أحمد عبدالمعطى حجازى - شوقى بغدادى ورسالته

أحدثكم اليوم عن شوقى بغدادى. وشوقى بغدادى شاعر سورى لا أظن أن الكثيرين يعرفونه فى مصر، مع جدارته بأن يكون معروفا عندنا وعند غيرنا، خاصة فى هذه الأيام التى يجب علينا فيها أن نعرف للسوريين حقهم، وأن نقف إلى جانبهم فى محنتهم هذه التى يتقلبون فى سعيرها منذ ثمانى سنوات.

شوقى بغدادى شاعر مثقف، وإنسان مناضل مجرب لم يكف عن الكتابة منذ بدأها قبل سبعين عاما إلى اليوم، فهو الآن فى الحادية والتسعين من عمره المديد الحافل بالتجارب والخبرات. حصل على الليسانس فى الأدب العربى، واشتغل بالتدريس، وانضم لليسار الماركسى، وتعرض للسجن، وتنقل فى أنحاء العالم شرقه وغربه. وهو بالإضافة إلى الشعر الذى أصدر فيه عشرة دواوين يكتب الرواية والقصة القصيرة والمقالة. وكما يكتب للكبار يكتب للأطفال، وكما يخاطب مواطنيه السوريين يخاطب البشر جميعا. فالشعر بالنسبة له ليس مجرد صنعة وليس مجرد متعة، لكنه قبل كل شىء التزام أخلاقى أو عقيدة كما يقول فى إحدى قصائده:

كتابة القصيدة. ليست من الغرور
لكنها عقيدة
وصرخة الأخوة المجيدة. فى عالم مدحور
وزهرة تنجم فى مقالع الصخور

وبوسعنا، إذا كنا نتابع ما يحدث فى سوريا، أن نتصور الحياة التى يعيشها شوقى بغدادى ويعيشها السوريون جميعا فى «جمهورية الخوف» كما يسميها فى ديوانه الأخير الذى يحمل هذا العنوان.

هل هو الخوف فحسب؟ أم أنه الفزع والهلع والموت والجنون والدمار الذى تنتجه هذه الآلات الدائرة فى سوريا آناء الليل وأطراف النهار؟ النظام الحاكم، والدواعش والإخوان، وحزب الله، وتركيا، وإيران، وإسرائيل. وليس أمام السوريين إلا القهر والموت فى الداخل، أو التشرد والضياع فى الخارج. وقد اختار شوقى بغدادى أن يبقى فى دمشق التى فقدت نفسها فى ظل النظام الحاكم ولم يعد لها وجود كما جاء فى ديوان أصدره منذ بضعة عشر عاما بعنوان «البحث عن دمشق» وأهدانى منه نسخة يقول لى فيها «إليك.. إليك كى تساعدنى فى البحث عن دمشق التى تحبها كما أحب القاهرة»..

كانت دمشق جنةً كما تقول الكتبُ
خرجتُ من كتابها الآن الذى أقلِّب
صادفت يا سمينةً جفت على جدارنا
كانت تَدلَّى فوقه كأنها تنتحبُ!

وفى الأسبوع الماضى أرسل لى شوقى بغدادى رسالة يعلق فيها على ما كتبه عنى صديقى الشاعر السماح عبد الله فى صفحته فى الفيس بوك ويعبر عن شوقه للقاهرة وعن محاولاته غير المجدية الاتصال بى. لأن استخدام الهاتف المحمول فى الاتصال بالخارج ممنوع على ما يبدو فى سوريا! أما الهاتف الأرضى فمع أن الاتصال به غير ممنوع على ما يبدو فهو غير ممكن لسبب لا يعلمه. وقد حاول مرات أن يخاطبنى به فى دارى فلم ينجح، وكلما كرر المحاولة سمع صوتا مسجلا يقول له «إن الخط مقطوع والشخص المطلوب لا يجيب!».

وشوقى بغدادى يواصل رسالته فيذكرنى بلقائنا الأول فى القاهرة حين حضر منذ نحو خمسين عاما ليشارك فى مؤتمر عقده اتحاد الكتاب العرب، وكيف تعرف أيضا فى تلك الزيارة على صلاح عبد الصبور، وكيف التقينا مرة أخرى فى القاهرة حين نظمت مجلة «الهلال» مهرجانا احتفلت فيه بأمير الشعراء أحمد شوقى وشاعر النيل حافظ إبراهيم، وكيف تعرف فى هذا اللقاء على الشاعر الراحل فاروق شوشة «ويا لها من أيام حلوة قضيناها معا فى تلك المناسبة. لكم أنا مشتاق للاجتماع بك أو لسماع صوتك على الهاتف. إنهم فى سوريا كما يبدو لا يسمحون لنا بالتخاطب هاتفيا على الأقل.. معليش.. سأظل أحاول سماع صوتك قبل أن أرحل وراء فاروق شوشة!».

هذه الرسالة آلمتنى بقدر ما أسعدتنى. لأنها من ناحية ذكرتنى بأيام جميلة عرفت فيها سوريا زائرا ومقيما، ضيفا وصاحب بيت. إذ دعيت مرات لألقى أشعارى فى دمشق وحلب وحمص وحماة واللاذقية، وقد نظرت فى مجموعة أعمالى الشعرية فوجدت أنى نظمت ست قصائد أو سبعا تغنيت فيها بدمشق وسوريا وعبرت فيها عن تلك العاطفة المتبادلة التى أشار لها شوقى بغدادى فى الكلمة التى قال فيها إننى أحب دمشق كما يحب هو القاهرة. وقبل ستين عاما من اليوم وسوريا إقليم فى الجمهورية العربية المتحدة كنت مواطنا من مواطنى هذه الجمهورية التى جمعت المصريين والسوريين فى كيان واحد أعمل محررا فى صحيفة «الجماهير» التى صدرت فى دمشق فى ذلك الوقت لتكون منبرا للوحدة المصرية السورية. وهكذا عرفت سوريا عن قرب، وتعرفت على عدد كبير من المثقفين السوريين منهم شوقى بغدادى الذى كنت أقرأ شعره وأسمع عنه هناك، لكنى لم ألتقه إلا فى القاهرة خلال زيارته لها فى ستينيات القرن الماضى. وها أنا أعيد قراءة رسالة هذا الصديق العزيز فأشعر بسعادة غامرة وأتذكر لقاءاتنا وأعود إلى ما أملكه من دواوينه أقرؤها من جديد، وأعود إلى تلك الأيام الجميلة أتذكرها وأحن إليها.

لكن رسالة شوقى بغدادى التى أسعدتنى آلمتنى بشدة، لأنها أيقظتنى على هذا الواقع الفاجع الذى يعيش فيه السوريون منذ ثمانى سنوات ولا تبدو له نهاية، بل يبدو كأن هذا الواقع أصبح نشاطا يوميا، وكأننا اعتدناه فلم يعد يفاجئنا فيه شىء. نعم، رسالة شوقى بغدادى أيقظتنى على هذا الواقع، ورسمت لى بكلمات قليلة صورة للحياة التى يعيشها السوريون هذه الأيام، وذكرتنى بتقصيرنا الشديد فى حقهم.
أعلى