لبنى ياسين - الموت صمتا

هو كان رجل الاختصار .. رجل القضايا المعلقة .. رجل العبور المار ليلا في قطارات الهروب... رجل النقاط الحازمة التي تنهي السطور بترفع ,تشي هامته الطويلة بنفس أبية, بينما يشي نحوله و لمعان عينيه بطبع ناري ليس من السهل إخماد براكينه.
هي كانت امرأة الخوف..لا تكاد تشغل مكان فاصلة تتكئ بحياء على السطر لتفصل بين جملتين متقاربتين , امرأة الأرض الساكنة .. التي توقفت عن الثورة و ربما عن الدوران منذ عصور.. امرأة الرغبات الأرضية بكل ما فيها من تهميش و تضليل.
على هامش الحياة التقيا قليلا .. قليلا بما يكفي للقاء عابر دام دهرا .. بهرها عنفوانه ..شدها كبرياؤه .. ارتعدت إعجابا بتحليقه في سماء الفتنة... بهرته هو بساطتها و أعجبه انبهارها بكل ما فيه.
قالت له : أهلي لن يرضوا بك فأنت تنتمي لديانة أخرى .!
قال لها : إن لم تحلقي للسماء لن تنزل السماء إليك، إن لم توغلي في أعماق البحر لن يفتح هو لك ذراعيه ويتوجك بانكسار أمواجه عند الغروب حورية بحر... و القرار لك.
أرادت أن تكون له .. أرادت أن تكون مثله، أغرتها فكره الإيغال في الماء الأزرق، فغادرتهم ذات شمس بدون حقيبة سفر، فقط تركت ملاحظة صغيرة:
- اعذروني ..أريد أن أرى علو السماء وعمق البحر، أحبكم جميعاً.

طوت مسافات الاختلاف على جناح المحبة، تأبطت كبرياءه وركبا أول طائرة للفرح تقلع باتجاه أحلامهما على صوت انبهارها به يعلن أن على ركاب طائرة الشوق حزم أمرهم والصعود إليها.
لم يكن ثمة غيرهما على متنها، وبضع تفاصيل أخرى مهملة - لم تكن تستحق التفكير بالنسبة إليه - شغلتها حد الهلوسة .
ثم هبطت الطائرة على مطار الحياة اليومية، وعلى مدرجها الوعر بدأت طقوسهما تبدي اختلافاً شرسا و بدأت هي تهوي من علياء السماء بسرعة مخيفة.
سألته مراراً:ماذا تحب أن أطبخ للغذاء؟ هل تريد أن أجهز لك الحمام لدى عودتك؟هل يحتاج قميصك إلى غسيل؟
هو سألها: أيكفيك هذا العلوأم تريدين أن نحلق أكثر؟ هل كانت السماء زرقاء كما ينبغي لعيون حبيبتي؟هل أحببت السير فوق الغمام؟

ثمة هوة كبيرة متسعة بينهما بدأت تنفرج أكثر فأكثر، لم يستطع أن يبني لها جسرا من دقات قلبه، لم تستطع هي القفز فوق تلك الهوة، كانت تنفلت من بين يديه وهولا يستطيع شيئا لإيقاف ذلك السيل الجارف المار بينهما.
ذات يوم قال لها: دعك من الغذاء، دعك من قميصي، سأصوم دهرا إن أنت شاركتني حياتي، شاركيني جنوني .. شاركيني حزني .. عمديني بدموعك و سأغدو ولياً، ابتريني بحزمك ولتتركي بي عاهة لا أبالي، لا تقفي متفرجة هكذا أريدك معي في كل خطوة أخطوها.
لم تفهمِ شيئا مما قاله وقفت و هي سادرة اللب ..لم تع ِ ما الذي عليها أن تفعله عدا تجهيز الغذاء و ترتيب أمور المنزل ..فاستفاضت حيرة .
بعد شهور لم يلتقيا فيها إلا على حافة سرير، لم يتحدثا إلا بضع كلمات لا تعني شيئاً،أحضر لها الجريدة التي اعتاد أن يكتب فيها، رماها في حضنها دون أن ينبس ببنت شفة ومضى صامتا نحو سرير الغربة .
فتحت الجريدة، توجهت إلى زاويته، كان عنوانها "الموت صمتاً" تتحدث عن فجيعة الحب غربةً بين حبيبين لا يمتلكان لغة ما، عن حبيبين يتحدثان لغتين مختلفتين تماماً، عن انتحار الشوق في لوعة الاختلاف، عن اغتيال العشق في حضرة الصمت، عن جنازة الحب المتواضعة التي لم تكن تليق أبداً بعلاقة كتلك.
هي .. لمت حقيبة الخيبة، وعادت أدراجها منتعلة حزنها على طائرة الندم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى