عبدالسلام بنعبدالعالي - نخبة منتقاة من المفكرين العرب

يقدم لنا هذا الكتاب حوارات مع نخبة منتقاة من المفكرين العرب. فهو يشكل، بمعنى ما، زبدة الفكر العربي، ويبلور أهم القضايا التي تشغله، ومجمل الصعوبات التي يواجهها، ونبذة عن التطلعات التي يرمي إليها.

وقبل أن نحاول عرض أهم القضايا الفكرية التي تشغل أذهان مفكرينا، والتي يمكن أن نستخلصها من هذه الحوارات معهم، لنتوقف أولا عند السمات التي تكاد تصدق عليهم جميعا، والتي يمكن أن نقول إنها طبعت الفكر العربي في مجمله.

ينتمي معظم هؤلاء المفكرين إلى الجيل الذي ولد أواسط النصف الأول من القرن الماضي، ذلك الجيل الذي واكب حركات التحرر من ربقة الاحتلال الأجنبي بمختلف أشكاله، كما واجه التخلف بكل أبعاده فكان عليه إرساء الحداثة في مختلف تجلياتها، وهو يواجه اليوم أخبث أشكال الوثوقية وقد اتخذت صورة عنف مادي مجسد. إننا إذاً أمام رعيل من المفكرين الأكاديميين الذين ارتبطت لديهم الثقافة والفكر بالنضال من أجل التحرر والتحديث والديمقراطية.

لا عجب إذًا أن يكون الطابع العام لهذا الفكر هو تجذره، لا أقول في السياسة، وإنما في السياسي Le politique . لذا فهو لم ينم بعيدًا من معمعة النضال، ولم يقتصر على تأملات نظرية في استقلال عن كل ممارسة. من هنا طابعه غير الأكاديمي الصرف. بهذا المعنى فإننا نستطيع أن نقول: إن مفكرينا قد انتزعوا الثقافة انتزاعًا، ولم تقدم إليهم المعارف على طبق من ذهب. لعل ذلك ما جعل أغلبهم لا يعرف التخصص المعرفي بمعناه الأكاديمي؛ إذ إنهم كانوا مجبرين على تعدد الانشغالات، وتنوع المصادر، وتشتت الاهتمام، وتعدد اللغات. فلن نستطيع أن نقول إن هذا متخصص في الاقتصاد، وذاك في الأدب والآخر في التاريخ، إلخ…بل إننا نجدهم مرغمين على الانفتاح على مشاغل وقضايا تتجاوز مجال تخصصاتهم، ليس تطاولًا منهم، وإنما ضرورة يفرضها واقع حالهم الذي ينيطهم بمهام أقوى من طاقتهم في أغلب الأحيان.

سنلمس هذا، بطبيعة الحال في مجمل القضايا التي يعرضون لها، والتي تبلورها هذه الحوارات، تلك القضايا التي تلتحم بالواقع العربي وتنمو في كنفه. صحيح أن هناك اختلافًا من مفكر لآخر، فهناك موضوعات تشغل بال هذا، ولا يعيرها الآخر أيّ اهتمام. إلا أن هناك ما يمكن أن نطلق عليه قواسم مشتركة، وقضايا عامة شكلت الخلفية النظرية، والانشغال الأساس عند معظم مفكرينا، حتى وإن لم تكن بدرجة الوعي نفسها عند كل واحد منهم.

لعل القضية الأولى التي يبدو أنها تشغل بال مثقفينا، والمتحاور معهم هنا على الخصوص، هي مسألة الإسلام السياسي، وما يتمخض عنها من قضايا نظرية كعلاقة الأخلاق بالدين ومسألة تأويل النص الديني، ومسألة الإصلاح، وقضايا الوثوقية والعنف.

القضية الثانية التي تكاد تحضر في جميع هذه الحوارات هي مسألة تحديث المجتمعات العربية، وما يتفرع عنها من قضايا، كمسألة العلمانية وقضايا بناء الدولة الحديثة.

القضية الكبرى الثالثة التي نلمس بقوة حضورها في هذه الحوارات هي مسألة النخب الثقافية وما يتفرع عنها من قضايا كدور المثقف في مجتمعاتنا، وعلاقة المفكر بالمثقف، ودور الأيديولوجية ووضعية الفلسفة في العالم العربي.
مسألة الإسلام السياسي

يلاحظ المفكر السوري برهان غليون أن ما يحدث في مجتمعاتنا من عودة إلى الدِّين هو نتيجة السياسات الثقافية والقواعد التي اعتمدت، في عالمنا العربي، في التعامل مع الفرد على مستوى الأسرة والعشيرة والدولة والمجتمع. فعوضًا من أن يكون الدِّين أحد الموارد المثرية للشخصية العربية فإن عقلية المحافظة والخوف قد حولته من الحرية إلى سياج يمنع الفرد من تمثُّل القيم الجديدة، والتطلع إلى الآفاق المبتكرة. وما تكرار عمليات الاعتداء، المادي والرمزي، التي تتم باسم الدين في مجتمعاتنا إلا انعكاس لرُوح الانتقام التي تعبِّر عن التخبُّط واليأس الذي يطبع حياة الأفراد، والشباب منهم على الخصوص، أكثر مما تعكس رؤية لأيّ مشروع طويل المدى. لا عجب إذاً أن يتم ما نشاهده من أشكال العنف باسم الدين، فنحن هنا إزاء«ردود أفعال مخفقة لأُناس مخفقين يغطّون على إخفاقهم باستعراض أقصى ما يمكن من العنف والقوة والعدوان على الأبرياء».

برهان غليون

فبدلًا من أن يتخذ الفرد في العالم العربي طريق المعارضة والاحتجاج على أوضاعه المجحفة، واقتراح بدائل سياسية، أو إصلاحات، والعمل على تطبيقها؛ فإنه يميل إلى جميع أشكال الفوضى وقلب النظام، وتقويض أسسه المعنوية، أي تجريده من الشرعية، لا لإقامة نظام جديد مكانه، وإنما لخرق كل نظام. فـ«ليس لصعود المدّ الإسلاميّ منذ أربعة عقود سوى مُحرِّك واحد هو نزع الشرعية عن النُّظُم السياسية القائمة على أمل إقامة نُظُم أخرى مكانها أكثر تطابقًا مع ما يُعتقد أنه أقرب إلى العدالة مثلما تعرفها بعض الأوساط المشايخية”». وهكذا فلم يَعُدِ الدِّين يجمع أحدًا، حتى داخِل المذهب الواحد. وسرعان ما نجد أنفسنا أمام صراعات داخل صفوف الحركات الإسلامية السياسية ذاتها.

في هذا الاتجاه، يرى حسن حنفي أن عيبنا، نحن العرب، هو أننا نريد الانتقال من الدين إلى الثورة من دون تحويل الدين إلى فكر، ثم ننقل الفكر إلى الواقع. «وهذا ما حدث مع الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده، ومع دعاة التيار العلمي مثل فرح أنطون وشبلي شميل وإسماعيل مظهر الذي قضى حياته يدافع عن دارون». نحن نريد أن نقفز على المراحل، لكن هذا يمثل السبب الرئيس في أننا كلما ننهض نقع ثم نقوم فنقع، سواء أكان من يقوم بذلك الشعب أم النخبة العسكرية.

على هذا النحو يرى فهمي جدعان أن الإسلام السياسيّ «هو محض أيديولوجيا تمتح من الميكافيليّة والخداع ونشدان المنفعة الخالصة والسيطرة»، وهو يرى أن العقدة الأساسيّة، العقدة البنيويّة في مشكل الحركات الإسلاميّة السياسيّة تكمن في المنهج الذي يحكم فهم أصحابها للمعطيات الدينيّة أو للمعطيات التاريخيّة ذات العلاقة بأصول دينيّة. يقوم هذا المنهج عند هذه الحركات، في نظره، على كونها ذات نزعة «ذريّة»، بمعنى أنها «تجتزئ بالنّصوص المفردة وبالوقائع الجزئية، وتقوم بعملية تجريد وتعميم يخترقان ويتجاوزان المكان والزمان والتاريخ، ولا تلتفت إلى الوجوه العلائقيّة التي تربط بين الجزئي وبين الكلي، أو بين «الذريّ» وبين « الشموليّ». فنحن لسنا بإزاء «نزعة» بقدر ما نحن بإزاء وقائع تفرض «العنف»، لكنه العنف المتبادل الذي يفرضه الصراع.

يرجع علي حرب هذا الصراع إلى المنظومات العقائدية والأنساق الفقهية التي تضيِّق ما اتسع وتقطع ما اتصل. «فهي التي أسّست للانشقاق والعداوة، سواء داخل الإسلام أم بين المسلمين وسواهم، بقدر ما اشتغل أئمّتها بلغة التكفير والردّة، أو بعقلية الكره والحقد، أو بمنطق الإقصاء والنفي المتبادل. والحصيلة هي كل هذه البحار من الدماء، وكل هذا الخراب المادي والمعنوي، كما تصنعه الحروب الأهلية الطاحنة أو الأعمال الإرهابية الوحشية على يد الجهاديين من أهل الخلافة أو المجاهدين من أتباع الولاية».

