أسماء محمد مصطفى - ورد السماء

(الى ابنتي الراحلة الحاضرة، الرسامة الملهمة سماء الأمير التي نشرت الأمل والفرح بالرغم من معاناتها مع المرض والإعاقة)
في ظهيرة آب، بعد انقشاع غيوم الحرب التي أمطرت على البيوت والقلوب سخاماً، أرسلت الشمس جدائل مختلفة الألوان الى تلك البلدة، ماجعلَ الناس يفتحون أفواههم مذهولين أمام ذلك الحدث العجائبي الذي لم يشهدوه من قبل، تدلت من نهاية إحدى الجدائل جوهرة تلألأت بالألوان، وهبطت على حقل من حقول البلدة، لتخرج منها وردة بيضاء وجهها وجه صبية جميلة وورقتاها ذراعان بشريان ينتهيان الى يدين ناعمتين بأصابع جميلة مستدقة وأظافر مطلية بألوان عدّة.
في تلك الظهيرة، تنبه أهالي البلدة الى أنّ الهواء هبّ عليلاً، وبما لايشبه آب اللهاب، وأنّ عطراً أخاذاً غريباً عما اعتادته أنوفهم طغى على الأجواء، فأخذوا يبحثون عن مصدر العطر.. حتى وجدوا أنه يزداد بإتجاههم نحو الوردة الصبية، بل تيقنوا من أنها مصدره حين توقفوا عندها وقد أدهشهم شكلها الغريب الذي لايشبه بقية الورود. قالت لهم بصوت رقيق إنها هبطت من السماء عبر جديلة من جدائل الشمس.. فأطلقوا عليها اسم (ورد السماء).
أثار شكل ورد السماء فضول الأطفال كثيراً، حتى قبل أن يروا عجائبها. أحبوها من اول نظرة ، لبشاشة وجهها وكلامها الجميل الذي تضمن حكماً ومواعظَ أدهشت الكبار قبل الصغار.. من أين لهذا الوردة أن تحمل كل هذه الخبرة والحكمة، وهي مجرد وردة تبدو من طراوتها أنها ولدت تواً؟ تداول الناس المتجمهرون هذا السؤال.
حين رأت ورد السماء أطفالاً يركضون ويتقافزون، وعصافيرَ وفراشاتٍ تحلق، سألت نفسها.. لماذا أنا ثابتة في الأرض.. بلاساقين.. بلا قدمين.. بلا جناحين؟! أطلقت من عينيها دموعاً تحولت الى قطرات من ألوان الأكريليك. أخذت ورد السماء تلعب بالألوان، تصنع منها عجائن كروية تلقيها هنا وهناك، كانت تبتسم وتضحك مسرورة وهي تفعل ذلك. ألقت عجينة على وردة، فتصاعد عطر أخاذ ، وعلى عصفور، فطار مبتهجا بريشه الملون، وعلى فراشة، فحلقت بجناحين تتغير ألوانهما لحظة بعد أخرى، وعلى غصن ، فنبتت فيه أوراق خضر.
تحلق الأطفال حولها، وقد علت وجوههم النضرة دهشة وشفاههم البريئة أسئلة . انتبهت ورد السماء الى مخلوقات من وجع.. هذا طفل بلاساق، يتعكز ، فألقت عليه عجينة ملونة، فقام يركض فرحاً ، وذاك طفل جائع ، في عينه دمعة ، لونتها بالأحمر وصارت فراولة ، وتلك طفلة حافية القدمين ألقت عليهما ورد السماء عجينتين ، فركضت الطفلة فرحة بحذائيها اللماعين. رسمت ورد السماء على الأثير بالونات حلّق بها الصغار الى فضاء اللعب، كما رسمت الكثير من القلوب الجميلة، قائلة إنها لمن يفتقد الحب، أخذت إحدى العجائز قلباً، كانت تتمتم بأنها باتت وحيدة بعد فقدانها أولادها جميعاً في الحرب، قالت لها ورد السماء.. خذي قلوباً بعدد أولادك، وسميها بأسمائهم. ثم ألقت على أحد العابسين شفتين من شفاه كثيرة رسمتها، قائلة له.. من حقك أن تبتسم ، كما الآخرين .
وجد الأطفال واليافعون الكثير من العجائن الملونة عند ورد السماء، فأعطتهم منها، وأشارت عليهم أن يُبهجوا جدران بيوتهم بها. اختفى السخام تحت ألوان الفرح، فأصبح منظر البلدة مع جذوع الأشجار التي أرسلت اليها ورد السماء خلطة ألوان، مشهداً باهر الجمال كأنه من حكاية خرافية. لم تعرف البلدة فرحاً كهذا من قبل، كأنه احتفال بنصر عارم على عدو لدود بعد حرب طويلة انتهت بلاخسائر.. ماهذه الضجة التي أحدثها الفرح الذي جاءت به ورد السماء؟ سأل الناس.
مع بدء غروب الشمس، نظرت ورد السماء بصمتٍ الى ماحولها، ثم أمسكت بطرف إحدى الجدائل، لتصعد معها وتتوارى عن الأنظار، ثم نبت لها جناحان ملونان، فحلقت خارج قرص الشمس.
بهبوط الليل حزن الصغار والكبار لرحيلها. لم يتوقعوا أن تختفي سريعاً في نهاية يوم ظهورها حاملة سرّها معها. ثم حدث شيء غير مألوف، تصاعد نحيب، كانت الورود والعصافير والفراشات تبكي كالبشر، لم تنم كماتفعل كل ليلة، ومعها الأطفال قد فتحوا نوافذ بيوتهم وهم يبكون، لمسَ بعضهم دموعه آملاً في أن تتحول الى عجائن ملونة، كدموع صديقتهم النقية.. لكن، أين ورد السماء لنغنيَ معها ونلعب بكراتها الملونة؟
توقفوا عن السؤال حين فوجئوا بحدث آخر غريب وهم ينظرون الى السماء باحثين عن صديقتهم، كانت ثمة نجمة بعيدة تشع ويتغير لونها كل لحظة، اقتربت أشعتها من الأرض، وتناثرت منها قلوب ملونة. استحال النحيب الى غناء بينما النجمة تستمر بتوهجها من بعيد قريب، والقلوب تهبط على أجنحة النسيم زخات زخات فيما تنطلق منها في الأرجاء موسيقا جعلت الأطفال يرقصون، ومعها عجائن كروية صغيرة جاءت من النجمة، وغاصت في تراب الأرض، سرعان مانبتت منها ورود، وهذا أدهش الجميع، حيث لم يعهدوا من قبل أن ينبت زرع ليلاً، زادت دهشتهم حين تصاعد من الورود ذلك العطر العجيب.. عطر ورد السماء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى