نجم والي - في التعلّم من بورخيس

1
الأجيال الأدبية
في جواب للويس خورخة بورخيس عن فهمه للأجيال الأدبية، قال الأرجنتيني، لكن المواطن العالمي أيضاً، أن كاتباً مثله لم يقع صريعاً لموجات الأدب الجديدة، وأنه لا يتعب من التأكيد على احترام الماضي، في الأقل أن الماضي قابل للتغيير بسهولة جداً في الحاضر، الطريف أن بورخيس عند اجابته على سؤال محاروه الشاعر والدبلوماسي أوزفالدو فيريري، قبل قرابة ربع قرن، لا ينسى أن يؤكد، أنه سيكرر نفسه، وما سيقوله في هذا الصدد هو إعادة لما قاله مرات عديدة، لكن أفضل له تكرار نفسه من تكرار ما يقوله الآخرون، ربما هو نفسه تكرار لنفسه؟ما سأنقله في هذا العمود وفي الأعمدة المقبلة، هو تكرار لما قاله بورخيس، لكنه أيضاً، تكرار لأمور هي من بديهيات الأدب منذ عصور، قيلت بتنويعات مختلفة، ولا بأس أن نعيدها هنا، كلما ظهر عنتريون جدد، من مدّعين في سوق الأدب في البلدان الناطقة بالعربية، سوق نخاسة، فاسدة أصلاً، حيث يسيطر البترو دولار الخليجي، وحيث يتعرى البعض حتى من ورقة التوت وتتحكم بسيل لعابه هذه الجائزة وتلك.تنويعة بورخيس فيها نكهة خاصة، لأنها ارتبطت عنده بالبهجة كما يقول، الأدب بالنسبة له تعبير عن البهجة عند مبدعه، لا يُكتب لغايات منفعة، لذلك هو لا يكتب عن أعمال لا يحبها، يكتب فقط عما يعجبه، وكاتب ما يترك الأثر في نفسه فقط لقيمته، وهو لا يعتقد أن الأدب يجب النظر إليه على شكل تصنيفات "مدارس" أو "أجيال"، تلك هي عادة فرنسية سيئة، فلوبير قال مرة: "إذا كان البيت الشعري جيداً، فإنه لا ينتمي حينه إلى أية مدرسة"، و"بيت شعري جيد لبوالو هو في قيمته العالية، يعادل بيتاً شعرياً عالياً لهوغو"، بورخيس يؤيّد كلام صاحب مدام بوفاري، ويقول، "نعم عندما يصيب بيت من الشعر هدفه، فإنه يصيب إلى الأبد، ومن غير المهم إلى أيّ اتجاه جمالي يصنّف كاتبه نفسه أو في أية مرحلة أو فترة زمنية كُتب: البيت الشعري جيد، فهو جيد إلى الأبد. وهذا الأمر يصحّ لكل الأبيات: يمكن للمرء قراءتها، دون أن يخطر على باله، بأن أصلها جاء من القرن الثالث عشر الإيطالي أو القرن التاسع عشر الانكليزي، أو اية وجهات نظر سياسية امتلك الشاعر، البيت الشعري جيد. ذلك هو المهم.
ثم يذكر بورخيس كيف أنه يستشهد دائماً بسطر لبوالو: " اللحظة التي أتحدث فيها، هي لحظة اصبحت مسبقاً بعيدة"، أنه سطر ميلانكوليكي بالنسبة لبورخيس، وبينما يقول المرء السطر، لن يعود السطر ينتمي للحاصر، ويفقد نفسه في الماضي، لكن في نفس الوقت، كما لو أنه ماضٍ ناشئ للتو أو ماضٍ بعيد: البيت الشعري ينتمي للإثنين. ومن قال ذلك هو بوالو، وهذا السطر لا يتطابق تماماً مع الصورة، التي نملكها عن بوالو، ولكن البيت الشعري سيكون جيداً ايضاً لو كان لفيرلين، لو كان يعود لهوغو أو لكاتب مجهول. البيت الشعري موجود باستقلالية.
أتذكر جلساتنا في سنوات السبعينات، وفي لحظات التجلّي والبهجة، من غير المهم ما لفّنا من خراب، كنا نردد بعض الأبيات الشعرية، نادراً ما ردننا قصيدة كاملة، بعضها غنيناها ليلاً، لم يكن اسم الشاعر الذي قالها مهماً، كان الجميع يتساوون في "البهجة"، شعراء "كبار" وشعراء "صغار"، الأبيات انتمت إلى نفسها وزرعت نفسها في الذاكرة، من الصعب محوها، ما أزال احتفظ بها في جنبات الذاكرة وفي زاويا: "واصيح بالخليج، يا خليج، يا واهب المحار والصدى ..."، "عيناك غابتا نخيل ساعتا السحر أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر"، "آه أيها الماضي، ماذا فعلت في حياتي"، "بحثت عنك بين الحافلات وهي تمر وتوسمت صورتك في صور طالبات المدارس الابتدائية"، "من أين أحبك .. مقفلة"، "من أين يجيء البرد إلي وأنتِ معي"، "أحبك في القليل الذي كان عندي، وفي الكثير الذي صار عندي، وفي الحوار الذي يتجانس في إمرأة ناحلة"، "ناحلة هشة، مشتهاة أريدك، "أصيح لارا ... فتجيب الريح المذعورة لارا"، "يا سالم المرزوق خذ مني ما تشاء إلا حكايات النساء"، "كتبت فوق سحابة، فلتسقط الرقابة، فصادروا السماء"، "ما لدجلة لا يلتفت" .... وغيرها.
أبيات لا تشيخ، مثل الذاكرة التي احتفظت بها، وهي أبدية هناك، لا يهم من قالها ومتى وفي أيّ مكان، والأكثر بهجة من ذلك، أنها ومنذ أن اصبحت ملكنا، صرنا نحوّرها ونغيّر بعضاً من كلماتها دون وعي منا ... نحن نلبي ايقاع البيت الشعري وسحره، إذا لا كنا: نلبي بوصلة القلب وحسب.
أعلى