وداد سكاكيني - ذكرى قاصٍ عراقي

ذكرى قاصٍ عراقيفي الأدب آلام وفيه هموم وأشجان، ولقد تكون صفحاته السود مطوية منسية، حتى تنشرها الذكرى ويبعثها الحنين. من هذه الذكريات ما يهيج في نفسي كلما اطلعت على مقال يصور أدب العراق واتجاهه الحديث؛ ففي تلك الصفحات التي طواها الزمان ولفها النسيان، ذكرى قاص عراقي كان له أثر محمود في تجديد الأدب وبعث القصة على ضفاف دجلة حيث فتحت عينيها (ألف ليلة وليلة) أسطورة الشرق وسحر بغداد

منذ أعوام قريبة أخذت طلائع النهضة والتحرر في العراق الجديد تنبثق من أرجائه الراقية وأجوائه الطافحة؛ هنالك ازدهرت معاهد الثقافة، وراجت أسواق الأدب؛ فرأينا بين الرافدين وفي بلد الرشيد والمأمون، كتاباً يعالجون فن القصة أسوة بأدباء العرب المحدثين الذين توفروا أيامنا على هذا اللون الطريف في آدابنا، وكأن النهضة العلمية التي تجددت في ذلك القطر الشقيق، وتمازج الثقافات في آفاته التليدة، ووقوف أولئك الكتاب على عناية أدباء الغرب بالفن القصصي دون غيره من فنون الأدب؛ كل ذلك حفز الشباب العراقي المثقف وحملة الأقلام الموهوبين منهم إلى إنشاء القصص والاستمتاع بما اشتملت عليه من دقة وصف وعمق تحليل وصدق تصوير؛ وكان ممن أدلى دلوه يومئذ في هذه الينابيع الثرارة أديب مطبوع هو المرحوم محمود أحمد السيد الذي يعرفه قراء الرسالة بما نشر فيها من آثاره، فقد كتب قصصاً عراقية الميسم، منوعة الألوان كانت مرآة لبلاده في عهد أحداثها الجسام، وكان كتابه (في ساع من الزمن) آخر أثر جاء به هذا القاص قبل أن يجود بنفسه الأخير؛ فلما نشر هذا الكتاب طلب إلي أن أنقده على صفحات (الحديث) الحلبية، فأقدمت على تلبيته خالصة النية للأدب، مظهرة محاسن الكتاب مشيرة إلى ما فيه من هنات؛ ولكني لم ألبث أن دعوت على قلمي الذي كان عفاً عنيفاً بنقده، إذ علمت أن ذلك القاص البغدادي عز عليه ما كتبت وآذته صراحتي فصد عنها، ورد علي بما لمست منه أنه تحمل نقدي لقصصه على مضض، فخسرت رضاه وأدى الأمر بيننا لي مناقرة فاشلة وجدل عقيم. وليس ما وقع بيننا بعجيب، فنحن قوم لم نتعود أن نتقبل النقد النزيه بقبول حسن، وأن نعبأ بمقالاته وفائدته وما يؤول إليه الأثر المنقود. وحسبك برهاناً أن الناس في شرقنا اصطلحوا في شؤون النقد على المصانعة والرياء، وأمعنوا في التحيز والمداراة، فلا نقد عندنا يمحص الحقائق، ولا مساجلات تؤرث الأفكار والآراء
من أجل ذلك غاب عنا النقد الحر الصريح، ولم يتزحزح أدبنا عن التقليد والترديد إلا قليلاً. وأحسب أن نقادنا الأكفاء الذين كفوا أقلامهم عن الخوض في هذا السبيل إيثاراُ للمودة والسلامة قد أساءوا شر مساءة، فلولا صمتهم وزهادتهم في النقد لما تجرأ الأدعياء والطفيليون على كبار الأدباء لينهشوا الأشخاص دون الآثار وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وأن إسفافهم هذا من أصول النقد الحديث
إننا قوم لم نتعود أن نحق الحق ونزهق الباطل، وإنما درجنا على أن نماري مراءً ظاهراً. وكثيراً ما جَّر نقد الأدب في كل بلاد العرب إلى خصومة وتنابذ فرَّقا بين الأصحاب وأوغرا الصدور بالأحقاد. ولقد كان بيني وبين شاعرة مصرية معاصرة آصرة أدب وولاء، فلما نقدت ديوانها إجابة لسؤلها، قطعت عني رسائلها اللطاف، فأسفت لما وقع، ولكن قلمي يؤوب ولا يتوب
