د. أحمد الحطاب - يا بني البشر، ألا ترون أن الطبيعةَ كانت في أحسن حال قبل مجيئكم على سطح الأرض؟

الطبيعة، بمُكوِّناتِها الإحيائية و اللاإحيائية موجودةٌ على كوكبِ الأرض منذ ملايير السنين. بدأت الحياةُ داخل الماء و استمرَّت فوق اليابسة بعد المرور من عدة تطوُّراتٍ بيولوجية و فيزيولوجية و طفراتٍ فرضتها الظروفُ الطبيعةُ المناخيةُ و الجغرافيةُ. الإنسان العاقل Homo Sapiens لم يلتحق برَكبِ الحياة إلا في الفترة الأخيرة من الزمان الجيولوجي، أي قبل ما يُناهز 300000 سنة بعد العثور على جُمجُمةٍ و بقايا عظامٍ لهذا الإنسان بجبلِ إيغود بإقليم اليوسفية.

إنه، في الحقيقة، لمِن حُسن حظ الطبيعة أن الإنسانَ العاقلَ، الذي فقدَ عقلَه في عصرنا هذا، جاء متأخِّراً علماً أن 300000 سنة لا تُساوي شيئا بالمقارنة مع الزمان الجيولوجي. لا تُساوي شيئاً لأنها تمثِّلُ فقط %0,0075 من هذا الزمان الجيولوجي إذا افترضنا أن الحياةَ التي نشأت داخلَ الماء، ظهرت قبل 4 مليار سنة. و ما يثيرُ الانتباهَ هو أن الآنسانَ العاقلَ، في أول ظهوره على وجهِ الأرض، كان منسجما مع الطبيعة بحكمِ ضآلة ضغطِه على مواردها و بحُكم اعتماده، في عيشه اليومي، على القنصِ و قطفِ ثمارِ النباتات و صُنع بعض الأدوات من العظام و الخشب و الصخور.

و هذا الانسجام مع الطبيعة دامَ الكثيرَ من القرون إلى أن دخل الإنسانُ حِقبةَ أو عصرَ الصناعة ère industrielle التي بدأت بوادرُها انطلاقا من القرن الثامن عشر و استمرَّت إلى يومنا هذا بعد المرور من تحوُّلات و تقلُّبات نظرية، علمية، تكنولوجية، اجتماعية و ثقافية.

و الغريب في الأمر أن الحِقبةَ الصناعية، التي حوَّلت المجتمعات من صِبغتِها الزراعية و الصناعية التقليدية إلى مجتمعات تسود فيها المَكْننة mécanisation و اللجوء إلى استغلالٍ جنوني للموارد الطبيعية، صاحَبَتها اعتداءاتٌ على الطبيعة لم يسبق لها مثيلٌ في تاريخ البشرية. و هذا يعني أن الإنسانَ العاقلَ، عندما دخلَ عصرَ الصناعة، تسبَّبَ في نشر الخراب و الدمار على وجهِ الأرض.

و أغربُ ما في الغرابة أن هذين الخرابَ و الدمار، اللذان ألحقهما الإنسانُ العاقلُ بالطبيعة، لم يستغرقا إلا فترةً قصيرةً جدا (300 سنة تقريبا) بالمقارنة مع أول ظهور لهذا الإنسان العاقل قبل 300000 سنة. و هو ما يساوي 0،1% بالنسبة لهذه المدة الأخيرة (أي 300000). أما إذا قرنا هذه المدة القصيرة (300 سنة) بأول ظهور للحياة في أبسط تجلياتها داخلَ الماء، أي قبل 4 مليار سنة، فإنها تساوي بكل دهشة 0,0000075%. ما معنى هذا؟ معناه أن ما بنته الطبيعة من تنوُّعٍ في الحياة طيلةَ ملايير السنين، استطاع أن يدمِّرَه الإنسانُ العاقل في رمشة عينٍ بالرجوع إلى الزمان الجيولوجي.

بالفعل، قبل مجيء الإنسان العاقل إلى الأرض و الانتشار فيها برّاً، بحراً و جوّاً، عرفَ عالمُ الأحياء تطوُّراتٍ هائلة أدَّت إلى نموٍّ مذهلٍ للحياة و تنوُّعها. و حتى العالم المادِّي خضعَ، هو الآخر، لتحوُّلات كبيرة استطاعت الكائنات الحية أن تتكيَّفَ معها، فكان مصيرُها البقاء. أو لم تستطعْ أن تتكيَّفَ معها، فكان مصيرُها الانقراض. من بين هذه النَّحوُّلات، أذكرُ تراجُغَ البحرأ régression و امتدادُه transgression، التَّجلُّد glaciation، الكوارث cataclysmes، الاحترار réchauffement، انجرافُ القارات dérive des continents، تقلُّبات الطقس intempéries، تكوين الجبال orogénèse، تكوين التَّضاريس formation des reliefs، الأنشطة البركانية volcanisme …

كل ما كان يضمن استمرارَ الحياة، كان موجوداَ (التمثيل الضوئي، التَّنفُّس، الاختِمار، التناسل، دورة الماء، دورات المادة، التَّفاعلات الكيميائية، الاحتراق، التَّفكُّك، التَّركيب، الطاقة، العلاقات الغذائية، الطَّفرات…). الطبيعة لم تنتظرْ مجيء الإنسان لتتطوَّرَ، لتتغيَّر، لتُعيّْرَ عن تنوُّعها، لتتجدَّدَ… و الدَّليلُ على ذلك تعاقُبُ أنواعٍ كثيرةٍ من الكائنات الحية فوق الأرض منذ ملايير السنين. البعضُ من هذه الأنواع انقرضَ بصفة نهائية بينما ظهرت إلى الوجود أنواعٌ جديدة.

الطبيعة، بدون إنسان، كانت لها القدرة على تجاوز كل التَّقلُّبات التي تعرَّضَ لها كوكبُ الأرض رغم قساوتِها و التي كانت من الممكن أن تِؤدِّيَ إلى اختفاء الحياة و انطفائها. غير أن الحياةَ لا تزال قائمةً. هل هناك سرٌّ أم هناك أشياءٌ تستوجِبُ بعضاً من الإدراك و العقلانية؟

الإدراكُ و العقلانية وضَّحهما العِلمَ، و بالأخصِّ، عِلمُ البيئة écologie. فعلاً، الطبيعة قادرةٌ على تنظيمِ ذاتَها بذاتِها capable de s'autoréguler لضمان توازنها. و بعبارةٍ أخرى، الطبيعة قادرةٌ على امتصاصِ كل الاختلالات التي تحدثُ بها طبيعياً لتستعيدَ توازنها. و إذا استطاعت الطبيعةُ أن تُحافظَ على توازنِها و ضمان استمرارِ الحياة، فهذا معناهُ أن التَّنظيمَ الذاتي عمِل بكيفيةٍ فعالة رغم ما تعرَّضت له الأرضُ من تقلُّبات طيلَةَ الحِقب التي سبقت ظهورَ الإنسان على وجههِا. و تعالوا الآن نرى ما حدثَ بعد ظهورِ الإنسان على وجهِ الأرض!

ظهورُ الإنسان على وجه الأرض يعني إدخالُ نوعٍ جديدٍ من الكائنات الحية في الطبيعة. غيرَ أن هذا النوعَ الجديدَ من الكائنات الحية يتميَّز عن سائر المخلوقات بالذكاء و بقدرتِه على التًَّفكيرْ و استعمال العقل و القدرة على الصُّنعِ و الاختراع و الابتكيار و التّحويل و البناء…

بفضلِ هذه القدرة، إن الأمرَ يتعلَّقُ، من أول وهلةٍ، بكائنٍ يستطيعُ، من أجل سدِّ مختلف حاجياتِه، أن يمارسَ على الوسط الذي يعيشُ فيه ضغوطاً متنوِّعة. و مع مرور الوقت، زادت هذه الحاجياتُ حجماً تحت تأثيرِ النمو الديمغرافي و التَّنظيم الذي حصل داخلَ المجتمعات مما سبَّبَ في تفاقم الضغوط الممارسة على الموارد الطبيعية، المادية منها و الحية.

غير أنه لا بدَّ من التوضيح أن الإنسانَ، عندما يؤثَّر على الطبيعة، فإن هذا التَّأثيرَ لا يحصلُ فقط من أجل سدِّ حاجياتِه البيولوجية و الاجتماعية. الإنسانُ يمكن أن يؤثِّرَ على الطبيعة مدفوعاً بالإغراء الذي يظهرُ من خلال الغريزة، الشغف، الرغبات، التَّعطُّش للمعرفة، للهيمنة، للتَّملُّك… أو مدفزعاً للبحث عن المجد، السلطة، التَّقدير، السُّمعة…

و بصفةٍ عامةٍ، سواءً تعلَّقَ الأمرُ بسدِّ الحاجيات أو بالإغراء، فإن ما يترتَّبُ عنها من ضغوطٍ له تأثيرٌ سلبي من جراء كثرة الاعتداءات على عالم الأحياء monde vivant بما فيها الإنسان و كذلك على العالم المادي monde physique. اعتداءاتٌ لم تأتِ بالطبع من فراغ بل لها أسبابٌ عديدة و متنوِّعة على رأسها، أولاً و قبل كل شيء، نظرةُ الإنسان العاقل للطبيعة. نظرةٌ أنانية و ميكانيكية يعطي فيها هذا الإنسانُ العاقل لنفسِه مكانةً متميِّزة بالنسبة للمكوِّنات الطبيعية الأخرى، الحية و غير الحية. نظرةٌ جعلت و تجعل منه كائنا يفكٍِرُ و يتصرَّفُ و يعملُ و كأنه يعيش خارج الطبيعة التي يظنُّ أنها، بجميع مكوِّناتِها، مسخَّرةٌ له وحده.

و لا داعيَ للقول أن هناك تناقضاتٌ كبيرة بين نظرة الإنسان للطبيعة و ما تسير عليه هذه الطبيعة من نهجٍ و سياقات لضمان بقاء الحياة بداخلها. من بين هذه التناقضاتٌ، أذكرُ على سبيل المثال :

1.الطبيعة كريمةٌ و مِعطاءةٌ بينما الإنسانُ العاقل شَرِهٌ و طمَّاع
2.الطبيعة، بفضل مميِّزاتِها، تحمي و تُحافظ على الحياة بينما الإنسانُ العاقل، مدفوعاً بأنانيتِه، يُخرِّبها و يُدمِّرها.
3.الطبيعة، يفضل قدرتِها على التَّنظيم الذاتي، تقوم يالإصلاح بينما الإنسانُ العاقل، بتطلُّعِه إلى الهيمنة، يُحدثُ اختلالاتٍ.
4.الطبيعة تُوفِّر العديدَ من الخيرات بينما الإنسانُ العاقل مستَهلِكٌ عاقٌّ و مُفترْسٌ شَرِسٌ.
5.الطبيعة تظهر كوحدةٍ بينما الإنسانُ العاقل عزلَ نفسَه عن هذه الوحدة.
6.الطبيعة تُحوِّل الطاقةَ إلى انسجامٍ و جمالٍ بينما الإنسانُ العاقل يحوِّلها إلى مُلوِّثات.
7.الطبيعة هي المثل للتَّساكن و التَّكافل بينما الإنسانُ العاقل يتبنَّى الفردانية و الخصوصية.
8.الطبيعة عبارة عن مجموعةٍ من المكوِّنات المترابطة فيما بينها بما فيها الإنسانُ بينما الإنسانُ العاقل أوجدَ عدَّة وسائل لاختراق هذا التَّرابط.
9.الطبيعة مجموعة خيراتٍ مسخَّرة لجميع الكائنات الحية بينما الإنسانُ العاقل نصَّبَ نفسَه كالمستفيد الوحيد و الحصري من هذه الخيرات.
10.الطبيعة تتكلًّم لغةَ الانسجام و الجمال و التَّوازن و التَّضامن بينما الإنسانُ العاقل يتكلَّم لغةَ التَّدمير و الضياع و الإسراف و النفاد.
11.الطبيعة مِلكٌ للجميع بينما الإنسانُ العاقل يقبل هذه المِلكِية و لكن، في نفس الوقت و بكل غرابةٍ، يُقصي المُكوِّنات الأخرى من هذا "الجميع".
12.الطبيعة صديقةٌ لجميع الكائنات الحية بينما الإنسانُ العاقل صديقٌ لمصالحِه و ما يحصُلُ عليه منها من أرباح.
13.الطبيعة عبارة عن جِسمٍ حي ضخم بينما الإنسانُ العاقل يعتبرُها كمعملٍ كبيرٍ بالمعنى الميكانيكي للكلمة.
14.الطبيعة قادرةٌ على حماية نفسها بنفسها و الحِفاظ على نفسها بنفسها و تنظيم ذاتِها بذاتِها في عياب الإنسان العاقل عنها… و اللائحة طويلة.

و كلُّ ما نشاهدُه اليوم من اختلالات في الطبيعة و نعاني منها له علاقة بهذه التَّناقضات الصارخة. من بين هذه الاختلالات، اذكرُ على سبيل المثال :

1.الفصولُ لم تعد منتظِمة كما كانت في الماضي.
2.الحرارة عمَّت الأرضَ حتى خارجَ فصل الصيف.
3. الفلاح يزرعُ أرضَه لكن المطرَ لا يأتي.
4.و عندما يأتي المطرُ، فإنه طوفانٌ.
5.الماءُ، بحكمِ توزيعه يكيفيةِ غير متكافئة على سطحِ الأرضِ، أصبحَ نادراً أو مادَّةً نادرة.
6.الجفافُ، أصبح ظاهرةً بنيوية تكاد تشمل جميع مناطق العالم.
7.الجوُّ فقدَ تركيبتًه الطبيعية من جرَّاء تعرُّضِه لسيلٍ من الملوِّثات التي تُخِلُّ بتوازنه.
8.التُّربة لم تعد تلك التُّربة المُنتِجة و المِعطاءة. لا تُنتِج إلا إذا شُحِنت إو خُدِّرَتْ بشتى أنواع المواد الغريبة عنها.
9.الغابات تتألَّمُ تحت وطأة شَرهِ و طمعِ لوبيات الاقتصاد و الصِّناعة.
10.المُدُنُ أصبحت أماكن عدائية و مُفرِزة للضغط العصبي و للعدوان و مختلف أنواع الملوِّثات.
11.إسرافٌ و استهلاكٌ مفرطان في الشمال و فقرٌ و هشاشةٌ و تخلٌُفٌ في الجنوب.

فأين هو عقل الإنسان العاقل؟ أين أخلاقُه و أين روحانياتُه و مبادئُه الإنسانية؟ و هل الطبيعة أعقل من الإنسان العاقل؟ ألم يفطن الإنسان العاقل بأنه سائرٌ في طريقٍ سينتهي بقضائِه على نفسِه بنفسِه؟

ما هو مؤكَّدٌ هو أن الإنسانَ العاقلَ، طيلةَ القرون الثلاثة الماضية، استعملَ عقلَه استجابةً لأنانيتِه و لسيطرتِه على موارد الطبيعة لأغراضٍ تنموية عادت عليه، في جل أطوارها، بالوبال و الأزمات و المحن. و لعل أكبر محنةٍ خلَّفها سوء استعمال العقل من طَرَف الإنسان العاقل هي الجفافُ المترتِّبُ عن تغيُّر المناخ الذي أحدثه هذا الإنسانُ العاقل بوسائله الصناعية و الفلاحية و التَّمدُّنية و التَّوسُّعية غير المتوافقة مع أساليب و سياقات الطبيعة التي، منذ ظهورها، عملت و تعمل من أجل استمرار الحياة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى