عبدالكبير بن بيش - في ذكرى رحيل إدريس الخوري.. آلام فارتر وانصراف العشاق

في البدء ينتخب الكاتب عزلته، ومع تقدمه في العمر تصبح العزلة شرنقته المرعبة كما عبر عن ذلك ألبير كامو على لسان المجنون كالغولا: ما أفظع أن يكون المرء على صواب وأن يذهب مع ذلك للقاء الخاتمة.
إدريس الخوري فارس» نهاية الكلام «، لم يأت إلى الحاضرة على صهوة جواد مطهم بالمعرفة، ولم يجد أمامه مطبلين ولا مريدين يدعون له بالنصر والتأييد وما عمل حسابا قط للذيوع والانتشار، إذ أقبل كبرق صاعق من حي شعبي يحمل اسم درب غلف، معتبرا أن الكتابة معركة وجود، ولما لم ينتبه إليه أحد وضاقت به جغرافية المكان وعاد من تونس على إثر تكوين بسيط في الصحافة، رفع سيفه البتار سيف الكلمة ليحرر بها رقبة المعنى من خطورة طنطنة الذباب الورقي (الصحافة المكتوبة) وضبابية (الخطاب الأدبي) كما كان سائدا في الصالونات والأقسام الجامعية، وما تعج به مصنفات الكتب والمجلات المشرقية كالكواكب والمصور والعربي، قبل أن تكنسها ثقافة مغايرة تجلت في ألق» الفصول» و»الكرمل» و»أنفاس» المغربية.. حارب إدريس حتى تعرق من أجل قاموس خاص به وسط لجة من التقاطعات الثقافية والتجاذبات الإيديولوجية والنعرات الحزبية، وفي كل شيء كان يلتقي بنقيضه، هذا النقيض هو الذي أكسبه وعيا كشافا وليس وعيا معلوما.
إدريس شخصية مستعصية على التصنيف؛ حاضر كالطقس الاجتماعي في كل روايات نجيب محفوظ، هو جان فالجان «هوجو» الذي فر من السجن وأصبح عمدة، عدا أن إدريس بارح أسوار سجن صنعه برضاه، سجن الكتابة، وهو أيضا أبله دوستوفسكي الذي يقول على لسان ميشكين:
« أنا لم أفسد أحدا، لقد أردت أن أحيى لإسعاد الجميع واكتشاف الحقيقة ونشرها… فماذا كانت النتيجة؟ لاشيء.
إنه غجري بمعنى ما وضابط لغجريته، هو بكل بساطة شخصية روائية وسينمائية لم يحبل بها خيال أصحاب هذه الاجناس الفنية، لكن المطمئن أن القاص الراحل
عبد الجبار السحيمي سجل له حضورا لافتا في واحدة من قصصه الرائعة:
«سيدة المرايا» المنشورة في مجلة آفاق عدد11 وتتحدث القصة عن امرأة مستلبة وقد عادت من الغرب بعد اكتشاف متاحفه وحضور عروض أزيائه وبعض حفلاته، لتقرر فتح معرض للفنون التشكيلية بمدينة الرباط على أن تستدعي له نخبة من المثقفين والفنانين والصحفيين، يكتب الرائد عبد الجبار السحيمي رطب الله مضجعه:
« كانوا يشربون ويتحدثون، يتحدثون ويشربون انتشوا قليلا، كانوا في أعماقهم يعرفون أن المرأة والرجل يلتهيان بهم، ويفتحان نافذة على هذا العالم الجديد، الموضة، المثقفين والثقافة، الفنانين والفن، لكن التنظير في سهرة سكر، في بيت جميل مع صوت الغيوان، لم يكن محتملا.. ثم يضيف في نهاية القصة:
وحده إدريس، لم يتمالك نفسه، وقد ركبته عدائيته وعريه حين يشرب، فأطلق ضحكته المتفجرة العربيدة الساخرة. نهره حمادي خوفا من تماديه، لكن إدريس كان قد امتلأ بالسكر على الجوع كعادته. فتح فمه يقيء البيرة والنبيذ الأحمر. انزعجت الزوجة واختفى ظرف الزوج، وهو يرى أن هناك عالما صعبا لا ينفتح على زجاجات الويسكي. سارعت الخادمة على نداء السيدة، وحمل إدريس كأسه: « في صحة الفن والصالونات والتقدمية…وبدأت الاستعدادات عجلى لتقديم العشاء».
إدريس أستاذ فلسفة لدرس خاص بنيته عدم الاطمئنان لثقافة الارتياح والمتداول، وهو أيضا رؤية محلية/كونية للمجرى الثابت في التركيب اللغوي والسرد وما قد تفضي إليه تداعيات السقوط في الأوهام المثالية اجتماعيا وسياسيا لدى فريق من الكتاب، استطاع بعين الوشق الأحمر أن ينفذ إلى تعقيدات الأزمنة المعاصرة وأن يُسمع أصوات من لا أصوات لهم إلا في مواسم الانتخابات والمناسبات الرسمية، تنفس من خلال رئتهم وتكلم لغتهم والتصق براهنيتهم رغم أنه كان يقول عندما يضيق صدره من بعض ممارساتهم اللا محسوبة:
« الطبقة الشعبية مقودة تعيا ما تدافع عليها وتخذلك».
إدريس شريب من بلانيط أثينا على عهد باخوص، يطيل لحظة الإمتاع والمؤانسة متى وجدت حتى صباحها، ولأنه كان كائنا ليليا بامتياز فلطالما استغربت لإيجاده الوقت الكافي و الزمن المفترض ليكتب مقالة يومية أو ليعد مجموعة قصصية، طبعا لم يكن مطالبا بكتابة الافتتاحية السياسية ولا بتحليل التوازنات الكبرى ولا بالإشراف على أطروحة جامعية، لكنه كان متاحا من خلال التناول والتأويل والممارسة النقدية أحيانا، وطينة هؤلاء الكتاب لا يهمهم صنع الحدث لأنهم يعيشونه ويفجرونه من الداخل بتعابير موحية، وحوار يجري على لسان أبطال أعمال قصصية بجمالية سرد مطبوع بالتأمل ووصف دقيق يحيل على الكتابة بالصورة كما هي في: «سوناتات لخريف قادم»، وفي ما يلي مقتطف مقتطع من «فضاءات»، الصفحة 136، كتب بعد قدومه من زيارة لموسكو:
«… كان الباليه الجليدي أشبه بطقس خرافي، هل هؤلاء الشبان الطائرون فوق البياض اللزج كائنات أم آلات ميكانيكية؟ يبدأ الحفل بالباليه الكلاسيكي ثم الحديث (الديسكو والروك) ثم يدخل في الحكايات القديمة: الاستلهام من بعض حكايات ألف ليلة وليلة ومن التراث الفرعوني عبر تحديث الحكاية في الرقص وفي الأداء، ومن هذا الطقس الجسدي اللين تخرج عشرات الصغيرات مثل شوشوفنا ليملأن الدنيا بهجة ونضارة، الجسد طائر ولا نهاية لمداه المطلق، انزياح تام على الجليد والجسد يتكلم عبر الحركات والإيماءات…إلى أن يفاجئنا بسؤال غريب: ما رأي الحاجة خناثة بنونة في هذا الطقس الفني الجميل؟»
هذا النص متحرك في لغته وانسيابيته وكأن المتلقي أمام لوحة رسام لكي يستكمل رؤيته خرج عن إطارها، لذا جاء السؤال الأخير كتكسير للسرد البطيء والعادي الذي يعزز الحكي ولا يخلخله.
إدريس مولد للطاقة المتجددة قبل أن يجعلها البلد من أولوياته، يرقد قليلا ويستيقظ باكرا. يستحم بالماء البارد ثم يستعد لكتابة مقالة أو مشروع قصة. يقهقه عاليا بعد المنتصف في المزارات الليلية فتعرف أنه هناك؛ إنه عين المدينة التي لا تنام. يتحرك في جميع الاتجاهات: معرض في البيضاء، مهرجان في اكادير، لقاء في تطوان، قراءة قصصية في سطات، رحلة مزاجية للراشيدية، لا يكل ولا يمل كالنملة التي علمت سيدنا سليمان درس الصعود والهبوط، وهي تحمل عبئا أكبر من حجمها. يهزأ وهزؤه بسعة الدمعة التي تسقط من عين المهرج على خده، والجمهور يرى المهرج ولا يرى الدمعة التي من خلالها يضحكنا، من تباين كهذا تمخض ال»حزن في الرأس وفي القلب» ليستمر الوجع والألم أعواما، واشرأبت «البدايات» التي تتأرجح بين الصدق والاحتمال فغاب الأول وبقي الاحتمال، وتجلت «الأيام والليالي» لتسائل الواقع لا لتبرره فانفض التبرير وتكرس الواقع، وطفحت الفضاءات؛ فضاءاتنا بـ «التتياك السياسي» وضاع معه كل شيء في «مدينة التراب» خاصة في قصة «عيروض» التي أبدى فيها إدريس رأيه بوضوح حول علاقة المثقف بالسلطة.
لكل كاتب حياته الخاصة، وبالتالي حديقته السرية ذات الوجه المزدوج، وجه يانوس المتمكن من رؤية الماضي والمستقبل، والذي يصارع حاضره بصدع الشقوق والألثام وتقويم اعوجاج طفيليات الحقل دون جدوى، فتزدحم الأفكار في رأسه لتغدو وبالا عليه. فإما أن يختار التعبير المباشر أو ينحاز لعلماء الاستعارة، وفي كلتا الحالتين لن تسعفه العبارة في إيجاد عوالم غير التي تتحكم في المشهد الاجتماعي أمامه، لأن ثقافة البلد تحتل درجة متدنية من اهتمام مسؤولي البلد.
في هكذا وضع يلجأ الكاتب إلى إخفاء عقد وانزياحات لا يرضى أن يعرفها عنه أحد، وتخبرنا كتب التاريخ أن الفيلسوف أفلاطون كان مثليا إذن ليس سويا ، وأن جون جاك روسو الذي أقام الدنيا وأقعدها في تربية الطفل إميل، أودع ابنه ملجأ للأيتام ليكبر فيه، وأن جنون العظمة جعل خليل جبران يصنع النبي الذي تحدث بلسانه، وأن العالم وضمنه فرنسا سكتت عن نوبة الكآبة التي عصفت ب»ألتيسير» فخنق زوجته بمخدة، وأن العديد من دعاة الثقافة مغاربة/مصريين/ وسوريين… انبطحوا وتم إدخالهم للصف بعد تمرد شاق وعسير. إدريس ظل هو إدريس؛ فاعل ومتفاعل، مبتدأ وخبر، حال وبدل، دال ومدلول بلغة اللسانيين. اختار أن تورطه بطلة حياته؛ كميتية اللون وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
لإدريس علاقات متعددة لم تقتصر على الأدباء والأكاديميين، فقد جايل لاعبي كرة قدم، كون معهم لمة ومنهم: بيتشو وليمان وبصير وعبد الله باخا، وروابط جيدة مع التشكيليين على رأسهم الفنان ميلود لبيض والنحات عبد الرحمان رحول، وكان صديقا لاثنين من رموز الأغنية المغربية: محمد الحياني والمطرب الشعبي، محمد باعوث. كما كان مستمعا جيدا للراي شارل ومعلمي كناوة، وفي المسرح كانت علاقته برائد المسرح العربي الطيب الصديقي خارج الجدال، أما عن الروائيين الجدد فكان يردد مازحا: يلعن بو الحداثة قدام «قنديل أم هاشم» ليحيى حقي.
دخل إدريس على خط مجلة الوحدة الليبية والتي تصدر عن المجلس الأعلى للثقافة العربية، وتدعو المثقفين لإنجاز دراسات حول مواضيع دسمة ك: الاستهلاك الثقافي والبحث العلمي في الوطن العربي، دور المثقف في عملية التغيير، الثورة الاجتماعية في الوطن العربي ومنها: قضايا الطفولة والشباب، وواقع المرأة العربية بين الواقع والتطلعات، إلى غير ذلك من دراسات حالمة لم تفض للإشعاع المطلوب، غير أن إدريس تمرد وتفرد بنشر قصة جريئة في أدب الطفولة بعنوان الفراشة، (الوحدة عدد25) ختمها بمشهد ترادفي سينمائي:
«كان يرتعد (يقصد الطفل) من الفرح ومن الخوف، ربما ستطير من بين يديه، ربما تموت بفضل حرارتها، لم يكن سمير يعرف كيف يتم لمس الفراشة، فهي لا جسم لها لتتحمل حرارة اليدين الصغيرتين، ولكن لها روح الطيران من مكان إلى آخر بعيد، جاءت أمه وراقبت ماذا سيفعله؟ ففك الطفل أزرار سرواله القصير حتى أصبح نصفه عاريا وأخذ يحك الفراشة القرنفلية فوق عضوه الصغير وهو يضحك، قالت الأم:
« ماذا تفعل أيها الكلب؟
رد الطفل:
« أريد أن أصبح رجلا
تبسمت الأم وقالت: الله يمسخك.
استمر سمير يفعل ما بدا له إلى أن ذابت الفراشة بين يديه وفوق عضوه الصغير، كان يضحك غير مبال بأمه، بعد برهة أشرقت الشمس فتكاثرت الفراشات.
هذه الأقصوصة المضادة لحياء عربي مزعوم، جعلت النقاد يتحدثون عن وقاحة إدريس وعلاقته بالأدب النظيف قبل أكثر من ثلاثين عاما؛ إذا كان الأمر كذلك فكيف قبلت مجلة الوحدة نشرها علما أن خط تحريرها محافظ،
تتأسس فلسفته على خطاب التواصل بين النخب؟ هذا هو إدريس يقول ما لا يقال ويغرد خارج الجوقة.
في مقال عنونه الأستاذ الراحل قمري بشيربـ:» الكتابة العارية والاستعارة الشاردة» يقول في مجلة آفاق عدد 9: (ما يسترعي الانتباه- بل ويذهلنا- كمتقبلين للنص في كتابة الخوري كباث هو أنها تجنح إلى الابتعاد عن التكثيف والشعرية والإيحاء عن قصد وتنساق إلى الإنشائية البسيطة في التركيب والأسلوب، وتقنع بما دون النجوم باختيار كتابة عارية تعمد على الالتقاط والتسجيل واقتفاء عمود القصة- قياسا على عمود الشعر المستهلك عند السلف الصالح: ولم لا؟)
ومرة أخرى هذا هو الخوري؛ له طقسه الخاص في الكتابة، لا يثقل متونه القصصية بالمحسنات اللفظية، ولا بالمرجعيات المعقدة التي تضيع معها المفاهيم المتقاسمة، يهمه الحاضر بتفاصيله المجزأة، ويفلح في رسم شخصياته وشخوصه والعلاقات بينها، مقتلعا منها حوارا دالا على وضعيتها الاجتماعية وحالاتها النفسية مراهنا على تماثليتها بين الواقع ورمزية الرؤيا الإبداعية، مسجلا اللحظات المنفلتة من المراحل المعاشة في الثقافة والفن والسياسة وفق أسلوب سلس يصب في منطقة السهل الممتنع، بعيدا عن تطاول (المتطفلين) الذين كان يصفهم علانية بالمدعين وشعراء الجلبانة.
له مرتع تعبيري يتسكع داخله وفي أروقته ولا يعتمده للكتابة العالمة، لكنه يستعمله مع المقربين والاصدقاء ومنه:
– وتا سير
– هذاك واحد المقلاع كبير
– حقير ( في وصف من لا يرغب في الحديث معه)
– الصمت اللمط
– اللاكس فاكس
– اعطيني واحد الثامنة (نصف ليتر)
– زعما انت هو دوستوفسكي؟
انتهى الكلام، وتعابير أخرى أرقاها: انت من تكون وماذا تمثل؟-
حكى لي السي ادريس في مزار «لامارن» عشية أمسية هادئة أنه ذات رمضان ولتبديد الوقت، نزل إلى ما وراء حي الملاح في المدينة العتيقة حيث يتنافس القشاشون في بيع بعض اللقى والمتلاشيات، فأثار انتباهه رجل عجوز يستعرض سلعته فوق كارتون ، كانت بضاعته مكونة من: نصف ملعقة، علبة دواء فارغة، أنبوب مطاطي قصير، سطل بلا قعر، بقايا كتاب متسخ الأوراق وفلس ريال قديم على واجهته راية سداسية. قال للبائع: بكم تبيع؟ أجابه بعد معاينة بضاعته:
« بالكارطون بكل شي اعطيني درهم. قهقه إدريس وناول الرجل عشرين درهما وانصرف لحال سبيله. سألته: هل ستكتب هذه القصة.. قاطعني: القصيرة جدا؟ وطفق يقهقه حتى انتقلت عدوى الضحك إلى بعض زوار المزار.
في جولة أخرى وأثناء زيارتنا لإقليم بولمان في إطار البرنامج الإذاعي قافلة التنمية، سألني إدريس أن أصحبه إلى أي دكان أو مقهى شعبي. استفسرته لم؟ قال: « اللحم دار لي القبض؛ لغذا بحولي ولعشا بحولي بزاف. بغيت شوية ديال لعدس ولا الطون بلحرور. طلبت من سائق العمالة أن يأخذنا إلى دكان قريب أو مقهى غير بعيد. لاحظ إدريس أن السائق ليس على ما يرام فتوجه إليه: إلى كان يضايقك بلاش. فاجأني رد السائق: الحانوت بعيد، وأنا هذي هي الفرصة فاش كناكل المشوي، راه كندوزو غي فوجوهكم. نظر إلي إدريس وانفجر ضاحكا. هاهاها. هذا المازح الضاحك المتفكه الساخر النديم يجد نفسه في أخريات حياته كراوي الأستاذ محمد الهرادي في اللوز المر.(الصفحة20)
« علي أن أطيق وجودي حتى لا أملأه بالبكاء».
بهذه الجملة الملخصة وبما يليق بمقامك، أستميحك عذرا معلمي وأستاذي إدريس لأتسلل تحت جلدك وأستقرئ بوحك وأستجلي خلجاتك، وأرتجل على لسانك هذا المونولوج الذي حملته الكثير مما قلت ومما تضمر:
ضعف البصر ووهنت حبال الصوت. هزل الجسم وغدا كقامة نخلة مجوفة، حتى الخطى لم تعد واثقة؛ أقول الآن مع دون دييغ في مسرحية «السيد»:
«يا للعار! يا لليأس! آه منك أرذل العمر! ما فائدة عيش أتلقى بعده هذه المهانة؟
أشعر أني وصلت أقسى درجات العزلة، إنها تستهلكني ببطء. تلاشيني كرجع صدى موال مغنية تصدح في سفوح جبال الريف، وها قد طوتني الأيام طيا وتركتني وحدي ألعق جراحي في صحراء تمور برؤاي المتصدعة، بيني وبين حر الواقع متواليتان واحدة للتوازن والأخرى انطباعية؛ أنا انطباعي ومن بعد؟ أذكر أني كتبت في سلسلة شراع:(كمثل الحمار يحمل أسفارا، هكذا أنت، متنقلا من عربة قطار إلى عربة أخرى، حاملا حروفك الأبجدية المضطربة فوق ظهرك كما لو كانت سلعة بائرة، قل لي أيها الأخ الشقي، يا من يتوهم أنه مثقف رمزي، هل أنت كاتب أم عطار؟) هاهاها.. يجر الأدب أديبه إلى ملكوت عبقر فإن لم يستطع يطوح به في غياهب النسيان ويعرضه لهرطقة اللسان، أما وقد آن الأوان أيها الكاتب المتشظي فاحمل حقائبك وانصرف. أنفك القاني لا يعني أنك فالسطاف وعطب رجلك التاريخي لا يجعل منك تيمورلينك* وإن كنت كذلك، فمرده لمجرد صدفة بيولوجية…أنا ربما فارتر كما تصوره خيال الشاعر، كائن خيالي وثائر على أحكام القدر، متعطش للملذات كأي بشر، طيب القلب معقد المشاعر لدرجة الغلو والتطرف، عجباتكم هدي هاها. لجوته امرأة اسمها شارلوت، وهي موجودة في حياة كل رجل إلاي، تعشعش في دماغي فحسب، وبهذا المعنى أصبح كشاعر مع ناشئة الأدب الذي قال يوما في حضرة جلالة الملك*(تفصيله في نهاية المقال)
« مولاي لي في القصيد ألف بيت وبيت وليس لي بيت».
فلا لي ليلى ولا ريتا ولا كوزيت، ومع ذلك ففي البدايات وتحديدا في قصة الرجال لا يتشابهون ذكرت رقية بخير: (مططت رقية عنقها مثل سلحفاة وفتحت فخذيها بشكل بشع في محاولة للحد من الآلام: ربي ربي ربي ربي ربي. أنات طويلة وموجعة تصاحب محاولة رقية اليائسة للتخلص من الوليد، عندها بدأت تبتهل إلى الله وتتضرع إليه، بكت رقية طويلا وتمنت ألا تفتح بعد الآن فخذيها لأي رجل)…رقية مبدعة ولكن غي كتكذب غتعاود تحل رجليها هاهاها. كل النساء نميمة! و(الكتابة كمشروع لفهم جدلية الأشياء والعلاقات نميمة مزدوجة: نميمة فينا ونميمة في الآخرين، أولئك الذين لا يروننا حين ننظر إليهم، الذين نتحدث عنهم بالنيابة خارج إرادتهم المقهورة، الذين لا صوت لهم والذين يكتبون يوميا. بأعينهم وقلوبهم في انتظار أن تزول الأمية المفروضة عليهم، أما نحن، فإننا نمارس النميمة الحكائية المستلبة بالقهر والإحباط. (صفحة 3)..أنا نمام يا الله
هاهاها. (من يزرع الفرح في قلبك الآن؟ لا أحد إلا حفنة قليلة من الأصدقاء يملؤون عليك وقتك الفائض بحضورهم الجسدي والمعنوي، المقتطع من أوقاتهم حتى إذا ذهبوا إلى بيوتهم ونسائهم بقيت وحدك تجتر وحدتك القاسية في بيتك الصغير فوق سطح العمارة…أنت كاتب مفترض، هذا لاشك فيه، فقلها للذين يبحثون عن الخلود، كل واحد منا كاتب مفترض، يقف بين الحقيقة والادعاء، بين الخيال والواقع، بين المجرد والمطلق، وبيني وبينك، فأنت مجرد كاتب مفترض صنع نفسه بنفسه.
*(أيها التعيس، لقد حانت نهايتك.) وانصرف العشاق من حولك!.
انتهى الكلام، وميعادنا القادم تحت خيمة شكري، والدعوة عامة.

*فالسطاف وتيمورلينك أوصاف أطلقها محمد الهرادي على إدريس الخوري.
*جرت العادة ولسنوات أن يقيم المرحوم الحسن الثاني حفلا فنيا يستدعى له فانين بعينهم، وأثناء واحدة من هذه الحفلات تقدم شاعر القصر المرحوم إدريس الجاي، وهو يرتدي كسوة الكوي بوي، مقلدا مشية جون واين حتى إذا ما اقترب من الملك خاطبه بقوله: مولاي لي في القصيد ألف بيت وبيت، رواها لي بنفسه حين كنت مخرجا لبرنامج ناشئة الأدب الذي كان يعده للإذاعة الوطنية.
*آخر ما كتب إدريس الخوري، وكل ما هو بين ظفرين في المونولوج منتقى من مجاميعه بتصرف.

عبدالكبير بن بيش

01/04/2022



أعلى