ما لي ولهذا الاسترسال في قول كاد يلهبني عن (ذكرى قاص عراقي) كانت له مشاركة في توجيه الأدب الحديث في العراق. وأنا بعد أن كادت ترم تجاليد هذا القاص في ثراها، ووالله ما ادري، أعلى ضفاف النيل حيث ذهب يستطب ويستشفى، أم على ضفاف دجلة وفي ظلال النخيل حيث رأى النور، أبعث ذكراه وادعوا أهله وقومه إلى تمجيده وتخليده، والكشف عما في آثاره من جوهر دفين؟
كان يرحمه الله يرى كتابيه: (الطلائع)، (جلال خالد) تجربة ضئيلة في مضمار الأدب الجديد في بلاده، بل محاولات أولى في فن القصة الذي كان يتمنى على الزمان أن يقيض له التفرغ لأصوله والبراعة فيه. وقد أهدى مؤلفيه إلى فتية في العراق، إلى أشباله الأباة الذين كان يرى في وثباتهم تحقيق الآمال.
أما رواياته وأقاصيصه فقد لقيت الثناء والتقدير من أدباء العرب كالأستاذة: أحمد حسن الزيات وأحمد أمين ومحمود تيمور وسامي الكيالي، وغيرهم؛ ومن بعض المستشرقين أمثال: كراتشكوفسكي وب. جوزي وهـ. كب ور. ك طومسن صاحب مجلة العراق في أكسفورد، وكنت من أصدق قرائه وأصحابه إعجاباً بها وتنويهاً بطرافتها وروعتها وكانت مقالاته وبحوثه تتسم بالرأي السديد والأسلوب المبين ويفيض على جنباتها شعور صادق ولمحات شتى تشير إلى مثل الحياة العليا التي يريدها لقومه وبلاده. ولو لم يدركه الموت في عنفوان شبابه لترك للأدب ميراثاً خصيباً لا تبلى جدته. وحسبه فضلاً أنه ساهم في فن القصة العراقية قبل أن يشيع هذا الفن في سورية ولبنان، وسعى مع أنداده أنصار المدرسة الحديثة إلى تعزيز الحياة الأدبية في بغداد، وكتب خواطر وفصولاً في النقد والاجتماع، وترجم عن التركية التي أتقنها قصصاً نشر بعضها ورجا أن يجمعها في سفر مطبوع. على أن أكثر ما كتب هذا القاص مبعثر في تضاعيف الصحف والمجلات العربية في مصر والشام والعراق فحبذا لو يتسنى جمع شواردها في كتاب.
ما أشقى حظ الأديب من أهل دنياه! ففي غابر العصور كان يقول ابن الرومي: لهفي على الدنيا... ورهن المحبسين كان يولول من أم دفر، وهكذا في جديد الدهر يموت الأديب فيتحسس الناس مجاثم نبوغه بعد مماته ويهبون لتمجيد ذكراه. وما أحراهم لو فعلوا ذلك في حياته فقدروه قدره وكرَّموه بما كان يزيده بسطة في أدبه وتحليقاً بفنه. وقد يكون بين عاثري الجدود من الأدباء من لا يأبه لفقده عارفوه، كالذي وقع للأديب العراقي محمود السيد، إذ لم أعرف صحيفة أدبية في بلادنا عددت مآثره إلا مجلة (الرسالة) في مصر، فقد نعته لقرائها ورثته بكلمة وجيزة. وكان المرتجى من صاحب (الحديث) في حلب وهو الوفي لإخوانه الأدباء أن يختصه بمقالة على الأقل في مجلته التي سكب الفقيد كثيراً من المداد على بحوثه وقصصه فيها
فيا أسف الآداب والشباب لفقدهما هذا العصامي الذي حمل باكورة القصة في مرابع الرشيد! ويا فتية العراق المناجيد، ويا صحبه الأكرمين، من أولى منكم بإثارة ذكراه، وأنتم الذين أحبكم وأهدى إليكم ما خطت براعته قبل أن تغتمض عيناه؟
لم يكن محمود أحمد السيد مغمور الصيت ولا مجهولاً لدى قراء العرب، وإنما عاش كأزاهير الليمون في الربيع تتشقق أكمامها عن الحياة ويفوح منها الأريج، ثم لا تلبث أن تذوي وتتساقط تاركة في الأفانين ثمراً مختلفاً ألوانه طيباً مذاقه
هكذا أفل شباب هذا القاص البغدادي الذي حرم دنيا تضيّفها تاركاً آثاره التي تشف عن أدب نضير مطبوع بمياسم العراق.

الرسالة / 1941
أعلى