د. ايمان الزيات - عيون في فراغ أسود.. قصة قصيرة

وضعت على رأسي الوسادة بيد أن الصوت أبداً لم يكف عن نخر طبلة أذني.. تقلبت يميناً ويساراً لكن القطة العنيدة تجيد الملاحقة بصوتها الطليق..
ميو ميو ميو
مياو.. مياو
مييياااووووو
استسلمت أخيراً ورفعت الوسادة البيضاء.. لكزتُ المصباح الصغير بإصبعي لأعرف كم الساعة، إنها الثانية صباحاً، ألا تنام تلك القطة أبداً؟! في النهار سأنزل لجارتي بشعري المهوش وعيناي الكليلتين لأريها بعضاً من عذاباتي اليومية بفضل قطتها اللعينة.
………………………….
كان رأسي ثقيلاً كسجادة مبتلة حين استيقظت بعد سويعات من الغفوات المتقطعة.. احتسيت قهوتي ونزلت دون افطار لأنفذ ما انتويت فعله بالأمس.. بيني وبين شقتها دور كامل ومع ذلك يتمدد الصوت في وسائدي كل ليلة ويتمطى ثم يقذفني باليقظة ككرة بوليينج من فوق السرير لطاولة المطبخ أحتسي القهوة إلى أن تنتهي تلك الهرة من وصلتها اليومية، وينقطع صوتها كتيار كهربائي يصمت كل شيء بانقطاعه.
تحسستُ الحائط حتى وصلت لجرس الباب ضغطت عليه وسط الظلام المخيم.. دقائق طوال أضاء بعدها عتبة البيت مصباح مرتعش ثم حدقتْ مدام (أفكار) في العين السحرية و فتحت مزاليج باب شقتها الواحد تلو الآخر متجلية أمامي بشعر رأسها الحليق كالرجال وقامتها الجسيمة، راحت تسأل:

خير يا مدام؟!
دون تحية رحت أشكو لها أرقِي اليومي بسبب قطتها المعذِّبة تلك.
قاطعتني قائلة:
قصدك (سمسم) ولا (شيكولاتة) ؟
فهمت ساعتها لماذا يستمر صوت المواء ويتوالى بلا انقطاع.. لديها قطان لا قطة واحدة..
قبل أن أنطق مجدداً ظهر من خلفها قط شيرازي متدلِّل بعينين خضراوين وفراء بلون الشيكولاتة تخطاها ثم وقف أمامها يتأملني.. بينما تموقع القط الرمادي الضخم تماماً بين ساقيها المنفرجتين على الأرض.. وقف وقفة متحفزة يحدق بي دون حراك كما تفعل سيدته.. (لابد أنه سمسم).
بدأت أشرح لها حالتي متغاضية عن ظهور قطيها المفاجيء، لكن المتدلل بدأ التعارف باقترابات متتالية نحوي.. سار على هوادة رافعاً ذيله الكثيف باعتزاز.. دار حولي وهو يتشمم أطراف ملابسي من حين لآخر قبل أن يكمل دورته الكاملة.. كنت أحاول التماسك إلى أن مسح فراء رأسه بساقي التى رفعتها وأنا أصرخ من الذعر.. برقت بعدها عيني جارتي فظهرت واختفت عدة مرات من أمامي بفعل ضوء المصباح الذي يناهض الاحتراق.. وقفت شعيرات يدي وفراء القط من نظرتها التى يتطاير منها الشرر حين رعد صوتها بصرخة ناهرة:
شيكولاته..
قفز بعدها القط المغضوبِ عليه مختفياً في قلب البيت المظلم.. زادت من مواربة الباب مُنهية الحوار بقولها: – بعد اذنك.
ثم اغلقت دون انتظار رد.. ضممت معطفي الحريري على جسدي ولممت شعري قليلاً وأنا أصعد عائدة لبيتي أفكر في تلك الجارة الغريبة التى تركتني دون حل.
أصبحت معضلتي الليلية متوالية دون انقطاع..
………………………….
كنت أنتظر زوجي في مدخل العمارة حين رأيت عينان خضراوان تحدقان بي في الظلام من وراء باب المنور الحديدي.. وسرعان ما نبت للعينان رأس وجسد وذيل وقوائم أربع.. مواء واهن متقطع صدر عنه إنه (شيكولاتة) كان وجلاً مرتعباً يتلفت بين الفينة والأخرى حوله يموء لي ثم يحدق في الفراغ مرة أخرى.. يبدو أنه قد قضى ليال عدة في هذا المكان الرطب.. فجسده هزيل وفراؤه قد تساقط منه الكثير.. كان من الممكن أن يخرج بسهولة من بين فتحات الباب الحديدي فما الذي حبسه بالداخل؟!
