عبدالله البقالي - هدير الأزمنة

....تحدد كل شى الآن. هنا القعر المشكل من إيام وشهور وفصول متشابهة وتتمدد كجزئيات لتمثال يجسد الزمن في شكل أسد وهنت قواه، ولم يعد بإمكانه أن يضيف شيئا لحكايات بطولاته. ولهذا اختار أن ينزوي بعيدا عن مسارح مفاخره. وفي الأعلى الملامس للمساحات التي ينساب ويسري فيها النسيم، تتطلع الأعناق لدفعة تسمح لها بوضع الأقدام على البساط المستوية لتستعيد نشوة القدرة على الركض، والمضي في شتى الأصواب.
في هذا الفاصل بين القعر والقمة، لاشى أجدى من الحفاظ على الاعتقاد بكون الزمن بالرغم من سباته، فهو متحرك. وهو يستطيع أن يمكنك من شرفة تطل من خلالها على ذلك التل الهائل المشكل من وحدات الزمن التي ستراها تتناقص كل يوم، لتتلاشى في النهاية مفسحة الطريق أمامك لتغادر ما تعتبره إقامة جبرية.
لاشى بإمكانه أن يجسد المشهد أفضل من مقهى البشير. وهي تقع فيما يمكن اعتباره محطة خاصة تتوقف فيها الحافلات القادمة من مراكش، والحاملة على متنها الجنود الذين انهوا عطلهم. لتعود في نفس اليوم حاملة الجنود الذين سينطلقون في إجازات.
بين العودة والرواح تكمن المتعة بالنسبة لشخص يبحث عن دليل على الا شئ ثابت. وبذلك يتشكل نفس يكسر ويفتح معبرا بين صلابة جدران اشبه بقسوة المطلق حين يفيد الا ممكن خلفه.
بين ملامح الوجوه العائدة وتلك التي بصدد الانطلاق تتناثر وتتوزع الأبعاد في تكثيف هائل.
العائدون يمشون بخطى ثقيلة وكأنهم يجرون كل الماضي ولحظات الأنس التي عاشوها. و المنطلقون يبدون كأطفال كل ما يمكن أن يكتبوه كحكايات لأعمارهم كامنة في المستقبل. ولذلك يسرعون الخطى لملاحقة تفاصيل حكاياتهم.
المنطلقون في العادة هم الأكثر تفاعلا، ويبدون كمحرك اشتغل طويلا في رفع حرارته واستجماع قواه لتحصيل ما يكفيه من طاقة. ولذلك في كل نظرة كانوا بلقونها حولهم، كانوا يبدون وكأنهم بصدد ترجمة لما رسموه في انتظار طويل . ولهذا بمجرد ما يقفزون من الشاحنات، يبدأون في نفض الغبار الملتصق بهم، لحد ان الشاحنات كانت تختفي. ثم يهرولون الى بوابات المقاهي التي كانت تضع هناك براميل كبيرة ممتلئة بالماء التي تعرضها ضمن خدماتها.
فيما يزيد عن المئة والعشرين يوما التي قضاها الجنود في جبهات الاقتتال والتطاحن، كان الوصول الى هنا حلما. واليقاء على قيد الحياة امنية، في انتظار ان يروا تلك البوابة الضخمة تندس في الارض وتبسط معالم طريق الى حيث الأحبة والاحضان وتجديد الصلة بالحياة.
هدير الأزمنة
في المساء، كان المزاج السائد في البيت رائقا جدا. حتى ان الاصوات كان يمكن التقاطها من مسافة بعيدة. وهو ما يوحي ان هناك حدثا قد كسر الرتابة ودفع بالجميع لمغادرة غرفهم والتجمع وسط الفناء.
عند المدخل كانت تنتشر رائحة الحشيش بشكل كثيف، وحين اطلت من الباب تعالت اصوات الضيوف: تعال... ومد احدهم لفافة محشوة بالمخذر واضاف: تبرك من بركات سيدنا العامل
بدا الامر مغرقا في الالتباس، واضاف الخيبري: في كل زيارة سنعيش الطقوس ذاتها. وسنستمتع بجود الجوادين
كان المشهد مسليا بالفعل في ان يجتمع كل هؤلاء وبتلك الروح التي غابت عنها المناوشات وتباين الآراء الذي كان يصل حد الصدام كما في السهرات السابقة. وهو ما يفيد ان شيئا غير عاد قد طرأ واثر في امزجة الحاصرين. وكان سألت: ما مصدر هذه البركة؟
ارتفعت موجة حادة من الصحك. ونظراتك المتسائلة زادتها حدة. وفي النهاية قال علوان: الإنسان لا يتعلم دفعة واحدة. والفهم كأدراج سلم، الرغبة والعزم هما من يحدد المدى الذي يمكن الوصول اليه.
كان واضحا ان علوان في قمة انتشائه، وهو حين يكون في حال كهذا، يجنح الى فلسفة كل شى حوله. لكن عند حد ما، كان يجد نفسه مفتقرا لشى ما يعيقه ويحول دون الاستنتاح الذي يرغب في الوصول اليه. وحينها كان يعمد الى التخلص من زي الثقف الذي بحاول ان يلبسه ثم يتجه صوب اي نهاية. قال لك: تعال واجلس الى جواري.. واضاف: انا ابن الجنوب. وكما في التاريخ، فالجنوب هو الرحم. والشمال هو الذرية. وهذه الرقعة الضيقة ستلقنك اشياء كثيرة لا علاقة لها بكل ما ترسب في ذهنك من سنين تنشئتك. وكمثال لما اقوله هو هذا المخذر الذي يحصل المتعة ويمكنك من قهر الاحساس بالزمن. هذا المخذر وصل الى هنا من خلال موكب العامل.
اثار ما قاله دهشتك ثم اضاف: العامل كأعلى سلطة هنا له دراية بكل شئ ، الا بأمر عازفين موسبقيين ضمن الفرقة النحاسية التي تنشط فقرات الاحتفاءات بوصوله.
يسيطر عليك الذهول اكثر فأكثر، لكنه أضاف منتقلا الى ما هو اهم من ذلك: أنت مثلا بكل هذه المثالية التي تعتقدها عن نفسك، ستحولك الايام الى القيام بالدور نفسه مع فارف بسيط.
قلت مستنكرا: أنا ؟
هز رأسه وقال : نعم انت، و الايام بيننا.
قلت معترضا ومحتجا: لا يمكن ان يحدث ذلك.
علق: هذا ان ظللت ممتلكا لإرادتك.
قلت: كيف؟
قال: عندما ستحصل على بعض الغرامات من المخذر، نتيجة توصية او صدفة، سيعلم كل هؤلاء بذلك. وسنزورك لتجد نفسك بين خيارين. إما أن تكون حاتميا ونستهلك كل ما بحوزتك بالمجان، او تقتسم معنا الغنيمة من اجل الحصول على مقابل، وهو ما سيؤهلك للحصول على نصيب متى تبين لك ان احدهم قد وصلته بضاعة. هذه ليست تجارة، هذا نسميه هنا بالرواج التضامني ان شئت، وستجد له مريدين داخل جماعات مغلقة في مجال عملك او في مخفر الدرك او الثكنات وفي كل مكان.
كانت صدمة قوية وانت تطل على العالم من هذه الشرفة التي لا يظهر لها وجود، ولا تنتفح لأي كان. لكنها كامنة هنا وتمكنك من رؤية المساحات الخلفية التي تمتد وراء كل واحد من الاشخاص الذين يبدون في انسجام تام داخل الحياة.
تخرج الى بوابة المنزل محاولا ان ترى ما تبقى من المساحات التي لم يغمرها الظلام. تتذكر ان ها هنا قبور واضرحة لثلاث مئة وستين وليا صالحا يرقدون في اعالي الحبل. يبدو لك العدد اكبر حتى من عدد الأحياء الذين يتحركون هنا. لكنك تستشعر ان خناك جاذبية خفية هي التي جعلت من المكان محجا لكل اولئك. تحاول ان تقارن حالك مع حال هؤلاء حتى وان كان الفارق صارخا. لكنك تنتبه ان ارضا بهذه المواصفات لن يبحث فيها قاصدها على ان تكون مصدرا لإسعاد الجسد. بل القصد هو العكس تماما ، وان قهر الجسد وكتم انفاسه هو السبيل لإسعاد شئ ما داخل الانسان. وهم اختاروا طواعية ذلك ولم يجبرهم احد، وهذا هو الفرق بينك وبينهم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى