ديوان الغائبين حسن بيريش - محمد شكــري كما عرفته.. (10)

ــ لا "يتمنبر":

غالبا تتوارى ثقافة محمد شكري خلف تواضع حقيقي· ونادرا ما "يتمنبر" (من المنبر)· أو يبرز نفسه مدججا، مستعرضا متطاوسا·
في حالته الأولى: يتحول شكري إلى أذن صاغية أكثر منه لسان ناطق· يستوضح أو يعلق باقتضاب· يكتفي بهزات من رأسه، دون أن يقطع على محدثه استرساله·
في حالته الثانية: يتكشف شكري عن شخصية جدلية لها اعتدادها· لا يستجيب لأيما اقتراح· ينشحن كلامه بتحد خفي· تجيء تعليقاته محملة باللامتوقع· لا يتوانى عن التصريح برأيه مهما كان وقعه قاسيا على محدثه·
كان شكري يحدثني عن النساء في حياته: "كثيرات منهن نصبن لي شباك الزواج، لكني تفاديت الوقوع في أسره·
بعضهن حاولن إيقاعي في حبهن· لكني كنت أعرف جيدا كيف أتخلص منهن في الوقت المناسب"·
تذكرت عشقه لكنزة ومقاومته لهذا العشق· قلت:
ــ تعتبر الحب استحواذا· و ترى أن الصداقة أبقى·
ـ نعم·
ــ أنا أرى أن الحب لا ينقلب إلى استحواذ إذا كان أساسه الثقة بين الطرفين·
يتطلع إليَّ بعينين ناعستين· شيء من الحدة يخالط صوته:
ــ جاهل أنت في النسائيات!
أهم بقول شيء· لكنه يواصل ضاغطا على حروفه:
لا ألومك· أنت مازلت شابا· خبرتك في الحياة لا تسمح لك برؤية الأشياء على حقيقتها·
بعد قليل· أضاف بلهجة زايلها الانفعال:
ــ النساء بطباع واحدة مشتركة· يفهمن الحب باعتباره تسلطا، امتلاكا، استحواذا لا فكاك منه!
ــ هكذا، السي محمد، بهذا التعميم؟!
يمضي في حديثه دون أن يحفل بتساؤلي:
ــ أنت تتحدث عن الحب الرومانسي الغارق في المثالية·
مثل هذا الحب لم يعد له وجود في زمننا هذا، أعرف الكثير من الأصدقاء تزوجوا عن حب، لكنهم استحالوا إلى كائنات منزلية يقتلها الروتين!
قلت باسما:
ــ بالمقابل أنا أعرف آخرين يعيشون حياتهم الزوجية دون أن يفقدوا الحب·
تندُّ عنه ضحكة صافية· يمعن في التشبث برأيه:
ــ تعساء الحب والزواج يفوقون السعداء!

ــ في أصيلة:

كنا جالسين، ذات صيف، في كافتيريا مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية بأصيلة· اقتربت من مائدتنا سيدة ثلاثينية· تحمل في يدها جهاز تسجيل صغير، صافحت كلانا· وجهت كلامها إلى محمد شكري:
ــ الكاتب محمد شكري· أليس كذلك؟
ــ نعم، أنا هو·
ــ هل لديك القليل من الوقت؟
ــ وقتي يتحدد بما ستعرضينه عليَّ أنت·
ــ أنا أعد بحثا لنيل إجازة في الأدب، وأريد أن أستوضح منك بعض الأشياء المتعلقة بكتاباتك الروائية·
ــ كما ترين، الوقت لا يسمح الآن، بعد قليل ستبدأ ندوة عليَّ أن أحضرها· ثم إني سأغادر إلى طنجة اليوم·
شعورٌ بالخيبة يظلل ملامح الطالبة· يتفطن له شكري، فيسارع إلى تبديده مضيفا:
ــ سجلي رقم هاتفي· واتصلي بي لاحقا لتحديد موعد 42 44 94 03·
سجلت السيدة الرقم في مفكرتها· شكرت· ثم انصرفت راضية· ظل شكري يتبعها بنظراته حتى توارت بين الزحام· علق: "ظريفة هاذ السيدة"·
أتطلع إليه: يبدو شكري كأنه للتو فارق طفولته·
يا للروعة!

ــ كم تدفعون:

كنت ضيفا على محمد شكري في شقته· كان يحدثني عن "الأخطاء الكبيرة" التي يقع فيها بعض مترجميه "الذين لا يفكرون في الاتصال بي لتوضيح فكرة، أو الاستفسار عن أخرى"·
رن جرس الهاتف· مد شكري يده إلى السماعة:
ـــ ألو· نعم، أنا هو، من يكلمني؟
ـــ ·····
ـــ إسمح لي، أنا لا أتذكر شيئا مما تقوله·
ـــ ·····
ـــ آ·· صحيح، صحيح· الآن تذكرت جيدا· أحيانا تتعطل ذاكرتي مثل ساعة حائطية قديمة! هاها·· هاها··
ـــ ·····
ـــ عذرا، أريد أن أعرف كم تدفعون؟
ـــ ·····
ـــ بصراحة، أنا لا أقبل إجراء حوار معي بدون مقابل· هذا حقي· أنا كاتب متفرغ· لست موظفا· ولا أملك دخلا· لو تغاضيت عن حقوقي المادية ككاتب، سأموت جوعا!
ـــ ·····
ـــ إسمح لي من فضلك· أنا حاسم في هذه المسألة·
ـــ ·····
ـــ لا، لا، أنت لا تزعجني، هذا عملك، أنا أتفهم موقفك جيدا· مع السلامة·
أعاد شكري السماعة إلى موضعها· قال:
ــ محرر في مجلة عربية تصدر في لندن· اتصل يعرض تسجيل حديث معي· طالبته بمقابل مادي· قال إن إمكانيات المجلة محدودة، لا تسمح بتعويض الكتاب·
قلت ضاحكا:
ـــ المنابر الإعلامية العربية مثل دور النشر العربية، تتناسى شيئا إسمه التعويض، أو الحق الأدبي!
علق بلهجة لا تخلو من غضب:
ــ ملاكم أمي يكسب مليون دولار بضربة واحدة من قبضته· والمبدع لا يملك ثمن كأسه!
صوته ينشحن سخطا:
ــ أثرياء الصدفة، وطحالب المال، وحدهم يعيشون جيدا في هذا البلد!

8/17/2005

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى