عبدالله عبدالإله باسلامه - شيخ

ابتلع ريقه مرتبكا وهو يتطلع إلى عيوننا الشاخصة إليه، والمنصتين لحديثه الخافت، تزحزح قليلا في جلسته مائلا نحوي بجذعه - متوددا - وهو يمشط لحيته الكثة المطوية فوق بطنه الضخمة بأنامل رشيقة ذكرتني بصديقي عازف القيثارة ماركس :
- ليس من هب ودب وقال أنا عالم يصبح عالما، الإسلام ياجماعة نظام عالمي عظيم من الإبرة إلى المجرة، لا تحمله إلا عقول عظيمة، ولا تحميه إلا قلوب غيورة، وأنا كما تعرفوني لا أفش سرا لأحد اأتمنني عليه، ولكن كما قلت لكم أن هذا المنحرف جواس صاحب أقبح المذاهب الدخيلة على الإسلام، لم يك يسرني بقدر ماكان يفاخر، ويتباهى بكلامه أمام العلن .

- إحنا عارفين بنزاهتك، وكل الناس يشكروك، أنت بركتنا ياشيخنا.

ابتسم الرجل بارتياح ليس بسبب كلام الحوت صاحب متجر القرية، وتأييد عبود مدير المدرسة، بل لأني هززت راسي مؤمنا على كلامه، رغم أني لا أعرف الشيخ جيدا، ولا الحوت، ولا كثير من أهل قريتي التي أزورها مرة في العام.
لكني لا أجد غير هذه الحركة، عند الاستماع - على مضض - إلى أحاديث الناس المملة، حول مشاكلهم المعقدة التي لا تنتهي، والتي تحيل إجازتي- الإجبارية - دائما إلى كابوس علي تحمله، وأحيانا أعلق بشكل سطحي - من باب المجاملة - لكن مع اقتراب موعد انتهاء إجازتي وجدت في نفسي أريحية، ورغبة في تبادل الحديث خاصة في هذا الموضوع الغريب..
- هذا يسمى انحراف نفسي ياشيخ وليس للمذهبية فيه دخل.
ابتسم الشيخ وهو يربت على كتفي :
- أنت على نياتك يا دكتور .. وعليك أن تحمد الله أنك عايش طول عمرك في الخارج، ولا تعرف كيف تؤثر المذاهب الدخيلة على الإسلام في حياة المسلمين .. وكيف تحول أقرب الناس إليك من مؤمن إلى كافر، كما حدث معي.. أنا الذي زوجت هذا الرجيم ربيبتي فانقلب علي شيطانا مريدا..

تدخل الحوت مؤيدا وهو يطلق سحابة من دخان النارجيلة :
- كلام الشيخ صحيح المذاهب خربت قريتنا وهدفها قطع ارزاقنا.

- وتغيير عقولنا .. تصدق يادكتور أن المجنون طلب مني مساعدته في نشر أفكاره داخل المدرسة لولا أهل الذكر ال .ِِ.

- لا لا .. لولا الله سبحانه وتعالى، ثم لولاك أنت يا مدير المدرسة أنت البطل الحقيقي لأنك تسمع وتطيع أهل الذكر، وحتى نكون منصفين فلكل واحد دوره وفضله .. ولنا أمل كبير في دورك العظيم يا دكتور بمجرد استقرارك في القرية.

شعرت بإنقباض حاد وبغيض من فكرة عودتي المصيرية، التي تزيد من تعملق غول يلتهم طموحاتي، ويقض مضجعي؛ كوني الإبن الوحيد لزعيم القرية، والذي (سيأتي يوم أحمل فيه الزعامة) كما تدندن أمي بين الحين والآخر، ومع اقتراب موعد انتهاء دراستي في الخارج لم أجد بدا من قضاء أغلب أوقات إجازتي في قهوة القرية، هربا من مجلس أبي، ولكي أوحي للجميع أنني لا أحسن شيئا غير الدراسة، متحملا الدوشة، وشاي بلبل الأسود الذي أظل أحملق فيه حتى يبرد .
- مارأيك يادكتور ؟!
- هه..اه ..صحيح أن قريتنا كبيرة شوية لكن وسائل التواصل محدودة جدا، ولا زال التلفزيون ياشيخ نافذتها الى العالم، والكلام الذي قلته عن هذا الرجل غريب شوية.

- لا غريب ولا حاجة ولا تستبعد شيء من هذا الزنديق وأمثاله.. وما لفت نظري وحاشاكم ياسادة هو إصرار السفيه عند حديثه على ذلك الشيء الذي لا تكتفي البنت بملاعبته بل تقوم ب ..ب..
هرش المدير فخذه بعصبية :
- بماذا يا شيخ ؟!!!
- أنتم تعلمون الباقي .. مثل .. يعني مثل.. تلك الأفلام .. استغفر الله.. استغفر الله.. اس

باغتتنا الموسيقى الصاخبة التي انبعثت بشكل مفاجئ من جهاز ال(أم بي ثري) الصغير، المعلق فوق رؤوسنا أثارت سخط الشيخ:
- اتق الله يا بلبل .. قلت لك ألف مرة أن الغناء حرام .
بادر بلبل إلى قطع الصوت :
- عفوا يا شيخ .. ظننتك خرجت .
- سواء بقيت أو خرجت كله حرام.. أنت ناسي إنك لا زلت مسحور؟! وإن باقي معاك جلسات رقية، إرحم نفسك فأنت مريض، وأعرج بدون علة وكله بسبب ذنوب الغناء.
- ما نسيت ياشيخ الله يخليك لكن هذه رغبة الزبائن سامحني.

أشاح الرجل بنظره بعيدا إلى الطريق الترابية مسنغرقا في الإستغفار وهو يمرر ابهاميه على عقد أصابعه بخفة ومهارة، فيما تعالى صوت قرقرة النارجيلة إثر مصة قوية من الحوت عكست العيون المحدقة في الفراغ بصمت لهيب جمراتها:
- سبحان الله .. تقولون أن الرجل كان عنينا واليوم صار فحلا !!
عقب المدير :
- أي والله يا دكتور ..وكله بفضل البنت الهبلا.

ضرب الحوت الطاولة براحة يده الغليظة وهو ينفث الدخان من منخريه:
- علي الطلاق من نسواني الأربع ما الهبل إلا حريمنا .
- لكن كيف تعلمت البنت هذا الكلام؟!

لم أشعر أنني طرحت هذا السؤال على نفسي بصوت مرتفع حتى توجهت الأنظار إلى الشيخ الذي أعاد الكأس وكان قريبا من شفتيه إلى الطاولة :
- لا ..لا ..لا تظلموا البنت ياجماعة .. أنا ربيت اليتيمة في بيتي تربية صالحة.. وزوجتها على نفقتي طالبا وجه الله تعالى ..أنا متاكد بأن الفضل بعد الله يعود إلى علاج العنة التي أنصح دائما بها رجال القرية بشرط أن تكون طازجة .

- من هذه الناحية لا توصي حريص، لن تجد القرية عسل سدر* أصلي، وحبة البركة الطازجة، وحتى البخور، والعطور وكل لوازم الخميس مثل التي معي ولو لفوا الأرض لف .

أفرغ المدير بقية محتويات الكأس في جوفه، وأخذ يمضغ النفالة :
- المشكلة ليست فينا..المشكلة في... آه مارأيكم لو نخلي البنت تعطي دروس للحريم .. دروس خاصة يعني .
هتف الشيخ مستنكرا :
- دروس !! اتق الله يا مدير دروس في الفاحشة؟
رد المدير وهو ينظر إلي مستنجدا :
- سرية وحصرية لحريمنا بس..وكله في الحلال.
- نسيت إن البنت خرساء.
- خرساء !!
ابتسم الشيخ كاشفا عن صفين من القواطع القصيرة البيضاء .
- ايوه يا دكتور .. لا تسمع ولا تتكلم.. بنت مسكينة.
تراجع المدير بمقعده وهو يضرب جبهته :
- اووه صحيح نسيت .. طيب والحل ؟
اختفت ابتسامة الشيخ وتسائل منزعجا :
- حل!! حل ماذا يا مدير؟!
رد الأخير متوسلا :
- أنت فاهم قصدي .. وفاهم كيف نعاني.. يعني لو..
- استغفر الله العظيم .
- لا حياء في الدين صحيح ياشيخنا.. شوف لنا حل .. أو يرضيك يجي يوم أطلق فيه نسواني الأربعة.
شعرت بأستياء الرجل فتدخلت بعفوية ممازحا :
- ما رأيكم في الأفلام الي قال عنها الشيخ.
مرت ثوان ظننت أنهم سينفجرون ضحكا..
- أفلام !! أي أفلام ؟!!
شعرت بنبرة صوت الشيخ مع ملامح وجهه تتعكر..
- الأفلام التي قلت إن البنت تفعل مثلها!
- ومن قال أنني شاهدت هذه الافلام؟!
اكتسحني شعور بالندم والحرج :
- أنت.. أنت قلت أنها تفعل مثل تلك الأفلام .
تفاجأت به ينهض بجسده الضخم منفعلا حتى سقطت الكؤوس على بعضها في الصحن :
- هذا افتراء كبير ..ومن قال لك أني شاهدت مثل هذه المحرمات؟!! عيب.. عيب عليك، وأنت دكتور محترم يقول مثل هذا الكلام وعلى من؟!! على شيخ قران، وإمام، ومفتي القرية.
اجفلت من سطوة الرجل وهو ينظر إلى بعينين تتطاير منهما الشرر؛ فلم أجد بدا من الدفاع عن موقفي لحماية نفسي :
- ومن أين عرفت إن فيه أفلام تعمل هذه الحركات؟! إلا إذا كنت شاهدتها.. وحتى البنت ربما تكون شافت حاجة، وإلا كيف تعلمت وهي خرساء؟!! وفي قرية بعيدة عن العالم مثل هذا المكان و..
شهر سبابته الرقيقة في وجهي وهو يغادر المكان :
- اقسم بالله لولا أنك ضيف، وابن الزعيم لكان لي معك خبر تاني.
- خبر ثاني! تكفرني يعني !!.
تدخل الحوت وهو ينهض ليلحق به:
- صلوا على النبي ياجماعة ..حصل خير يا دكتور.. لحظة يا شيخ ..ياشيخ..

غادرت عائدا إلى البيت رغم توسلات المدير بالبقاء، لأستيقظ قبل الظهر على صوت أمي :
- القرية مقلوبة وأنت مكانك نايم يا دكتور .. بيقولوا إن الشيخ هرب ليلة أمس ..أخرج للناس أبوك في المديرية.. قالوا أنهم اكتشفوا مصايب في بيته .

شعرت بالرهبة لرؤية جمع كبير من أهالي القرية قد احتشدوا في ساحة البيت، في مقدمتهم المدير، والحوت، ورجل نحيل له لحية خفيفة، ويلبس عمامة قصيرة تقدم مني مخاطبا الناس بصوت جهوري:
- الله أكبر ..جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا، بفضل زعيمنا بن الزعيم كشفنا حقيقة الشيخ المجرم.
صعد المدير درجات مدخل البيت:
- أيوه كنت أنا والدكتور أول من كشف الدجال، الزنديق، الخبيث قولوا الله أكبر ..وبهذه المناسبة أمر شيخنا الجديد بتوزيع ماء الورد، وأصابع بخور الصندل الأصلية، مجانا على بيوت القرية لتطهيرها من نجاسة المجرم، الذي كان وراء كل مشاكل الناس .. قولوا الحمد لله...

أخذ الجمع يرددون الهتاف، ويسلمون علي بحرارة، ويحتفلون بصاحب اللحية الخفيفة، والعمامة القصيرة الذي تشارك المدير وبلبل حمله فوق كتفيهما، وأخذا يدوران به وسط تهليل وفرح الحشد، سألت الحوت الذي بدا أكثرهم فرحا عمن يكون الرجل فرد بإكبار :
- هذا الإمام جواس شيخ القرية الجديد .


======================
* عسل السدر أحد أجود أنواع العسل .


عبدالله عبدالإله باسلامه.
اليمن / ذمار .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى