على حزين - مسافر في الليل.. (الجزء الثامن)

أخرج جهازه الخلوي ليتصل " بالجي بي اس" الخاص به يحدد موقعه بالضبط وحتى يتمكن من الاتصال بالبيت أو الشركة التي يعمل بها, ليتمكن من إرسال رسالة مباشرة لمركز الطوارئ التابع لقسم التشغيل الخاص بعمله ليخبرهم بما حدث له ويطلعهم على الموقف , ولكي يطلب منهم المساعدة العاجلة ليرسلوا له أحد الفنيين العاملين بالشركة حتى يصلح العَطَبْ الذي أصاب نظام التشغيل بسترة الطيران الخاصة بصديقه, وإصلاح الخلل الذي حدث في البرنامج , وحتى لا يتخذوا معه أي إجراءٍ بخصوص تأخره عن عمله لكن الأجواء لم تسمح له بذلك ...
حاول مرات عدة وفي كل مرة يحاول فيها الاتصال يفشل فشلاً زريعاً بسبب الشحنات السالبة القوية المنبعثة من الفضاء الخارجي , وسوء الطقس .........
وأخيراً عادت الشبكة وقويت الإشارة فأخذ يقيس المسافة عبر الأقمار الصنعية, وحالفه الحظ حيث مرتْ على مقربة منهما حزم ضوئية شاردة في فضاء الكون البعيد فقام على الفور باستقبال وإرسال إشارة لاسلكية ليستغيث بالبزز الطائرة التابعة لوزارة الاتصالات الكونية حتى يتثنى لهم إرسال مساعدة عاجلة ليتخلص من المأزق الذي وقع فيه هو وصديقه, وطلب منهم النجدة السريعة , فتلقت على الفور غرفة البحث والمتابعة الإشارة وقاموا على الفور بالرد عليه بسرعة , وطلبت منه إرسال بياناته وتحديد موقعه بدقة ليتمكنوا من مساعدته, ثم أخبروه بأنهم في الطريق إليهما للمساعدة ....
انتصف النهار أو كاد وهو يحاول معالجة الأمر, واصلاح ما أفسده صديقه من نظام التشغيل بالخطأ .. أخرج شيئاً من بزته الفضائية بصعوبة بالغة حاول أن يصلحها فلم يستطع فتوقف وهو متبرماً من صديقه الذي شعر بالحرج الشديد لما حدث منه دون قصد فتأسف له, واعتذر عما حدث :
ــ أنا أسف جداً يا صديقي , لم أكن أقصد ذلك ..
نظر إليه نظرةً طويلة وقد أعاد الابتسامة لوجهه من جديد وكالعادة هز رأسه إيماءً له بأن قد قبل اعتذاره .......
الوقت يمر هدراً, وقد علم من صديقه " يحيى " بأن الوقت في الألفية الثالثة له أهمية كبرى كما أخبره صديقه من قبل بأن كل شيء هاهنا بمواعيد ثابته ومحددة , وانضباط صارم جداً ..
شعر بالتعب يفت في قواه الجسدية, والجوع والعطش قد بلغ منه مبلغاً, التقط أنفاسه بصعوبة والجوع راح يعبث بأحشائه, بلع ريقه الناشف بلسانه, أخرج من جيبه جهازاً صغيراً أسوداً يشبه الإسورة أو كالساعة الرقمية قاس بها حرارة الجسم وما يحتاجه من معادن وفيتامينات ثم أخرج من الجيب الأخر بعض الكبسولات الملونة دسها في فمه ليسد بها جوعه وتحد من تعبه ثم أعطى صديقه مثل ذلك ..
ثوانٍ معدودة مرت مجموعة من الأطباق الطائرة الملونة المتجهة إلى الكوكب الأحمر "كوكب المريخ " الكائن فيه مقر عمله هناك, فهو يعمل بانتظام منذ بضع سنين ولم يسبق له بأن تأخر عن موعده هكذا ’ كل هذا الوقت إلا لظرف طارئ, انتظر أحد الأطباق الطائرة أرسل مجموعة من الإشارات إليه وهي عبارة عن حزم عشوائية من الضوء المتحول وذلك لمحاولة مساعدتهما فوجد ساعة القياس معطلة , .....
" والده كان يعمل في مجال التكنولوجية الرقمية في أحد المصانع العملاقة على كوكب المريخ حيث يقوم بتصنيع البزات الطائرة ذات الطراز العالي من الجودة والتقنية الحديثة, ولما تخرج ابنه يحيى من الجامعة التحق بذات المصنع الذي يعمل فيه أبيه , فمؤهله العلمي شفع له واشتغل في نفس المصنع ," ..
نظر في الخريطة التي ظهرت فجأة أمامه , مسح المكان معلوماتياً ليحدد أين هو بالضبط على الخارطة وما هي المسافة الفاصلة بينه وبين العمل وكم يبعد عن البيت وهو ينظر إلى شيئٍ في يده وعلى وجهه ابتسامة عريضة لم يفهم صديقه مغزاها , وهو يعاود النظر في ساعة التشغيل للبزة الطائرة , ....
ارتدى نظارته "الفيمتو ثانية " والكاب الحراري , ضغط على شيء في سترته تحسباً لأي ظرف طارئ قد يحدث لهما , وامعاناً في الحيطة والحزر أخرج علبةً صغيرة تشبه البخاخة رش منها لون العدم علي جسده فاختفي تماماً في لحظة من أمام نظر وعين صديقه الذي ما زال واقفاً في حيرةٍ من أمره وهو غارق في خجله , وتفكيره ,.........
صوت يأتيهما على هيئة ذبذبات الكترونية كانت رسالة من أمه , نظر إلى صديقة الذي ما زال غارقاً في تفكيره, فجأة ظهر" يحيى" مرة أخرى أمام صديقه , يضغط على أيقونة صغيرة في يده تظهر أمه أمامه في الهواء على شاشة صغيرة بيضاء , تطمئن عليه , وتخبره عن قلقها عليهما هي وأخته مريم وتسأله إن كان يحتاج إلى مساعدة هو وصديقه أم لا , فيطمئنها ويخبرها بأن الأمر بسيط ولا يحتاج إلى كل هذا القلق منها, وأنه اتصل بالنجدة وهم في طريقهم إليهما فتودعه , وتنصرف , وصديقه ما زال في حالة شرود ذهني , يفكر في الأمر , ...........
"هل فكرت يوماً أو تمنيت , أو حتى خطر ببالك بأن تسافر عبر الزمن , إلى أي عام وإلى أي مكان ستذهب ..؟!!, لتستمع بتلك الرحلة الشيقة الماتعة , أو هل تمنيت أن تعود إلى الوراء لتشاهد أجدادك كيف كانوا , وكيف عاشوا..؟!, أو لتعرف كواليس الحرب العالمية الأولى والثانية مثلاً وتقف على بعض الحقائق التاريخية التي حدثت ومرت ثم شوهت وزورت عبر التاريخ ..؟!! تخيل معي بأنك عدت إلى زمن من الأزمان كزمن الديناصورات مثلاً , أو ذهبت إلى المستقبل, أو عدت إلى الماضي ألاف السنين, هل ستكون سعيداً حقاً, وتصور كمية المعرفة التي ستحصل عليها, أم تمنيت أن تعيش في عصر من العصور أو حقبة ما من الزمن
وماذا سيكون شعورك وقتئذٍ ..؟!ّ .. تُرى هل الإنسان قادر على أن يفعل هذا , والعلم الحديث سيتمكن من هذا ولو حدث هذا , تُرى كيف يكون الأمر عندئذٍ , وهل من الممكن أن يحدث هذا هل فعلا سيحدث هذا في يوم من الأيام , بعض العلماء يستبعد هذا, ويعتبره ضرباً من الخيال والمستحيل والبعض الأخر يقول : "ولما لا " ويردد " لو استطعنا استعادة أصوات الماضي والصور المبعثرة في الفضاء البعيد لأمكننا فعل هذا في يوم من الأيام ", وذلك لقناعتهم بأن الجزيئات وذرات المواد أياً كانت فهي كالجبل , والشجرة , والصخور تتأثر بموجات الطاقة الصوتية فترة محدودة ثم تعود لوضعها الطبيعي السابق؛ لذا لا يمكن بقاء أثر للصوت , والسؤال هنا :
ــ هل المادة تحتفظ بالأصوات واحداً تلو الأخر دون أن تتأثر بالأصوات اللاحقة..؟! ..
وإذا كان الجواب نعم ، فإننا نستطيع استعادة الأصوات القديمة ، ليس هذا فقط فقد تتمكن في يوم من الأيام من سماع صوت أمك أو أبيك الذين رحلوا, ويقتلك الحنين لهما, أو ربما عادوا أو عدت أنت لهما لتعيش في زمانهما مرة أخرى , واذا حدث هذا يوماً ما سوف يسهل المهمة على المحققين ليستمعوا حينذاك لأصوات المجرمين ويحلوا أصعب القضايا التي قيدت ضد مجهول؟! .. ولما لا.. وقد كان تسجيل الصوت الذي نستمع إليه اليوم ونستمتع به الأن كان شيئا مستحيلا ومن ضرب الخيال قبل عام 1898، حتى قام العالم الأمريكي "أديسون" بمحاولات تسجيل الصوت ونجح وكان جهاز التسجيل "الفونوغراف" أول جهاز لتسجيل
الصوت ثم تلاحقت طرق عديدة لتسجيل الصوت آخرها أشرطة DVDوغيرها عبر الكمبيوتر

" الذي اخترع الأمريكي توماس أديسون أول جهاز تسجيل صوتي عملي. وقد تمكن جهاز أديسون من تسجيل صوت على أسطوانة معدنية صغيرة ملفوفة داخل رقيقة من الصفيح، ثم أعاد ترديد الصوت مرة ثانية. وكانت الأسطوانة تدور على محور, وفوق الأسطوانة وضعت إبرة ملحقة بحاجز غشائي لقرص هزاز, وعند تكلم أي شخص في جهاز يوضع بين الشفتين تنتشر الموجات الصوتية وتجعل الغشاء والإبرة يهتزان, وكانت هذه الاهتزازات تمكن الإبرة من عمل نقرات رقيقة على الأسطوانة الدائرة, ولاستعادة الصوت، يتم وضع إبرة ملحقة بحاجز غشائي على الأسطوانة, وأثناء دوران الأسطوانة، تسبب النقرات على الرقيقة في اهتزاز الإبرة والحاجز الغشائي, وهذه الاهتزازات تُحدث أصواتًا تشابه تقريبًا الصوت الأصلي "
....
يقترب منهما فجأة ما يشبه المكوك الفضائي يحلق فوق رؤوسهما يتوقف في الهواء يخاطبون " يحيى" وقتاً , يتعرفون على المشكلة , يُفتح باباً من المركبة الفضائية وهم ينظرون إليه , تنزل منه فُقَّاعَةُ هواء كبيرة تشبه البالون الهوائي الكبير, يقترب منهما فيمسك "يحيى" بيد صديقه , وهو يضغط على شيء ما في تلك الفقاعة الهوائية , ولم تمر ثوانٍ معدودة حتى وجدا نفسيهما بداخلها , ترتفع لتعود من حيث جاءت حيث المكوك الفضائي العملاق , يشكرهم "يحيي" وهو يساعد صديقه في خلع سترته الطائرة ليقوموا بصيانتها وتصليحها له ووضعها على جهاز التشغيل ووحدة القياس الداخلي, وهو يفعل مثل ذلك , .........
يتلفت حوله , يستكشف المركبة الفضائية العجيبة التي ابتلعته في جوفها, يجد كائنات غريبة, لا تشبه الانسان , فأوجس منهم خيفة , نظر لصديقه "يحيى" ووجهه منهمك في الحديث مع واحد منهم بصوت خافت, الصوت يأتيه ضعيفاً فلم يفهم حديثهم , حب الفضول دفعه بأن يتجول في المركبة الفضائية, فكر أخيراً بأن يستكشف المكان الذي هو فيه , أخذ احتياطاته .
دُهش عندما وجد بعض الأجهزة تحدثه كما لو كانت تعي وتفهم وتعقل وهي ترشده إلى ما ينبغي فعله وتجيبه عما يريد , تذكر كوكب الصين وما قرأ عنه وعن اختراعاته وأيضاً عن عالم الروبوتات وتطوره وقد قرأ عنه الشيء الكثير, سأل نفسه سؤالاً , وراح السؤال يدور في رأسه , ويكبر :
ــ من الذي اخترع كل هذه الأشياء الغريبة العجيبة .. ؟!!,
ووجد نفسه يردد قول الله تعالى " وعلم الانسان ما لم يعلم " ثم عاد إلى مكانه , ولم يرد أن يطل التجول ولا التفكير في الأمر كثيراً ولا الابتعاد عن صديقه " يحيي" الذي أقدم عليه بابتسامته المعهودة الجميلة الصافية, وهو يردد ما جاء على بال صديقه وهو قول الله تعالي , وكأنه يقرأ أفكاره وما يدور في نفسه
ــ " والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون "
أخذ نفساً عميقاً , تنهد تنهيدة قوية وهو يقول لصاحبه بعدما جلس على كرسي مكتوب عليه السعادة , قائلاً له :
ــ صدق الله العظيم , فعلاً " ويخلق ما لا تعلمون "
هنيهة صمت لا تكاد تسمع فيها إلا أصوات الآلات والإشارات اللاسلكية الكهرومغناطيسية المنبعثة من الأجهزة التي تملأ المكان , ابتسم في نفسه وهو يتذكر ..