تعجبت من الموقف كله.. تُرى هل هذا المصير كان بسبب شكواي؟
دخل (سامبو) من باب العمارة عليّ وأنا واجمة أشار لي بيديه يسألني عن حالي صنعت بسبابتي وابهامي دائرة وثنيت بقية أصابع يدي قليلاً قائلة: – أنا بخير.. بلغة الإشارة التى التقطت بعض حركاتها منه مع الوقت كلما صعد ليجمع أكياس القمامة أو يصلح عطلاً ما في الصرف أو يكنس السلالم.. لم يكن حارساً لعمارتنا وإنما كانت تلك الوظائف هي مهامه التى عرفه بها الجميع في شارعنا ينتقل من عمارة لأخرى ليقضي الحوائج ويصلح الفاسد وينظف المتسخ ويحمل الثقيل مقابل مبالغ معقولة وعطايا من الملابس والطعام والمواد التموينية التى اعتدنا منحه إياها في الجُمع والأعياد.. وفي وقت الصلاة يكون (سامبو) هو عامل بيت الله يفتح باب المسجد ويكنس الأرضيات ويشغل المكيفات.. يضع على رأسه دوماً طاقية بيضاء بلون لحيته الكثة ويقف بين الصفوف مصلياً معهم حتى إذا ما انتهت الصلاة أغلق المسجد وعاد لجولاته من جديد.. شارف على الخمسين لكنه كان مفتول العضلات ويجيد التعامل مع الحيوانات كأنه يفهم لغتهم.. علمنا ذلك عنه حين صعد كلب على السلالم وبات ليلته ينبح بقوة لم ينم كل من في العمارة في هذه الليلة وفي الصباح التالي لم يخرج الأولاد للمدارس ولا الأزواج لأعمالهم.. ظنناه مسعوراً.. اتصلنا بسامبو على سبيل التجربة فصعد وبيده عصى غليظة ولكن ما إن نظر في عيني الكلب حتى نحاها جانباً واقترب منه يربت عليه فهدأ وجلس فجلس القرفصاء إلى جواره وراح يمسد جسده بيده ثم حمله كطفل صغير ونزل به وسط ذهول الجميع.
أشرت له على (شيكولاتة) فهز رأسه ثم أشار نحوه ووضع أصابع يديه الوسطى والسبابة على جانبي شاربه حرك يديه في تمويجات على شكل انحناءات جسد أنثى وأدار اصبعه كثيراً في الهواء بجانب عقله.. كنت أحاول ملاحقة إشارات يديه السريعتين (هذا.. قط.. الست.. أفكار) كان يعرف بالأمر مسبقاً.. فهمت من حركاته المتلاحقة أن صاحبته قد تخلت عنه تماماً وأعطته إياه ليرميه في أي شارع لكنه كان يرتعد من الخوف فأشفق عليه ووضعه في منور البيت معقباً بأنه صعب أن يعيش في الشارع بأمان لأنه تربية بيت وليس قط شوارع.. أشفقت عليه أنا أيضاً وراودني شعور متراوح بين الذنب والغيظ لماذا تُعاقب (أفكار) هذا القط وحده ولماذا تعذبه بهذه الطريقة البشعة؟!!
طلبتُ من (سامبو) أن يحضر له كوب زبادي وماء، ولما فعل خرج القط متوجساً يأكل ويشرب بنهم ثم عاد لمكمنه غير آمن.
أدهشني كثيراً أن وجوده في المنور لم يخفف من صوت المواء الذي مازال على حدته وتواليه.. هل من المعقول أن (سمسم) هو من يصنع كل تلك الجلبة الليلية وحده!! أكاد أجزم أن الصوت أصبح ينادي قائلاً: – ماما.. ماما.. بلا توقف!
……………………………….
……………………………….
كان اليوم عاصفاً حين قررت ملاءتي النافرة القفز داخل شرفة مدام (أفكار)، في البداية فكرت أن أتركها تفادياً للقاء جديد معها ربما ينتهي نهاية مأساوية.. لكنني آثرت أن أنزل لأجلب ملاءتي وأكسر حاجز الريبة هذا.. وقفت على العتبة وشرعت بدق الجرس فانفتح الباب وكاد (سامبو) أن يصطدم بي وهو خارج منه.. ارتبك قليلاً حين رآني أقفز فزعة للخلف، لكنه اعتذر ونزل مسرعاً.
تجهمت (أفكار) مقدماً وهي تنظر لي قبل أن أطلب منها ملاءتي.. لكنها بدت وجلة وهي تضع حاجزاً خلف الباب الموارب قبل أن تدخل لتحضرها لي من الشرفة.. جميع النوافذ مغلقة.. الجو خانق.. رائحة القطط تملأ البيت ووبر فرائها يتطاير في الهواء ويصل لأنفي فأعطس.. لمحت شيئاً يحبو خلف الباب بسرعة.. ظننته (سمسم) لكن القط المروض كان يقف في الجهة الأخرى دون حراك.. دققت النظر من بين مفصلات الباب الكبيرة فتحرك الشيء من جديد.. كنت أشرئب برأسي حين أطلت من ورائه فجأة عينان متباعدتان عن بعضهما البعض بينهما أنف أفطس عريض وشفة علوية مشقوقة ومشوهة وأكف ملتحمة الأصابع أصابتني بالذعر.. على الرغم من كل هذا لم يكن المطل من خلف الباب قطاً بل كان طفلاً رضيعاً يحدق فيّ تماماً كأفكار.. حين ضحك خرق المواء الحاد طبلة أذني كسيف دخل غمده بطريقة خاطئة.. لم أشعر بنفسي إلا وأنا أركض بأقصى سرعة أتسلق السلم درجتين درجتين صاعدة لشقتي.. أغلقت الباب خلفي وأسندت ظهري عليه محاولة التقاط أنفاسي المتقطعة.
تجمدت أطرافي وأنا أفكر في المشهد الذي رأيته والصوت الذي سمعته هل كان خارجاً من هذا الطفل بالفعل؟!
طرق متكرر على بابي دفعني للابتعاد عنه.. شعرت بأن هذا المسخ يلاحقني.. الطرقات المُلحة لا تتوقف.. صوتي يخرج دفعة واحد ليسأل عن الطارق؛ فتجيب بانكسار:
أنا (أفكار) أرجوكِ افتحي.
حاولت أن أبتلع ريقي لأبلل حلقي الذي جف تماماً.. قبل أن أفتح لها على حذر.. سمحت لها بالدخول.. فجلست على الكرسي القريب من الباب صامتة تفرك أصابعها بعصبية.. ثم قالت دون مقدمات: – جلال..
………………
الطفل إللى شوفتيه تحت ده يبقى ابني (جلال).
ابنك..؟!
أنا و(سامبو) متجوزين بقالنا 3 سنين.
ايه..!
متستغربيش الوحدة ممكن تعمل أكتر من كده.. السرير البارد والليالي الطويلة خلوني أشوف في (سمير) أكتر من اللى بتشوفوه كلكم فيه.. اتجوزته بشرط يكون جوازي منه في السر محدش يعرف عنه حاجة.. انتي عارفة إن ولادي كلهم بيشتغلوا في مراكز مهمة بره البلد.. محدش فيهم كان هيوافق على جوازي.. محدش كان هيلاقي لي أي عذر أو يقدر إني أكيد هحتاج لحد يراعيني ويحميني ويناولني الدوا لما أعيا.. (سمير) كان الفرصة إللي جات لي على طبق من دهب.. مش هيقدر يتكلم ولا يحكي ولو حكى محدش هيصدق إنى اتجوز واحد زيه.. عشان كدة أول ما فاتحته برغبتي دي وافق فوراً على كل شروطي.. وكانت كل حاجة ماشية زي مخططنا لها لحد ما اتولد (جلال) بثقب في القلب وتشوه في الكلى وفي الوش بالشكل إللي شوفتيه ده.. أبوه مطلعش بيعاني من الصمم والبكم بس طلع كمان عنده مشكله في الكروموزوم الخامس هيه إللى تسببت في إن (جلال) ابننا يتولد بداء المواء إللي بيعاني منه لحد دلوقتي.
بدا صوتها أكثر توتراً وزادت من فرك يديها ببعضهما البعض.. أشعلت سيجارة من علبة كانت بحوزتها.. ثم نفثت دخانها الكثيف وهي تقول:
لو حد عرف بالموضوع ده حياتي هتنتهي
سارت في اتجاه الشرفة ثم قالت كمن تحدث نفسها:
مكنش لازم حد يعرف بالموضوع ده.
ثم وضعت يدها على كتفي تترجى كي لا أقص على أحد ما شاهدته منذ قليل في بيتها.
………………………..
كنت واقفة وراء الباب الحديدي للمنور أنتظر بجوار (شيكولاتة) زوجي الذي نزل على السلالم ببطء شديد.. كان حزيناً جداً على غير حالته التى رأيته فيها آخر مرة.. ينظر للأرض ويرتدي قميصاً وبنطالاً باللون الأسود لم أره يلبسهما من قبل.. لوحت له لكنه التفت لصوت جارنا الشيخ الذي قال:
البقاء لله يا ابني، زوجتك كانت ست طيبة ربنا يرحمها ويجعل مثواها الجنة.
أجهش زوجي بالبكاء.. ورحت أناديه وأصرخ دون جدوى.. جلست وحدي في الظلام ثم تذكرت سور الشرفة الخشبي الذي انكسر خلفي.. ووجه جارتي (أفكار) الذي كنت أراه يشوه السماء وأنا أطير لأسفل حتى أصبحت هنا.
في كل يوم أصبح (سمير) يضع طبق طعام اضافي بجوار طبق شيكولاتة.. يشير بيديه قائلاً:
“السماح يا أهل السماح”، ويبتسم بارتياح كلما عاد ووجده فارغاً.
في كل ليلة كان (شيكولاتة) ينظر لي بعينيه الخضراوين يدور حولي دورة كاملة ثم يتمسح بساقي لكنني لم أكن أصرخ إلا إذا رأيت وجه (أفكار) ينظر نحوي من الفراغ الأسود خلف الباب الحديدي للمنور كأنها تراني.

د. ايمان الزيات – مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى