يستخرجها من مُحاوِره … «التقوى هي فعل ما أنا فاعل»؛ ذلك هو معنى الدين كما يفهمه الرجل الساذج الذي لا يتسع صدره لما قد يكون لدى غيره من الناس، أو لدى أمم غير أمته، من صنوف العبادة.
ولقد أراد أفلاطون في جملة ما أراد بهذا الحوار أن يجيب عن هذا السؤال: «لماذا حُكم على سقراط بالموت؟» فأنطق سقراط بأن استنكاره للأساطير الخرافية قد يكون سببًا أثار عليه الخصوم، كما أجرى على لسانه سببًا آخر حين قال: «إن الأثينيين لا يحفلون بالرجل إذا ظُنَّت فيه الحكمة، أمَّا إذا أخذ يبث في الناس حكمته فإنهم عندئذٍ ينتحلون سببًا لغضبهم عليه.» ولعل هذه العبارة صادقة في كل قوم وفي كل بلد؛ فالناس متسامحون ما دمت تقصر علمك على نفسك، أمَّا إذا علَّمتهم إياه وكان مخالفًا لما درجوا عليه من علم فإنهم لا يدَّخِرون وسعًا في المقاومة والمعارضة.
•••
ويرمي أفلاطون بهذه المحاورة القصيرة إلى أغراض ثلاثة:
(١) فهو أوَّلًا يتناول فكرة التقوى بالدراسة.
(٢) وثانيًا يُقابل بين الديانة الصحيحة والديانة الزائفة.
(٣) وثالثًا يدافع عن سقراط في تهمته؛ لأنه إذا لم تكن التقوى والفجور واضحَيِ المعالم والحدود، فكيف نرمي سقراط بهذا الاتهام؟
وهذا الحوار مثلٌ قوي لأسلوب أفلاطون، فترى فيه عمق النظر والمقدرة العظيمة في تصوير الأشخاص، كما نلمس في كل سطوره تهكُّمًا لاذعًا بارعًا.
أعلى