" تلك الإشارات والاصوات المنبعثة من الأجهزة اللاسلكية التي سمعها في الماضي وتحديداً في المشفى العام الذي حجز فيه ذات مرة إثر حادثة وقعت له على الطريق , وأيضاً حين ذهب إلى قسم الشرطة ليتم المحضر لهذه الحادثة " , ...........
قطع حبل تفكيره صوت صديقه وهو يقول له بنفس الابتسامة الهادئة الجميلة :
ــ جميل أن نتذكر الماضي , لكن الأجمل ان نعيش الحاضر يا صديقي ونستمتع به..؟
ــ وكيف عرفت أني ذهبت بعقلي إلى الماضي ..؟!!
ــ هذا أمر شرحه يطول , سأحدثك عنه فيما بعد ..
يقترب منه أحد العاملين في المركبة الفضائية , يرحب بهما من جديد , يدنو من الجهاز الذي يعمل عليه , يضغط على أيقوناته يفتح أحد الفولدرات يستف شيئاً , يتابعه في صمت وهو يحاول أن يفهم ماذا يفعل ولكنه لم يستطع , .....
اقترب " أدم" من رأس صديقه ليهمس له في أذنه وهو يشير إلى الكائن الواقف أمام الجهاز:
ــ هل هذا روبرت ..؟!!.
فأجابه بِإمائةٍ من رأسه نافياً ذلك دون أن يلتفت إليه وهو مازال يتابعه باهتمام ,
فأعاد عليه السؤال من جديد بصيغة أخرى تختلف :
ــ هو إنسان معدل إذاً , ملعوب في جيناته " الكروموسومات " يعني
وابتسم ابتسامة خفيفة , التفت إليه " يحيى "وهو يبتسم له ابتسامة عريضة, وقد دنى منه ليوشوشه في أذُنه : ــ لا ,
يندهش من إجابته, وحب الفضول يدفعه بأن يعرف منه أكثر عن حقيقة هذا الكائن الذي يشبه الإنسان وهو ليس إنساناً ولا روبوت على حد قول صديقه ليلقي عليه السؤال من جديد :,
ــ ما هذا الكائن الغريب إذاً ..؟!!, ومن هؤلاء الذين يشبهوننا ويتكلموا مثلنا بل ويتعاملوا مع كل هذه الأجهزة الدقيقة الحساسة المعقدة بكل هذه البراعة والإتقان فائقة النظير ..
تأتيه الإجابة هذه المرة من أحدهم ليشبع فضوله ويهدئ من روعه ويجيبه عن سؤاله الذي بدأ له محيراً كثيراً بعدما التفت إليه الواقف أمام الجهاز بنظرة وابتسامة عريضة غاضبة :
ــ نحن يا عزيزي أدم كائنات فضائية , ولسنا من بني البشر ..!!!
وقع عليه الكلام كالصاعقة , وشعر وكأن دلواً من الماء المثلج قد سكبه عليه, وأحس وكأن
شيئاً غريباً راح يتسرب بداخله شعور غامض غريب لا يعرف معناه ولا مغزاه, وراح يردد في نفسه : ..
" هل أنا مستيقظ ..؟!, وهل فعلاً حقيقة ما أرى ..؟! .. يا ربي .. الأمر فوق الاحتمال , عقلي لا يكاد يصدق, أكاد أجن .. الألفية الثالثة, وكائنات فضائية وجهاً لوجه هكذا , وبيوت معلقة في الفضاء بالكواكب ومدن تطير في الهواء , هل أنا بكامل قواي العقلية , هل أنا بحلم .. لا يمكن أن يكون هذا الأمر حقيقة..!! .. أكيد أنا بحلم , أو في غير وعيي , مستحيل هذا الذي يحدث معي .. من يعطيني عقله .. من يصدق كل هذا الجنون والهوس .. نعم العلم قادر على صنع المستحيلات , وما يشبه المعجزات أيضاً .. لكن إلى هذه الدرجة , وإلى هذا الحد .. أشك في هذا .. ولكن الأمر يبدو منطقياً , على الأقل أنا الأن بالفعل في الألفية الثالثة , أري , وأسمع , وأشاهد أموراً غريبة , وأغرب من الخيال العلمي .."

*********************
على السيد محمد حزين ــ طهطا ــ سوهاج
تمت مساء السبت 20 / 8 / 2022

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى