حاميد اليوسفي - العاصفة

نزل الخبر على الأنترنيت كالصاعقة. لقد اعتقلوا حاكم المدينة. تلفنت الزوجة لقائد الحزب فوجدت الهاتف مشغولا. انتظرت أكثر من ساعة ليتصل بها:
ـ ألو لالة أسماء!
ـ ألو السيد الرئيس!
ـ بالله عليك ، قل لي ماذا يحدث؟
ـ نحن نعمل كل ما في وسعنا لتجاوز هذه الأزمة. أعطينا بعض الوقت.
ـ الله يلعن والديهم، ما ظهرنا لهم غير نحن ؟
ـ أرجوك هدئي أعصابك! واقفلي الهاتف. لا تتحدثي إلى الصحافة. شدة وتزول إنشاء الله.
ـ وهل تركوا لنا أعصابا لتهدأ!
ـ سأقطع الآن الهاتف، شخصية مهمة على الخط. سأعاود الاتصال بك في المساء.
عشر ساعات متواصلة من التحقيق أنهكت المتهم. أسئلة كثيرة حول فاتورات وأرقام ومبالغ تحمل عشرات الأصفار على اليمين. أحس بعطش شديد. طلبوا له قنينة ماء أولى، ثم ثانية. الماء لن يطفئ عطشه. تمنى لو قدموا له برميلا من الخمر لما أسكره. المحامي الذي حضر معه التحقيق بدت ملامحه متوترة. فقد الأمل في الحصول على السراح المؤقت لموكله. الساعة الآن تشير إلى الثانية صباحا. النيابة العامة أصدرت أمرا بالاعتقال. الملف كبير، لن ينفع معه أية تدخلات. أوامر جاءت من فوق تطلب تفعيل المسطرة. بعدها أخذوه إلى السجن في انتظار الانتهاء من التحقيق. ذاع الخبر بسرعة. السجناء لن يغمض لهم جفن، حتى يرونه بأم أعينهم يستقر في زنزانته بجوارهم.
المواقع الإخبارية وصفحات المؤثرين تغلي، والهواتف في الخارج لا تتوقف عن الرنين. موظفون ومسؤولون كبار يتحسسون رؤوسهم، ويتابعون الحدث بنوع من التذمر والاحتجاج في صمت. كاميرات الإعلاميين مثل الرشاشات مصوبة نحو الشارع المؤدي إلى السجن، تنتظر السيارة التي تُقل المتهم الكبير. مدير السجن وبعض الحراس ينتظرون قريبا من الباب. الشرطة تطوق المكان. تدخل السيارة الى المرآب. لم يتمكن الصحفيون على بعد عشرات الأمتار من التقاط صور حية للمتهم، لكنهم التقطوا فقط صورا للسيارة التي نقلته إلى السجن. صور مبهمة لكنها تكفي لتأكيد الخبر.
بعض الإجراءات الإدارية بسيطة، لكن شابها نوع من الارتباك. قاد مدير السجن رفقة بعض الحراس الضيف الكبير إلى زنزانته. علت الزغاريد من بعض الزنازين المجاورة. الضيف ليس متهما عاديا. لأول مرة يرى السجناء حاكم المدينة، ووزيرا سابقا يُحشر معهم كمتهم في نفس السجن. والأخبار تعدهم هذه الأيام بالمزيد.
لم يستطع الضيف الكبير تحمل الصدمة. قيل والعهدة على الرواة، بأنه سقط مُغمى عليه. البعض زاد بأنهم أخذوه إلى مصحة السجن.
عندما فتح عينيه كانت الساعة تشير إلى الثانية عشرة زوالا. لا يعرف كيف أغمض جفنيه. ربما حقنوه بمهدئ أعصاب. تحرك من الفراش محاولا النهوض، أحس بألم في مفاصله يُشبه التعب الذي يتلو حصة من حركات رياضية قاسية. جاء الطبيب بسرعة. طلب من مساعدته فحص ضغط الدم. نظر إلى الجهاز، ثم التفت الى المتهم وابتسم قائلا بأن الوضع الآن في تحسن. طلب من الممرضة أن تُقدم له الدواء بعد تناوله لوجبة الفطور. جاءت ممرضة أخرى تحمل بلاتو، وضعته بجانب السرير. أزاح الفطور جانبا، فقد شهية الطعام. احتفظ بفنجان القهوة.
خرج السجناء للفسحة اليومية. عمّت الساحة الضوضاء بفعل اختفاء الضيف الكبير.
قال أحدهم :
ـ سمعت بأنه نُقل إلى المصحة بعد تعرضه لوعكة صحية.
رد آخر:
ـ لا بد أن أحد المحامين نصحه بافتعال أزمة صحية لنقله من العنبر.
أضاف ثالث:
ـ إنه وزير سابق وحاكم المدينة وبرلماني! وليس من العدل أن يُسجن مع اللصوص والمجرمين مثلنا. لا بد أن الصدمة كانت قوية عليه.
قال رابع:
ـ لسنا محظوظين. كنا سنضعه تاجا فوق رؤوسنا، نحميه ونوفر له كل ما باستطاعتنا. قد يأتي يوم، ويرد لنا الجميل.
يظن الراوي وبعض الظن إثم، أن هؤلاء المسؤولين الكبار القادمين من فوق الهرم الاجتماعي، لا ينعم باقي السجناء بمجاورتهم وقتا طويلا. لديهم من القوة والجاه ما يشترون به السجن بكامله. حتى إدارة السجن تُعاملهم كزوار مؤقتين يمرون بمحنة، قد تزول بمجرد سقوط مكالمة هاتفية في أي لحظة من فوق.
خرج الجميع من الغرفة.. بقي وحيدا.. انتابه إحساس بالضعف.. كاد يبكي.. تكلست الدمعة في عينيه مثل قطعة حجر.. من كان يظن بأنه سيجد نفسه في هذا الموقف؟.. الكل تنكر له، وأغلق الهاتف في وجهه.. لابد أن المصيبة التي حلت به كبيرة إلى درجة أنها زرعت الرعب في محيطه.. الحزب كله يغلي. لا أحد يعرف إلى أي مدى يمكن أن يذهب الملف؟
قال محاولا التخفيف من هول ما حلّ به:
ـ يا عبد البديع اهدأ! الكل يسرق، عفوا يُخطئ .. من الصغير إلى الكبير. التهمة إلى حد الآن مجرد تبذير للمال العام. نحن المسؤولين الكبار لا نسرق، ولكن قد نُخطئ. لا بد أن تهدأ، وتترك العاصفة تمر كما يشاؤون. أنت لا تملك أي شيء خارج عن القانون. صرحت من قبل بأنه ليس في حوزتك سوى ممتلكات محدودة قد يحصل عليها أي موظف صغير بعد ثلاثين سنة من العمل. كنت دائما تحتاط لمثل هذا اليوم، وتخاف أن يذهب شقاء العمر في رمشة عين. أنت أيضا يجب أن تحتمي بالقانون . بالقانون لا يستطيعون الوصول إلى أي شيء.
أنت تعرف الكثير من الأسرار، وتعرف الكثير من المسؤولين الكبار مثلك الذين يخطئون في وضع الأصفار على اليمين. لا بد أن تغلق فمك حتى تمر العاصفة.

مراكش 05 ماي 2023

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى