سي حاميد اليوسفي - القيظ..

لا حديث للناس في مراكش إلا عن الصهد. عاصفة رملية تجتاح المدينة. عندما تمتزج كثافة الغبار بقوة الرياح الساخنة، وتسقط الأمطار، وتتهاوى الأشجار، ويتحول النهار إلى ليل، والناس تطلب اللطف من الله، يصبح الجو حامضا إلى حد القيء.
الأخبار تنقل بأن شجرة سقطت على رجل بعرصة البيلك فمات.
قال عبد الله وهو رجل مسن:
ـ (خروج الليالي نعايم، وخروج السمايم نقايم).
طلب منه عبد السلام أن يفسر أكثر، فرد مبتسما:
ـ اسمع يا بني. الفلاحون يسمون هذه الفترة من الصيف ب(السمائم). وهي تمتد 40 يوما، تتخللها رياح الشركي، ويحترق فيها النبات، ولا يتبعها غير الجفاف، وتشعر معها الأبدان بالتعب، والنفوس بالكآبة، لذلك وصفوا خروجها بالنقمة. وقسموها إلى أربعين يوما. عشرون يوما نار، يطير فيها الطائر، ويسقط على رأسه. وعشرون يوما معتدلة.
أما فترة (الليالي) من فصل الشتاء، بالرغم من شدة بردها، وقساوة ثلجها، فبعدها يأتي الربيع، وما يصحبه من خير وبركة وفرح وبهجة للنفوس..
بعث لنا صديق بصورة لطفلة صغيرة احترق وجهها، وغطاه سواد الفحم، فبدت كأنها خارجة من فرن. وأصحبها بتعليق يقول بأن أمها نسيتها فوق سطح المنزل فاحترقت.
رسالة أخرى عبر فيديو من دكان تاجر، يظهر فيه (فلوس)*، وقد خرج من البيضة من شدة الحرارة.
تلقينا فيديو آخر لامرأة صعدت إلى السطح، وفقست بيضة في مقلاة ثم عرضتها للشمس، فهيأت بسرعة (اومليت)* من غير فرن غاز.
امرأة أخرى تظهر في صورة، وهي تنشر رغيفا فوق حبل الغسيل لفترة وجيزة، فتجده قد نضج، وأصبح جاهزا للأكل.
قال عمر:
ـ الناس لا يصدقون ما تعلنه الهواتف النقالة، والنشرات الجوية عن درجات الحرارة، وترد على ذلك بسخرية.
وأضاف بأنه لم ينم ليلة الأمس، وكأن الشمس اقتحمت عليه غرفة النوم. لم يعد الناس يميزون بين النهار والليل إلا باشتعال المصابيح الكهربائية.
رد عليه مصطفى:
ـ قبل ثلاثة عشرة سنة، وفي شهر رمضان المبارك، اجتاحت المدينة حرارة مفرطة. الناس تسرح مثل النمل، وتحمل معها رشاشات صغيرة، تبلل بها الرأس والوجه. لا تستطيع أن تخرج، أو تجلس في دكانك من غير رشاشة.
أحد الكذبة روى بأنه يُعرّض السيجارة للشمس فتشتعل. ضحك المجلس، وطلب منه أن يربط السلوقية.
قال سعيد وهو ينظر إلى الأطفال يلقون بأجسادهم وسط ماء النافورة:
ـ كنا في بداية الثمانينات من القرن الماضي نشك في أخبار الطقس، ونعتقد بأنهم لا ينشرون درجات الحرارة الحقيقية، إما لأسباب ترتبط بالسياحة، أو خوفا من ترهيب المواطنين. اكتشف الناس وسائل خاصة لضبط هذه الدرجات.
عندما تشتد الحرارة، وينقلب الجو في النصف الثاني من النهار إلى عواصف ورياح قوية مصحوبة بالغبار والأمطار، فاعلم أن درجات الحرارة تجاوزت 48. أما إذا وطأت على الغطاء القصديري لقنينة مشروب غازي، واختفى بسهولة في الزفت، فدرجة الحرارة تجاوزت ال 45.
بعض المنازل التي تفوق مساحتها المئة متر، تنزل الشمس إلى وسطها، وتتعرض انابيب الماء لأشعتها فترة معينة، فيسخن الماء إلى مستوى يعتقد معه البعض بأنه أصبح جاهزا لتهييء الشاي.
المكيفات الهوائية مرتفعة الثمن، وتستهلك الطاقة بشكل كبير، كنا نراها على جدران الشقق والمكاتب بالمدينة الجديدة (جيليز). التجار والأسر الميسورة إما يستعملون مروحة كهربائية، أو مكيف صغير يضعه سيد البيت في النافذة، بالقرب من رأسه. يملأه بالماء، فينبعث منه رذاذ رقيق بارد. أغلب الناس يبحثون في النصف الثاني من النهار عن مكان في المنزل لا تصله أشعة الشمس. وغالبا ما يكون (أعكومي) البهو الذي يفصل باب المنزل عن وسطه.( البهو بدل الغرفة
أضاف عبد السلام وهو يمسح العرق عن جبينه:
ـ أغلب البيوت كانت مشيدة بالطين، وتتوفر على جدران سميكة تمتص الحرارة في النهار، وتلفظها في الليل. لذلك تتكفل النساء والفتيات برش السطح أو وسط المنزل بالماء البارد. بعض المنازل تتوفر على آبار يجري فيها ماء عذب وبارد. يكفي وضع بطيخة صفراء أو حمراء في دلو، وإنزالها إلى البئر لمدة ساعة أو ساعتين حتى تبرد ، وكأنك وضعتها في ثلاجة.
لا تبدأ السهرة في وسط المنزل أو فوق السطح، إلا بعد منتصف الليل، وقد تمتد إلى طلوع الفجر. يحذر الكبار الصغار من النوم بالقرب من شقوق الجدران. فالسمايم موسم العقارب.
ويقضي الناس في بعض الأحيان سهرة الصيف في الهواء الطلق بأي منطقة خضراء مثل شارع فرنسا قبل أن يتحول إلى شارع محمد السادس. يتناولون الشاي أو المشروبات الغازية، ويرددون الأهازيج الشعبية مع الشباب الذي يرقص ويغني.
تناول عبد الله كأس الماء وقال في حسرة:
ـ كنا في الماضي نرتاح لهذا الفصل رغم شدة حرارته. ونصفه بالرجل الظريف، الذي يرفق بنا، ولا يتطلب الكثير من الغذاء واللباس مثل فصل الشتاء. أما اليوم فقد وجد الكثير منه الفقراء مثلي أنفسهم سجناء في أقفاص من الإسمنت بلا مروحة، ولا مكيف، كمن يتقلّى في الزيت.
رد سعيد في غضب
ـ لا ليس عدلا.. ألا تكفي نار الفقر.. حتى يتحول الصيف من صديق إلى خصم، يتوعد الفقراء بشيّهم في الدنيا قبل الآخرة؟!


المعجم:
ـ فلوس: كتكوت
ـ أومليت: اللفظة مأخوذة من اللغة الفرنسية، وهي وجبة بيض تطبخ في المقلاة مع قليل من الزيت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى