أحمد دحبور - راشد حسين شاهدًا وشهيدًا

في الثاني من شباط/ فبراير 1977 تناقلت الوكالات العالميّة نبأ استشهاد الشاعر الفلسطينيّ راشد حسين، إثر حريق شبّ في غرفة نومه، ضمن ظروف غامضة، في مانهاتن، أحد الأحياء الشهيرة لمدينة نيويورك.

كان ردّ فعلي الأوّل أن قلت: لقد فعلها… ولكن بسرعة فائقة. قلت أيضًا: شاعر فلسطينيّ آخر يغيب في أمريكا، بعد توفيق صايغ، إلّا أنّ هذا موضوع آخر.

لا أذكر الآن بالضبط هل كان ذلك في أواخر 1972، أم في بداية العام الّذي يليه؛ أذكر أنّ الوقت كان شتاءً، وكنت أحيط بشوفاج «مكتب الإعلام الفلسطينيّ الموحّد» في بيروت، حين دخل عليّ الشهيد جورج عسل، كان متهلّلًا، وبادرني:

- عندي لك مفاجأة جميلة، بل يمكن القول إنّها كبيرة.

- ما دامت جميلة، فهاتها.

- معي شاعر من الأرض المحتلّة، وعليك أن تحزر من هو قبل أن تراه. ومع أنّي لست سريع البديهة، كما يشهد لي الأصدقاء كافّة، فقد قلت فورًا، وبشيء من التساؤل:

- راشد حسين؟

وفوجئ الشابّ الوسيم الذكيّ بجوابي، اتّسعت ابتسامته الفلسطينيّة وهو يقول:

- ولكن كيف عرفت؟

شابّ فارع، جبهة عريضة وبشرة سمراء، ولهجة فلسطينيّة لا يعرف لذعها إلّا اثنان: مكابد تحت جحيم الاحتلال الصهيونيّ، وآخر في المنافي والمخيّمات. لكنّ هذا ليس كلّ شيء، إنّ مسحة من الحزن التاريخيّ تعرف كيف تحتلّ قسمات وجه راشد حسين، بحيث تدفع جليسه إلى القول: الآن عرفت كيف يكتب هذا الرجل قصائده. كنّا في أحد مطاعم الروشة، خمسة: راشد وجورج في جهة، وأنا والأخ يحيى يخلف وصديق ثالث في الجهة المقابلة، يبتسم راشد وهو ينذرنا:

- أحذّركم أيّها الأصدقاء، فأنا مصفاة كحول، وزيادة على ذلك، فأنا أحبّ أن أشرب الليلة.

ولم نكن بحاجة إلى ’إنذار‘، فقد عرفنا من قبل أنّه يمرّ بأزمة طاحنة، وأنّه، بالتالي، يشرب باستمرار. قال: أتدركون نعمة أن يعيش المرء في جحيم هويّته الفلسطينيّة؟ لو لم نكن فلسطينيّين لكنّا الآن مجرّد أصدقاء عاديّين، نشرب حسب الأصول، ونتنادم حسب الأصول، ونتغزّل حسب الأصول، ولكنّنا فلسطينيّون، ولهذا فأنا أتحدّث مثلًا عن امرأة كهذه:

"كن زوجها… أحببتها قبلك/ وأظلّ أدخل قلبها قبلك، ستكون شاري عطرها وأنا/ سأشمّه يا سيّدي… قبلك/ ستكون أنت عريسها وأنا/ بخيالها… سأضمّها قبلك".

ويتابع راشد حسين من خلال ابتسامته الصعبة: "طبعًا هذه ليست امرأة، وربّما تكون امرأة ولكنّ الأمر لا يقف عند هذا الحدّ؛ إنّها المرأة المستحيلة، المستباحة مرحليًّا، لكنّها تظلّ وهي في أوج اغتصابها، منذورة لحبيبها الفلسطينيّ. إنّها بمعنى ما، روح الوطن". ويدخل الشهيد جورج عسل على الخطّ فيتابع الفكرة:

- ربّما لهذا السبب درج هذا التقليد الجميل بين شعراء الوطن المحتلّ، بحيث أصبحتم تتحدّثون عن الحبيبة والوطن في حالة من الحلول أو التطابق المدهش، كلّنا نذكر يا راشد قصيدتك: «هي الأرض»، الّتي تتحدّث عن العاشق النذل الّذي باع أرضه ليفوز بحبيبته، فإذا بالحبيبة ذاتها تصرخ في وجهه:

"سحبت الحواكير من شعرها

وبعت جدائل زيتونها.

وأرخصت في السوق عرض السهول

وخنت وفاء بساتينها

ومزّقت حلمات ليمونها.

فالشعر والهدائل والعرض والوفاء والحلمات تنتشر على الأرض لتسبغ عليها مسحة بشريّة دون افتعال أو تدخّل ذهنيّ.

ويتشعّب الحديث، فنسأل الشاعر الّذي لا يتكلّم عن نفسه إلّا القليل: ألا تتفق معنا يا راشد حسين أنّ نبرة الحزن والشكوى في صوتك أعلى من نبرة الغضب أحيانًا، أو لنقل: إنّ الغضب في نبرة زملائك من شعراء الأرض المحتلّة هي أوضح؟

ويعبّ راشد كأسه، ربّما السابعة أو الثامنة، وهو يقول:

- ربّما، لا ليس ربّما، بل هذا أكيد. أنا رجل حزين، ولكنّي لست جنائزيًّا، ومَنْ يستطيع تمييز تخوم الحزن من الغضب لدى الفلسطينيّ؟ ذات يوم قرّر ليفي أشكول، رئيس حكومة الصهاينة، تدشين بلدة كرمئيل ضمن خطّة خبيثة لتهويد الجليل، وقد اختار لذلك مناسبة جارحة، وهي ذكرى مجزرة كفر قاسم، كان ذلك عام 1964، أذكر أنّي قلت يومها: "أَوَلَم تكفك هذه المأساة المهزلة؟ أَوَلَم يكف ذلك كلّه للعبث بذكرى الثمانية والأربعين قتيلًا عربيًّا الّذين قتلوا بدم بارد عشيّة عمليّة سيناء؟ يوم عَمَدَت حكومتك إلى مصادرة الأراضي العربيّة دون سند معقول، قيل إنّ ذلك يتعلّق بضرورات أمن الدولة، ثمّ لمّا حظر على جماعة ‘الأرض‘ أن تنظّم نفسها قيل أيضًا إنّ ذلك يتعلّق بضرورات أمن الدولة". فهذا الكلام حزين، لكنّ الحزن كما ترون، تحوّل إلى حقائق دامغة تواجه، بالمعنى المادّيّ، رئيس حكومة الاحتلال شخصيًّا.

ونسأل راشدًا: تحدّثت عن «الأرض»، ونعرف أنّك كنت تعمل معها، فماذا عن هذه التجربة؟

يصمت راشد لحظة ثمّ يقول: تلك تجربة طويلة وصعبة، ولست أزعم أنّي الراوي الدقيق لتفاصيلها، لقد كان لي شرف العمل في «الأرض»، ولقد تعرّضنا لبعض المخاطر، ولكنّ الأستاذ حبيب قهوجي هو المرجع الفصل في قصّة «الأرض»، وهو الآن خارج الأرض المحتلّة، فاسألوه.

وطالت سهرتنا اليتيمة مع راشد حسين، تحدّثنا عن أشياء كثيرة، وتواطأنا جميعًا على الوقت بحيث لم ينظر أحد إلى ساعته، لكنّ طلائع الصباح كانت حاسمة.

بعد حرب تشرين علمت أنّ راشدًا يقيم في دمشق منذ فترة طويلة نسبيًّا، وأنّه يعمل في «مؤسّسة الأرض»، ولم أكد أسمع هذا الخبر حتّى علمت أنّه غادر إلى نيويورك.

كان راشد حسين قد أثخن وتعب، وكان الشرب قد هدّه تمامًا، حتّى أجريت له عمليّتان لتغيير الدم، وكان ينتكس ويعود إلى الكحول. كانت انتكاسته الأولى، على مأساويّتها، لا تخلو من ظرافة، فبعد أن عولج رَكِبَ الطائرة ليعود إلى مقرّ عمله، وفي الطائرة ’خاف‘ من رداءة الطقس وقلق من الرحلة، فأخذ ’كأسًا‘ صغيرة، وعندما هبطت الطائرة كان قد عاد إلى حالته الأولى.

كان راشد حسين بمعنى ما، شاعر الأرض المحتلّة المتميّزة، وذلك في أواخر الخمسينات، لهذا كان لشعره نكهة خاصّة تختلف عن شعراء الأرض المحتلّة الآخرين الّذين برزوا في الستّينات، مع بروز الثورة الفلسطينيّة، فكانت لهجتهم هجوميّة، بينما احتفظ، أغلب الأحيان، بلهجته القديمة، وهكذا لم تسلّط الأضواء عليه بشكل كافٍ، على الرغم من الشهادة الطيّبة الّتي يدلي بها شعراء الأرض المحتلّة بشأنه. محمود درويش مثلًا يقول: "كان بإمكانه أن يحافظ على صوته وأن يظلّ الشاعر المتميّز، لكنّه…".

راشد حسين شخصيّة فلسطينيّة تراجيديّة، كان نظريًّا يطالب نفسه بالكثير، ويعذّب ذاته إلى حدّ المازوخيّة، ولكنّه كان يطرح أسئلة كبيرة ومريرة: سأكره جلّادي وأرحم طفله/ فهل رغم إذلالي وقهري سأقدر؟

بالتأكيد كان بمقدروه أن يرحم طفل عدوّه، ولكنّه مضى بسرعة. واحد وأربعون عامًا من الانفعال، والحزن، والفلسطينيّة؛ ذلكم هو شاعرنا الشهيد راشد حسين، ولسبب ما، لا أستطيع التوقّف عن الكتابة، قبل استحضار صوته في التاسع من حزيران/ يونيو 1967، حين أتاه نبأ هزيمة العرب لحظة تلقّيه نبأ فقدان شقيقته لنظرها، فإذا هو ينشج:

لون عينيك صلاح الدين من دون رجال

وعذاب لون عينيك لأشباه الرجال.

وأستحضر صوته وهو يقول بعد سنوات:

لتحلم… لا بدّ من أن تنام، ولو لحظة واحدة،

ولكن تذكّر…

بأنّ النهوض من النوم،

دومًا هو القاعدة.


الكاتب : أحمد دحبور.
زمن النشر: 1 آذار (مارس) 1977.
أعلى