علي البدر - حفلة عرس في جو رهيب.. قصة قصيرة

ينهض من فراشه كل يوم متوجهاً الى عمله.يغادر ساحة أم البروم بعد تناول وجبة متواضعة من الشوربة الحارة مع رغيف خبز بارد يدفعه دفعاً بسبابته اليسرى أحياناً، أو البيض المقلي بدهن الحر أحياناً أخرى. عشرات من الباعة مع عرباتهم الشبيهة بمطاعم شعبية متنقلة، انهمكوا بمداراة زبائنهم المعتادين.
مدّ خليل يده في جيبه وأخرج حلقة من المفاتيح المدهونة التي امتزج بها التراب ، فبدت سوداء مغبرّة. خلع قميصه وبنطلونه ولبس لباساً أزرق بقطعة واحدة، ثم آستبدل حذاءه الأسود بآخر مطاطي واستلقى على ظهره بعد أن وضع قطعة من المقوى تحته. كل شيء ملطخ بآثار الدهون المحروقة. الجدران الأربعة والكرسي الحديد الوحيد و.... هناك صورة لطفل رسمها ابنه الصغير. كلما ينظر "أبو سلام" الى تلك الصورة يبتسم ويصمت قليلاً ثم يقول: اذا لم نغيرها نحن، يغيرها الأبناء.
أشارت ساعته الى الرابعة عصراً. رجل فوق رأسه قبعة سوداء، رفع يده وأمسك باصبعيه سيكارة تطاير أكثر من نصفها. وعندما نفث دخانها أحس "ابو سلام انها أجنبية ذات تبغ حار. وكان يعرف أن السيارة التي معه تابعة للشرطة السرية. تغير رقمها الان لكن الوجوه لم تتغير. كانوا ثمانية في خاية واحدة. استشهد منهم اثنان. طُعن أحدهما بسكين في خاصرته . نُقل الى المستشفى فمات فيها. دخلوا صالة العمليات وأمسكوا الطبيب. بقي وحده ينزف حتى انقطاع نفسه. أنذروا الاخر:
- اعترف والا....
- والا ماذا؟
- تموت.
- بل أحيا.
- لا. تموت ورغماً عنك ومن غررك لتقاوم السلطة.
- اقتلوا. ان متّ اليوم فأنا شهيد وطني، وغداً تموتون أنتم فماذا....؟
- لن نموت بل، بل سارسم الحدود هنا على هذا الجسد فتموت أيها الجبان.
- لو كنت جباناً لما كُبِلَت يداي. يصدر الشعب حكمه ليموت الجبناء، تموتون أنتم.
كانت يده اليسرى معلقة خلف ظهره، مربوطة بشباك اطاره خشبي ذي قضبان أفقية حديدية بدك ملطخة بالدماء المتيبسة. اضطر الى الوقوف متوتر القامة على أطراف أصابعه ليخفف الضغط عن ذراعه وكتفه. وكان ارتكازه على ساقه اليمنى بالدرجة الأولى جعله يشعر أن عضلاتها قد تصلبت وأصبحت كالصخرة. تصبب العرق وارتخى الجسم وكاد يسقط لولا قوة شد ذراعه التي ما عاد يحس بها. رفع الضابط يده وضربه بقوة على مؤخرة رقبته فشعر بدوار شديد. تمالك نفسه وراح يتأمله وهو يرفع قدراً من ماء مغلي محاولاً تهديده.
- سأريك كيف تعترف. سأريك. سال الدم من أصابع قدمه، فقد نزفت قبل يومين. انها بلا أظافر. نظر الى قدمَي السجين وسكب الماء فظهرت فقاعات تطاير منها بخار أبيض حار، فأدرك أنه سيموت لا محالة. لابد أن يروي الأرض. لابد للبستان أن يزهر. غداً تورق الأشجار ولن تموت الأرض أبداً.
- ماذا بها؟
- لا تفرمل.
فرش قطعة المقوى. داهمته الشكوك. أيكون هذا اللقاء محاولة للارهاب والتخويف أم بداية لعملية تفتيش محتملة؟ استلقى تحتها وقرر تصليحها بأسرع ما يمكن. عليه الانتظار. يأتيه صديق. يسلمه دراجة هوائية. ينتظر بعدها نصف ساعة في الأقل ثم يرفع صندوقاً للبراغي يستقر وسط دولاب خشبي ببابين. يحمل كيسه الورقي ويذهب. مال بثقله على ذراعه. رفع جسده بقدمه الاخرى فزحف برفق. نهض من تحت السيارة. يد أمسكت بورقة نقدية من فئة العشرة دنانير. خمسة فقط كل حقي. أدار ظهره وغسل كفيه بقليل من البانزين الموضوع في طاسة معدنية معوَجّة. بدا شارع أبو الأسود أكثر هدوءاً. ها هو ذا جاره رحيم مصلح الراديترات، والملقب بابن الزائز، يقفل محله المنزوي، بينما راح الأطفال يدحرجون اطاراً مطاطياً وانهمكوا باللعب. ركب الدراجة. تحسس آلكيس آلورقي. تجوّل قبل اسبوعين في منطقة البصرة آلقديمة، في السيمر والسيف ومحلة القصب والقبلة وصبخة العرب، فبدت الأزقة وكأنها بحفلة عرس في جو رهيب. عليه اليوم أن يدور بمنطقة آلخندق، ابتداءاً من مدرسة المربد الابتدائية ثم مدرسة عتبة بن غزوان قرب سوق الخضارة المجاورة لمركز الشرطة العتيق، ويمر بمعظم شوارع الخندق لينتقل بعدها الى منطقة الداكير(1) أيضاً. اخترق علوة الأسماك فتطاير آلاف الذباب. سار قليلاً متجهاً نحو آليمين فبدت مدرسة المربد. ترجل واتجه صوب كومة من القش وبعض آلسلال الفارغة آلتي وضع دراجته جانبها. فتح أزرار قميصه الأبيض الوسطية.أصابعه تسللت داخل الكيس وسحب رزمة من المنشورات المطبوعة بآلرونيو. صف من الدكاكين أمامه وبعض النسوة اللاتي افترشن الأرض ليبعن سمك الكرمة المشهور، أو بعض طيور الخضيري والبط أو الدجاج والبيض، وهناك بعض الحمالين، استلقى أحدهم وسط عربته وراح في نوم عميق. قد يكون في حلم مجهول. غطى وجهه بمنديل وسخ وظهرت من أحد جوانبه شفته السفلى وقد استقر عليها الذباب. يتطاير ثم يحط ثانية.
تطايرت المنشورات ورفرفت كما ترفرف آلحمامة. احمرت عيناه وراح ينظر لكل الناس، وسقطت دمعتان. حركة غير طبيعية في السوق، علِم بعضهم أن المنشورات تدعوا الى الثورة ومقاومة الظلم. راح البعض يطلب قراءة بعض الأسطر لأحد المنشورات المتناثرة وسط الدكاكين وفوق السلال وبين الأيدي التي تبيع أسماك آلكرمة المشهورة. منشور مطوي استتقر على جسد حمال يغط في نوم عميق. حرّك يده وأزال منديله عن وجهه ثم نهض فوجد جماعته وقد أحاطوأ طفلاً ليقرأ لهم وهم ينصتون، وكانت الكلمات التي تدعو للحرية ومقارعة الظلم ترن في اعماقهم حيث دنا منهم وتناول دراجته وانطلق متوغلاً علوة الأسماك محاولاً السير بصورة طبيعية.
خرج طفل من فتحة باب ضيقة، شذرة زرقاء مثقبة ملصوقة بمقدمة شعره بينما رفعت نهاية ثوبه من الخلف وربطت قرب كتفه بدبوس صغير . منديل مورد ربط بدبوس أيضاً وكأنه من ذهب. تقرّب منه ومدّ يده صوبه. من أجلك نحن هنا. من أجلك نوت. ما أجمل لون عينيك؟ انهما كتراب وطني..
إنتظر قليلاً ثم دسً منشوراً لفت انتباه الطفل" فراح يعدو خلفه في آلطرف الآخر. شاب طويل مجعد الشعر، لوّحت الشمس وجنتيه فبدتا سمراوين مائلتين للسواد. تلاقت العيون وفهم أحدهما الأخر بسرعة فائقة. نجمتان متجاورتان استقرتا على كتفيه. تذكر آلطفل وأحس أن تلك آلصورة لمعلقة بالجدار المدهون تتلاشى لا محالة. ها هو ذا النهر أمامه. خيط رفيع تكدست وسطه صفائح القمامة. حملت بعص النسوة الملابس الوسخة داخل طسوت معدنية كبيرة وحاولن السير وسط الطين على صخور مغروسة فيه.
الشمس لملمت وشاحاً ذهبياً وخرج الأطفال من النهر ووقف بعضهم بدشاديشهم المخططة جانبه وراحوا يتطلعون إليه وهو يمسك بدراجته. ابتسم، فحيوه بابتسامة حلوة. ضغط على نابض صغير عدة ذغطات فرنّ الجرس بأصوات جميلة. ضحك آلاطفال، فضحك هو أيضاً ثم قال: وداعاً.. سنلتقي ثانية بالتأكيد.

(1) الداكير: Dock yard تسمية بصراوية لمنطقة رسو السفن في العشار.

علي البدر 1990

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى