أحمد المديني - المغربي المُشارك في اكتشاف أميركا... كما تخيّله عبد الرحيم الخصّار

في المعرض الدولي للكتاب والنشر الأخير في الرباط، ابتهجنا مع عبد الرحيم الخصّار بصدور عمله السردي الأول، هو الذي يعرفه قراؤه مغرباً ومشرقاً بالشعر والمتابعة الإعلامية الثقافية النابهة.

رأينا هذا الأديب الشغوف بالجديد واختراق الآفاق، ينتقل إلى كتابة الرواية في العمل الذي صدر له عن منشورات المتوسط "جزيرة البكاء الطويل". وبذا ينضم إلى قائمة أدباء عرب، قدامى وصاعدين، ضاقت على موهبتهم كسوة الشعر فسعوا إلى لباس أوسع وأنسب لما يشغلهم وبه يهجسون، وإن لم يكن طلاقاً بائناً مع الشعر حتى لتسأل أيهما ضاق بالآخر، وهل هي طريقة لتوسيع أفقه بالانتقال إلى نوع خليط، مختلط (genre mixte) كما سيلي بيانه.

الحق أن الخصّار اختار المركب الصعب، إن لم يكن تورّط فيه، والأدب ورطة لا نزهة، بدون المغامرة لا متاع وعديم المتعة، فكيف وقصة هذا الكتاب مخاطرة من البداية إلى النهاية، وعندي هو مجازفة لأن كاتبها، يروي حكاية سابقة عليه، مدونةً وموثقةً تاريخياً ومتداولةً عبر الزمن على الألسنة، مسجلة في القرطاس، منذ حدوثها في القرن السادس عشر الميلادي.

من بين عديد مصادر، يزوّدنا موقع وكيبيديا بمعلومات حول الشخصية الحقيقية لهذه القصة، والسيرة المنسوبة إليه، نختصرها في الآتي: هو سعيد بن حدو (1500ـ1539) عُرف باسم مصطفى الأزموري، نسبةً إلى مسقط رأسه مدينة أزمور على الأطلسي ونهر أم الربيع. حمل في المصادر الأجنبية أسماء استيبان، المورو، استيبانيكو، وستيفن مورو، وستيفن الصغير.

ذُكر عنه أنّه أوّل أبناء الشمال الأفريقي وصل إلى الأرض التي أصبحت الولايات المتحدة الأميركية بعد قرنين من رُسُوّ السفينة التي حملته إليها بحّاراً وعبداً رفقة سيده الذي اشتراه من سوق نخاسة في إشبيلية، اقتيد إليه مُرحّلاً من بلده بعد أن باعه أبوه ليسُدّ جوع عائلته في المجاعة التي ضربت بلاد المغرب (1520).

وقد شارك في أول حملة استكشافية للمناطق المسماة حالياً في أميركا في ولاية فلوريدا في 1927 مع أكثر من أربعمئة رجل بقيادة المستكشف ألفارو نونيز كابيزا دي فاكا. هلك الجميع في رحلة إلى العالم الجديد بحثاً عن الذهب بعد أن تعرّضوا لأهوال ومخاطر شنيعة واختلطوا بالسكان الأصليين وواجهوا كشوفات عجيبة، خلا أربعة منهم استيبان الأزموري الذي لقي في النهاية حتفه بسهام الهنود.

يلتقي كاتب في العقد الثاني من الألفية الثالثة بهذه السيرة، بحوادث هذه الشخصية، قراءةً أو بالسماع، فهي على الأغلب ككل حكاية شفوية، محمولة على الألسن إلى الأسماع مع الجدات وفي المجالس، للتسلية والتذكر وللعبرة، أيضاً.

لعلّه سعى إليها سعيَ مُحَقِّقٍ إلى مخطوط ليتعرف إلى خبر وعلم ويتبصّر في الأصل، والمخطوط هو الأصل، وهو كما سمّاه العرب "الطرس"، وكانوا يكتبون قبله على الرِّقاع، ومع طباعة الكتب اقتصر تأليف بعض الخلف يعلقون في ما يسمى الحواشي (ج حاشية) وبهذا هم يسطّرون على مكتوب.

وفي النتيجة، نحصل على كتاب واثنين وأكثر لنصل إلى ما حدده جيرار جنيت (1930ـ2018) في العصر الحديث بدراسة الطِّرس (le palimpseste) وتعريفه مخطوط يتكون من كاغِد سبق استعماله وتمَّ محو ما سُطّر فيه للكتابة عليه من جديد.

في سنة 1981 حضرت في مدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية في باريس وهو أستاذ فيه السيمنار الأسبوعي لجونيت بفرع Passy وخصصه عامه لتقصّي هذا الموضوع ومساءلته، لم يكن يقرر سلفاً ولكن يتساءل مُحاوراً الطلبة الباحثين في ضوء أسفار يحملها في حقيبة ويضعها فوق الطاولة المستطيلة ونحن حوله.

لم يشقشق يومئذ بمصطلح (التناص) وتفريعاته أحد مشاغله النظرية، هو ورولان بارت، بينما جوليا كرستيفا تعلمت عليهما وعبدها المقلدون عدّوها الأصل. في السنة الموالية أصدر جيرار جونيت كتابه "Palimpsestes...La littérature au second degré"، حوى بتفصيل فرضياته وملاحظاته حول التفاعل بين النصوص والعلائق التناصية، وكان فتحاً نظرياً باهراً كان له ما بعده، وهو في قلب ما نحن بصدده.

تاريخ مكرّر
بالطبع، لم يفكر عبدالرحيم الخصّار حتماً في هذه الأرضية ولا الطرائق والتمثيلات الصانعة للتفاعل، بينما هو يمارسها كلاًّ أو جزءاً منها الباروديا (المحاكاة الساخرة) والتحويل، والتشويه والمعارضة، والتقليد، أثناء ما يقتفي الأثر، ويمحو طِرس قصة مصطفى الأزموري الذي سيذكره عرَضاً وباسم مصطفى بن دحّو الأصلي كما تذكُره المدونة التاريخية عَلَماً وسيرة. فنحن، أعني الكاتب، إزاء تاريخ ما، وقد رُوي مرات، وبذا يكون قد تعرض في ترحاله بين الرواة إلى زيادات وتحويرات وتهويل يُبعده من الخيط الأصل الذي يمثل الدرجة الصفر للقصة بالنسبة للمؤرخين والشفاهية. فكيف إذ يتعلق الأمر بكاتب، أي بالنص الأدبي؟

هنا يتدخل جيرار جونيت بعنوانه "الطّرس... الأدب في الدرجة الثانية" وبترسانته الاصطلاحية التي استخدمت منذ مطلع الثمانينات في المجال التناصي وتعالقاته المتشابكة، متعددة الوجوه. علينا الانتباه إلى أن الترتيب بين الدرجات لا ينطوي على حكم قيمة وإنما هو وصفي بحكم خروج البيضة من الدجاجة، من الأصل أمّ الحكاية، وكيف ستصبح وعلى أي صورة تتشكل.

هنا فقط، نستطيع وينبغي أن نقرأ نصَّ الخصّار لا بغية المقارنة بسابق عليه صحيح أو مزعوم، ولكن لنرى أن المعنيّ إذ طرَّس انتقل بالطِّرس من نسغه إلى محتوى وشكل ومحكي هو التأليف المخصوص بصاحبه، وبدونه لا يتأتّى أدباً، لذا التناص بأنواعه ليس نسخاً وتكراراً ثابتين بل نسجٌ خلاّق، فلا يحق لمن ينهب عملاً أو يحتال عليه بطريقة ما ادعاء قطوف متناصِّية.

والكاتب أعطانا في "جزيرة البكاء الطويل" نموذجاً للصواب ولإبداع كتاب. يتكون من مدخل، عبارة عن عتبة شعرية: قصيدة من أشعار الهنود الحمر. ثم ينقسم إلى فصول إذا جاز تسميتُها كذلك، هي بدورها مقاطعُ طويلة. الفصل الأول: استيفانيكو. يختم بإنشاد صلاة للهنود الحمر. الفصل الثاني: أماريس. يُختتم كذلك بقصدة لزعيم قبيلة هنود. الفصل الثالث: استيفانيكو. الفصل الرابع: دورانتيس. الفصل الخامس: استيفانيكو. الفصل السادس: كابيزا دي فاكا. الفصل السابع: حدّو. كلّ فصل أو أكثر باسم شخصية. المحور، وفي الحكاية والرواية التقليدية نستعمل دائماً تسمية البطل فاعلاً مركزياً مقترناً بحافز.

بطل الحكاية
هو استيفانيكو، ذكرنا أنه واحد من أسماء بطل الحكاية الأصلية، وهو المعتمد عند المؤلف، فتلغى الأخرى، يُعطاه من لحظة ركوبه الباخرة البرتغالية في ميناء أزمور بيع فيه عبداً ويلتصق به غالباً في مسار تنقله إلى إشبيلية ثم إلى بلدة بيخار في بيت دُوقها حيث يُعمِّدُه القسيس باستيباد دي دورانتيس ليحميه مما يتعرض له الموريسكيون، ويسترده في القصّ بطلاً وسارداً خلال رحلة الاكتشاف وراء الأطلسي في أرض الهنود الحمر بحثاً عن الذهب.

مركزية البطولة أساس في ما أراد المؤلف تحويله من نسق الحكاية إلى نظام الرواية، عامداً إلى كسر المحكي الخطّي باعتماد ثلاث طرق: تدويرُ القصة، لعبة التقديم والتأخير، ومركزية البطل هي كل شيء، منه يبدأ، وفي سيرته يصُبّ، وهي تُبنى هرمياً نتعرف فيها على شخصه وعالمه ومغامراته، بإغراء جملتين مفتاحين تقولان الكثير: "حين قرر حدو [أبي] أن يبيعني لهؤلاء المحتلين [البرتغال] لم يكن بين يديه خيار"(15)، "كل ما أعرفه الآن هو أني أصبحت عبداً... سيتم شحني بعد قليل مع البضائع في سفينة من سفن البرتغال إلى وجهة لا أعرف عنها شيئاً"(16).

التحويل
اعتمادُ تلك الطرائق تجلّى في أوّل خروج عن القصة الأصلية باعتماد التحويل، علماً أنه يستغل ضمنه النسخ والتقليد، كما حدد جونيت. وإذا كان استيبانيكو يتناص مع مصطفى الأزموري، فإنه وهو العبد يكسِر قيدَه، يستقِلّ بشخصيته، بتوسيع مجاله، ما عدّد المحكيات ووفّر لتيمة العبودية والاغتصاب والظلم كثافة وسنداً بانسجام مع تاريخ المرحلة. هي ثلاث: حكاية بياتريس وصيفة وراعية بيت الدوق أندريس دورانتيس التي سترعى ستيفانيكو ويتعلم منها ويفهم لغتها فهي موريسكية الأصل عقيدة وثقافة.

وحكاية كاراسيميرا، البلغارية الوافدة إلى إشبيلية للعمل ومثله تعاني الغربة والانفصال عن الأهل، يقع في هواها لتتحقق العقدة الغرامية كما في القصص التاريخية الكلاسيكية، وتزدوج فيها خيوط حب حاضر وشبق غائب مع غيتة بنت دحمان في الأرض التي اجتُثَّ منها؛ فالحكاية الكبرى الإطار الخاصة بالاضطهاد الذي عاشه المورسيكيون وصور ما تعرضوا له من تعذيب على يد الملك فرناندو وإدانات محاكم التفتيش، وجد المؤلف صوتاً موضوعياً لسردها على لسان بياتريس.

عوالم متوحشة
مع رحلة الاكتشاف البحرية لغزو أرض الهنود الحمر ونهب ثروتهم، يبدأ مسلسل جديد للحكايات من نوع المغامرة والعوالم المتوحشة وطقوس السحر والغرابة، تبدو مستبِقةً للقاء الغزوات الاستعمارية الكبرى، وخصوصاً التي ستنقل آلاف الأفارقة عبيداً إلى العالم الجديد. تشتغل آليات التصوير والوصف وتشخيص العجائبية عند الخصّار بلغة وأوصاف ورصد متطابق مع روح المكان ويعيدنا توقيت الزمن نوعاً ما إلى أجواء دنيال ديفو في روبنسون كروزو (1719) ويطلع قارئه بنفَس سردي متسارع وملغز أيضاً على مشاهد مثيرة ومواقف وحوادث يتماهى فيها الواقعي بالغريب، فلا تعرف أيها تُصدِّق أم هو تهويلٌ من نسج الخيال، من قبيل أكل الجماعة بعضهم بعضا من جرّاء الجوع فلا يبقى إلا واحد ليقصّ ما جرى للفريق الغازي الباحث عن الذهب ينجو منه في القصة المؤلَّفة أربعة، استيبانيكو أحدهم وبقاؤه على قيد الحياة خلافاً للأصل ضروري لكي يروي الحكاية وتصل إلينا بصيغ وأخبار وألوان.

لنأتِ أخيراً إلى ما يجعل نصاً أدبياً وضرورياً بخاصة حين يقتبس من المدوّنة التاريخية، ويتفاعل (يتناص) مع نصوص قبْلية، طروسٍ مخطوطة أو شفوية. لا يتسع المجال للإفاضة في هذه المسألة، حسبنا الإشارة إلى انتصار الكاتب لحرية الإنسان وإدانته بأقوى العبارات والصور لاستعباده واستغلاله وانتزاعه من أرضه، جاعلاً منها تيمة الشرط الإنساني العظمى. الوجه الثاني لأدبيته، تخصّ تمارين الأسلوب يزدهر فيها اللعبُ اللغوي الشعري والتأملي الحِكَمي وقد أضيف وتخلل الإخبار والبوح والوصف وبؤر الحكي (المرتّبة عند جونيت)، لتنتج (النوع المختلط).

يعتبر مُعلمُنا استعارةً "كلَّ نصٍ يُقرأ عبر آخر مخفيٍّ أو متدهور وهو مستعارٌ ومُقنّع". وإذ مضى يقول بأن مقصده ليس تميّز النص ولكن مَناصِّيتَه بوصفها تصعيداً، أي "كل ما من شأنه أن يضعه في علاقة مع نصوص أخرى"، فإن كاتب "جزيرة البكاء الطويل" وعى أو ناور، جرّب أكثر من هذا، فوضع لمغامرة (البطل) مغامرة الجنس الأدبي، ومعمار التطريس، وبلاغة الكتابة، لذلك على كل من أراد أن ينصف هذا العمل ـ بمن فيهم مؤلفه ـ أن لا ينساق بداهةً مع تجنيس الغلاف، عليه أن يفكر في العودة إلى (الحكاية) فهي ليست النوع البدائي في تأويل قاصر، بل الرحم منه خرجت وتتوالد سلالة السرد، هذا النص المغربي بتعدد محكياته وسجلاته، وملفوظاته، وتناصاته، تجربة متطورة منها جديرة بالانتباه.


1668197578935.png
أعلى