محمد الإحسايني - من الدروس التي تعلمناها من نازك الملائكة

العَروض العام للشعر الحر والمشاكل الفرعية

توفيت السيدة نازك الملائكة، بعدأن تركت بصمات واضحة على الشعر الحديث بحثاً وإبداعاً. ولم يقع كتابها "قضايا الشعر المعاصر" في يدي إلا بعد صدوره بأكثر من عقد من الزمن. بعد قراءة جزء منه دونتُ بعض الملاحظات فيما يتعلق بالتدوير:
التدوير يتعارض نوعاً ما، مع القافية إذ يعتري التفعيلة- الوحدة الإيقاعية الجزئية في أي تشكيل إيقاعي- حتى نهايتها، أو يمتد إلى التفعيلة التالية من خلال امتداده في الكلمة. وهو من ناحية، عرضي، ومن ناحية أخري، تجرى عليه أحكام الانسياب الإيقاعي أو تدفق الإيقاع المفاجئ الذي يتوقف العمل به مجرد الدخول في التفعيلة الموالية العادية. والتدوير قديم قدم الشعر العربي ذاته؛ إنه يسير جنباً إلى جنب مع القافية، كلاهما يحتفظ بطبيعته، لينتهي الأمر بعد ذلك إلى القافية ‘حيث منتهى الإيقاع. ونلاحظ هذه الحال المشار إليها في قول زهير بن أبي سلمى حيث لم ينته التدوير صوتياً بانتهاء التفعيلة في عروض صدر البيت- المقطوفة- :
" مفاعلتن" =مفاعلْ= فعولن.
والبيت من الوافر بعروضة مقطوفة وضرب مثلها:
يَشِمْنَ بُروقــَهُ، ويَرُشّ أريَ الْ = جَنوبِ، على حواجبها، العَماءُ أي:
مفاعلتن مفاعلتن فعولن = مفاعلتن مفاعلتن فعولن
لكن التدوير في الشعر القديم ، لا يُتكلف؛ إنما يأتي عفواً في انسيابيته كما ترد بقية أجزاء القصيدة العمودية بنفس الوتيرة ونسبته قليلة. قلتُ قد لا ينتهي التدوير بانتهاء التفعيلة،أي إن عملية النغم المفاجئة قد تستمر في مثال زهير المتقدم، إذ انتهت التفعيلة ولم ينته المعنى ولا الإيقاع المصاحب. ومن يخالف رأي السيدة د/ نازك الملائكة، رحمها الله، في كتابها قضايا الشعر المعاصر: " الوتد في الشعر العربي يتصف بشيء من الصلادة والقسوة ويجنح من ثم،إلى أن يتحكم في الكلمة التي يرد فيها، ويرفض أن يسمح للشاعر بتخطيه." ثم تضيف: "وتفسير ما نذهب إليه أن التفعيلة بمعناها الشعري، وقفة موسيقية ينقطع عندها النغم، وهذه الخاصية أبرز وأشد في التفعيلات الوتدية التي أشرنا إليها، لما ذكرناه من قسوة الوتد وصلادته، فإذا توقف الصوت عند آخر الوتد انقسمت الكلمة إلى قسمين تتخللهما وقفة قصيرة وذلك مستكره ينفر منه السمع الشاعري نفوراً ظاهراً. " ...ومن يخالف رأيها، فعليه إثبات عدم وتدية التدوير أولاً، ولن يستطيع ذلك، لأنه مقيد بقوانين الخليل الصارمة فيما يتعلق بطبيعة وكنه تفاعيل تقطيع البحور العشرة: الأربعة الأولى منها مبدوءة بوتد ،والستة بـ سبب. وما دامت تلك الملاحظة شخصية، كما نصت عليها السيدة نازك، فإنها كانت تثير بعض الاعتراض بقصد الوصول إلى رأي سديد وخلاصة وجيهة. وكالعادة دائماً، تأتي المواضيع التي تعالجها السيدة نازك مثيرة وراءها زوابع لدى كبار النقاد والشعراء أمثال الدكتور كمال أبويب، وغيره. غير أن الذي لم يعترف به نقادها بطريقة مباشرة، هو أنها حفّزتهم إلى البحث، وسلّ أدوات سبر الأغوار، وفي غالب الأحيان: تدفع إلى السجالات، وراء الملاحظات التي عنّتْ لكل واحد منهم. شخصياً، حينما وقع كتابها لأمل مرة في يدي1975- بتأخر ملحوظ مدته 13 سنة- وبعد اطلاعي على الفصل المخصص لـ التدوير ،عنـّتْ لي الملاحظات التالية، سجلتها على هامش قراءتي للكتاب، 1975، فاستنتجت أن من الصعوبة الطعن في آرائها، ولكنها قابلة للنقاش، أو باعثة عليه؛ وهي الميزة الملازمة دائما لكل اجتهاد في الرأي. هذه الملاحظات هي:
أولاً- فيما يخص الخاصية الوتدية: هي خاصية غير مقتصرة على التفاعيل الوتدية وحدها، فقد ينقطع النغم، وقد لا ينقطع عند فعولن المركبة من وتد مجموع+ سبب خفيف. )هذه الملاحظة لن يتأتى العمل بها سوى إذا نقضنا قانون الخليل المبني على الأصولية، شأن بقية علوم العربية( ثانياً- ضابط الأصل هو ما بدئ بـ وتد مجموع أو مفروق ثالثاً- ضابط الفرع مابُدئ بـ سبب خفيف أو ثقيل. رابعاً- هل الوتد المجموع، لا يأتي سوى لشق الكلمة نصفين هكذا، ببساطة، فينتهي الأمر؟ في رأيي أن انشقاق الكلمة، أو بقاءها سالمة مساو لتلاشي الحركة المنتهية بالسكون، أو تجاوز سير الوتد المجموع، لها إلى غيرها من الكلمات، كما في مثال زهير الذي سبق ذكره.إذن: يخضع لأحوال إيقاعية يتأرجح أساسها بين التفعيلة والكلمة. بيت ورد في كتاب "العين" على وزن الخفيف لتعزيز الرأي:
أقبلت تنفض الخلاء برجليـــــ = ـها وتمشي تخلـّّجَ المجنون (1)
( ِ فاعلاتن مفاعلن فعلاتن = فاعلاتن مفاغلن مفعولن
فالتدوير ، لم ينته في التفعيلة؛ بل امتد إلى الكلمة، إلى جزء من التفعيلة الموالية ) فا( تاركاً وراءه جزءاً سالماً أولَ، من الكلمة التي أصابها التدوير ليشقها شقاً نغميا مطرباً، ومنساباً إلى الأمام، لإتمام بقية المهمة نحو )علن(. فآراؤها تثير دائماً مناقشات، ولاعجب في ذلك، فهي رائدة الشعر الحر الحفيد الشرعي الخليلي ، أوشعر التفعيلة منذ قصيدتها السباقة الكوليرا وكتابيها :" قضايا الشعر المعاصر"، و"سيكولوجية القافية والقصيدة المدورة" حيث تناولت في الكتاب الثاني ما لم يرد في الكتاب الأول. وبعد؛ فقد أسدت السيدة نازك الملائكة خدمة جليلة للشعر العربي الحديث.عملت في صمت، ومضت في صمت...فرحمة الله عليها.


1) (كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيديج 7 ، ت: د. مهدي المخزومي، ود/ إبراهيم السامرائي. ص47 : لم يهتد إلى قائله




محمد الإحسايني

* الحوار المتمدن-العدد: 1956 - 2007 / 6 / 24 - 08:46
أعلى