إلى هذا الموقف نفسه تذهب الباحثة التونسية ناجية الوريمي التي ترى «أن الأزمة التي نعيشها اليوم، ليست متأتية من الدين، بل هي في جانب منها راجعة لتمثّله تمثّلًا محدودًا ومنغلقًا: لا تزال تيّارات عديدة تقحمه في الصراعات السياسيّة، وبه يبرّر المتشدّدون رفض التجديد والإبداع وباسمه يصادرون الحريّات، وتحت مسمّاه يرفضون التعدّد والاختلاف، وبتعلّة الدفاع عنه يدّعي المتطرّفون أنّ العنف الذي يمارسونه عنف شرعيّ».

أما المفكر علي فخرو فيبحث عن أسباب العنف الذي تنساق إليه بعض الحركات الدينية المتطرفة في الظروف الاجتماعية والنظم السياسية التي تعيش المجتمعات العربية في كنفها. فتراجع الأفكار القومية والأفكار الليبرالية خلّف نوعا من الفراغ في الحياة السياسية العربية، هذا الفراغ ملأه الإسلام السياسي. ذلك : «أن بناء الدولة العربية على أسس حديثة لم يتم حتى الآن؛ ما دفع بالإنسان العربي إلى التوجه إلى القبيلة أو المذهب»، ومن ثمة إلى العنف.

بعض المفكرين ممن تم الحوار معهم يبحثون عن أسباب التطرف والعنف خارج المجتمعات العربية، وبعيدًا عن الدين وتأويله، بل حتى عن السياسة ونظمها. فخليل أحمد خليل يؤكد أنه فضلًا عن العنف الكامن داخل المنظومة الدينية نفسها، «فإن صراع الغرب الأميركي مع الشيوعية بعد إسقاط الاتحاد السوفييتي ولد عند الغرب خوفًا من نهوض العالم الإسلامي كقوة إمبراطورية؛ «لأن الإسلام هو إمبراطوري بطبعه فأدخلوا وحوش التطرف إليه».

أما الطيب تيزيني فيذهب بعيدًا في هذا المضمار ويرى «أن داعشًا ظاهرة عالمية بقدر الإفقار والإذلال واللاكرامة التي يعيشونها في بلدانهم، هؤلاء قتلة لكنهم أيضًا ضحايا، قد يكون بعضهم الآخر مجرمين، فهم لا يملكون شيئًا، القاتل الذي أنتج داعشًا هو الغرب، وتبعه الشرق الأعلى. داعش نتيجة الغرب الاستعماري المتجبر والشرق الذي أصبح مقلدًا للغرب يحاول أن يفعل ما يفعله. لقد نشأ داعش عالميًّا لكن في النية الخفية غير المرئية، لذلك التخلص من داعش يعني أن تبني عالـمًا جديدًا».

في انتظار بناء هذا العالم الجديد يقترح بعض مفكرينا الاهتمام أولًا وقبل كل شيء، بالمحيط الداخلي والوسط الاجتماعي والظروف السياسية التي يعيش في كنفها الفرد العربي. وهكذا فعالم الاقتصاد جلال أمين لا يرى في الإصلاح الديني حلًّا لظواهر التطرف وأشكال العنف المتولدة عنه، إذ لا مفر من تحويل الظروف المحيطة به. يقول:«إن المتكلمين حول تجديد الفكر الديني لديهم تعالٍ وغرور أكثر مما يلزم. فلا أحد يجدد في الخطاب الديني أو غير الديني، لا أحد. أنت إذا كنت لا تحبذ طبيعة الفكر السائد انظر إلى الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي أنتجت هذا الفكر وغيرت فيه أو حاولت تغييره». في النطاق نفسه يرى علي فخرو أن التحديث السياسي هو الكفيل بأن يجعل المواطن يطمئن إلى المؤسسات التي تحميه. يقول: «الذين يسكنون في دولة ما إذا هم شعروا بأن الدولة تحميهم من خلال القوانين والدساتير والتوزيع العادل للثروة والمساواة وتكافؤ الفرص، لن يحتاجوا إلى ارتباطاتهم الفرعية لتحميهم؛ لأن الدولة تحميهم. عندما يشعر الفرد بأن الدولة لا تحميه وأن ليس هناك مواطنة متساوية، ولا تكافؤ فرص، فإلى أين يتوجه؟ هو وحده لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، يلجأ إلى انتماءاته الفرعية: الانتماء القبلي، والمذهبي، والديني».

المفكر عبدالمجيد الشرفي يفسر التشبث بالتأويلات التقليدية برده إلى نظرية المصالح، فهو يرى «أن التشبث بالتأويل التقليدي للنصوص القرآنية إنما يعكس مصالح فئات اجتماعية محافظة». لذا فهو يقوم ضد كل التأويلات التقليدية ويفتح باب الاجتهاد على مصراعيه: «ليست هناك نصوص غير قابلة للتأويل، هناك مقولات نسمعها بكثرة ونقرؤها في الأدبيات الإسلامية مثل المعلوم من الدين بالضرورة. وليس هناك شيء معلوم من الدين بالضرورة وإنما هناك ما هو معلوم من الدين بحكم الثقافة والتكوين والقيم إلخ. وليس هناك شيء ثابت في الدين باستثناء نواة صلبة وهي التوحيد والإيمان بنبوة محمد ما عدا ذلك فإنه نسبي وليس ثابتًا».

إلا أن بعض مفكرينا يذهب إلى نوع من اليأس من كل إصلاح سواء أكان تغييرًا لواقع معيش، أو إعادة نظر في تأويل النص الديني، مثل فهمي جدعان الذي يؤكد أن المشكل في الإسلام السنيّ على وجه الخصوص هو أنّ «النواة القاعديّة» العقدية فيه لم تستجب لجهود الإصلاح التي بدأت منذ محمد عبده، وأنّ «الرؤية الاتباعية» صلبة لا تتقبّل «الاجتهادات» الجديدة، ولا تطيق مقاربة «الرؤية الإسلاميّة» التقليدية مقاربة إبداعيّة.
تحديث المجتمعات العربية

علي فخرو

كتب علي فخرو: «حين تتحدث مع من يدعون إلى الحداثة ويريدونها، تجد أنّ الحداثة بالنسبة لهم هي الحداثة الغربية، في حين أنها حداثة للغرب، أنت يجب أن تبني حداثتك، انظر مثلًا إلى الصين أو اليابان فهم يبنون حداثتهم، لديهم أشياء مختلفة عن الغرب، هذا لا ينطبق علينا مع الأسف الشديد، فقد ابتلينا بشيئين، بالسّلفي الذي يعتقد أن الحداثة هي ما فعله الآباء والأجداد، السلف الصالح، وبأولئك الذين يريدون أن يغربونا بالقضاء على ذاتنا، على إبداعنا، يدفعون بنا لبناء ما لا يصلح لنا، المطلوب هو حداثة عربية، تأخذ من الثقافة الإسلامية، فالإسلام هو جزء لا يتجزأ من ثقافتنا ولا يمكن القفز فوقه لأن الملايين من العرب يؤمنون بذلك».

هذا التحديث من الداخل الذي ينفي كل إسقاط لحداثة مستوردة تراه الباحثة التونسية ناجية الوريمي في تخلص الفكر العربي من القيود التي تكبّله، ومن دائرة الممنوع التفكير فيه، فإذا ما قام الفكر العربي بذلك، فإنه سينفتح على الحداثة ويستوعب مبادئ التنوير، فيصبح قادرًا على الإضافة إليها وإثرائها. لا يعني ذلك بالضرورة انفصالًا عن التراث والقطع مع الماضي، وإنما تشريح هذا الماضي ذاته حتّى يفصل فيه بين الإنسانيّ الدائم والقابل للتطوير، والظرفيّ العابر الذي ينتصب حجر عثرة في طريق التقدّم. فلا حداثة تجبّ التراث، ولا تجديد على أرضيّة منفصلة.

هذا ما يسميه المؤرخ التونسي هشام جعيط الرسوخ في التاريخ. يقول: «اعتبرت باكرًا أن الإيمان بالهوية ورسوخها في التاريخ العميق لا يمكن أن يحصل بدون أن ندخل بجدية فيما أسميته بالتحديث والسيرورة العربية نحو المستقبل. فأنا أومن بأهمية تحقيق التوازن بين الهوية الجماعية والدخول في التاريخ المعاصر». لا انخراط في الحداثة إذاً من غير احتفاظ بالخصوصية: «الحداثة عندي مرتبطة بالهوية، والهوية ما زالت تقوم بدورها الإستراتيجي في مقاومة الهيمنة الإمبريالية التي أخذت شكل الهيمنة الاقتصادية، وما دعوتي للغرب بالكف عن التدخل في شؤون العرب والمسلمين إلا انطلاق من اعتقادي في ضرورة التمسك بخصوصياتنا، وبالعناصر الأساسية التي انبنت عليها هويتنا وحضارتنا». لكن الهوية لا ينبغي أن تبقى دائمًا نبشًا في التاريخ ولا انغماسًا في التراث وتمترسًا وراء الدين واللغة. إنها لا تقوم كذلك على الذاكرة فحسب، بل تعني بناء الذات والمستقبل، واحتكاك الهويات الفردية، وانفتاحها على الأخلاقيات التي تقرّب بين البشر وتبني القيم، التي تفتح آفاقًا أمام الإنسان، وتعطي لحياته معنى، وتجعل منها قيمة عالية.

هذا التعلق بالهوية والخصوصية طرح على مفكرينا قضية الموقف من الدين، خصوصا وأن البعض رفعه ورقة ضد كل تحديث مدعيا أن لا مكان للعلمانية في حياتنا الاجتماعية. هذا ما يوضحه المفكر المغربي محمد سبيلا الذي يرى أن من الأشياء التي استثمرت في دينامية مقاومة أشكال التحديث والتطور هو إعطاء تصور سلبي للعلمانية، والذهاب إلى أن العلمانية ضد الدين، وأنها إلحاد وكفر الأمر الذي ولّد ما يسميه فهمي جدعان «رهاب العلمانية»!

لذا يستخلص سبيلا:«قيل وكتب الكثير حول العلمانية في هذا الإطار، وهذا له ارتباط بالمقاومة وتشويه المفاهيم لجعلها غير مستساغة لدى الجمهور». يميز سبيلا ين نوعين من العلمانية: فهناك العلمانية الراديكالية التي ظهرت بعد الثورة الفرنسية في مرحلة معينة، التي تقول: إن الدين تأخر وإن الدين ينتمي إلى مراحل تجاوزها التطور، وهي مرحلة غيبية ميتافيزيقية، ويجب إبعاده عن السلطة ويجب حماية المجتمع من هذا التصور، فهذا هو الحد الأقصى للعلمانية الراديكالية، ولكن هناك العلمانية العادية التي تقول: إنه يتعين الفصل بين الدين والسلطة، وليس إبعاد الدين كثقافة من ثقافات المجتمع، ولكن هي فقط تتحدث عن الجانب السياسي، بحيث إن استعمال الدين في الصراع السياسي هو مسألة فيها الكثير من الإجحاف، فيتعين أن يتطور المجتمع تلقائيًّا عبر صراعات اقتصادية وأيديولوجية في غياب استغلال الدين في السياسة. «الخلاصة في قضية العلمانية أن مضمونها في التجربة الأوربية سواء الثورية أو العادية، تبين أن تطوير المجتمع تطويرًا إيجابيًّا يتطلب الفصل بين الدين والسياسة بمعنى تدبير الشؤون العامة وشؤون الحكم وأن السلطة يجب أن تكون محايدة، فهذه هي الخلاصة التاريخية للشعوب بخصوص التجربة الأوربية الكونية.»

يتبنى فهمي جدعان التمييز ذاته، فهناك المفهوم الفرنسي للعلمانيّة، أعني «علمانيّة الفصل» المناهضة لكل دعوى أو رؤية دينيّة، إلا أن هناك مفهوما آخر وهي «علمانية الحياد». يقول: «فيما يتعلق بنا نحن، وبدين الإسلام، اليوم، نلاحظ أنّ الدين، يُوجَّه إلى صيغة أيديولوجية سياسيّة راديكاليّة، تضاد التصوّر الذي أتمثّله أنا شخصيًّا لهذا الدين بما هو منظومة اعتقاديّة، أي إيمانيّة، ذات ماهيّة إنسانيّة، وأخلاقيّة، وحضاريّة، وجماليّة، تتوافق مع «علمانيّة الحياد» لا مع «علمانيّة الفصل». أي مع «دولة مدنيّة» تصون الدين من التعدّيات والإساءات، وتحفظ لأهله الحريّة والكرامة والعدل التي هي قيم مشتركة بين الدين وبين الدولة الإنسانيّة العادلة. إنّ الغائيّة الأساسيّة لهذا الدين تكمن في مبدأ (العدالة)، وإنه «حيثما ظهرت أمارات العدل فثمّ شرعُ الله»، وأضيف أنّ القيم العليا الإنسانية كامنة في «الأصول البذريّة» والنصوص «المُحكَمة» لهذه القيم في (النصّ الدينيّ) الذي هو عندي ذو ماهيّة إنسانيّة أخلاقيّة أولًا وآخرًا، وأنّ فهم جميع النّصوص ينبغي أن يوجّه هذه الوجهة استنادًا إلى مبدأَيِ المُحكم والمؤوّل».

لا يرى هشام جعيط جدوى في هذا النقاش القائم حول مفهوم العلمانية على اعتبار أنها وضع قائم، يقول: «فيما يخصنا كعرب ومسلمين، فإننا قبل أن ندخل في الحداثة (دخلنا في الحداثة في الخمسينيات من القرن الماضي) كنا مستعمرين، وكان الدين يسيطر على البلدان الإسلامية كلها تقريبًا، وفي جميع أشكال حياتها. ثم ماذا نعني بإلغاء الدين؟ هل هو فصل الدين عن السياسة أم فصله عن الاقتصاد؟ والإجابة على ذلك أن هذا الفصل هو اليوم أمر واقع تقريبًا حتى في بلداننا. ومثلما أرى أنه لا داعي لفكرة بعث ميثاق لحقوق الإنسان المسلم، وكانت قد بادرت بها بعض الدول الإسلامية؛ لأني أعتقد أن المسلم ليس كائنًا مختلفًا، وأن مواثيق الأمم المتحدة عامة تسري على الناس جميعهم، فإني لا أرى كذلك ضرورة أو أهمية لظهور مثل هذا التيار الداعي لإلغاء عنصر الدين؛ لأن الدين موجود ومتغلغل داخل غالبية الفئات الاجتماعية، أما الفصل بين الدين والسياسة، وبين الدين والاقتصاد فهو كما سبق وذكرت قد أصبح أمرًا واقعًا.»
مسألة النخب الثقافية

حسن حنفي

بينما يرى حسن حنفي أننا في العالم العربي «لم نجرب حتى الآن النخبة الثقافية، كما حدث في الثورة الفرنسية». فإن المفكر التونسي الطاهر لبيب يرى أن مفهوم النخبة انبنى في مراحل سابقة كمراحل التحرير الوطني وبناء الدولة الوطنية أو في مراحل نضالية كتلك التي عرفتها الستينيات وبعض السبعينيات في أغلب البلدان العربيّة. في تلك المراحل أسند المثقف إلى نفسه أو أُسندت إليه أدوار كانت مرتبطة بأحلام جماعية وبمشاريع وبدائل مجتمعية لم تعد قائمة اليوم. لذا يستخلص المفكر التونسي أن هذه الأدوار التي كان المثقف في العالم العربي قد أنيط بها، والتي على أساسها كان المثقف عنصرا أساسيا في تزكية النخبة، قد انتهت. لذا فإن مفهوم النخبة نفسه أصبح غير ذي معنى، بل استُغنِي عنه.

يتفق برهان غليون مع المفكر التونسي في هذه النقطة، فهو يعتبر مثله أن النخب الثقافية قد لعبت دورا إيجابيا في بداية التحرر من الاستعمار، وأنها استطاعت بالفعل أن تربح النزاع مع سلطات الوصاية الأجنبية، وتبني دولًا وطنية خاصة بها. وكانت هذه اللحظة من اللحظات التاريخية المهمة والمضيئة والحاسمة في تاريخ العرب الحديث. لكنه يعقب: « ما إن استتب الأمر لهذه النُّخَب حتى بدأت مسارًا معاكسًا، وهو إعادة الشعوب إلى الحظيرة، وإجبارها على التخلِّي عن مكتسباتها. منذ الاستقلال كان هَمُّ النُّظُم الحاكمة هو تجريد شعوبها من آمالها وتطلعاتها في المشاركة والتحوُّل إلى رجال أحرار قادرين على المساهمة في تقرير مصير مجتمعاتهم. باستثناء مرحلة سيطرت عليها الشعبوية؛ أي: مخاطبة الشعب المهمَّش مع الإبقاء على تهميشه، وهي ما نُسمِّيه المرحلة القومية؛ إذ اصطبغ تاريخ هذه الشعوب بالديكتاتورية الدموية وحكم القهر والعنف.»

يؤكد هشام جعيط هذا التراجع لدور المثقف العربي. ذلك أن أطرافا تتمتع بقدرة كبيرة على التأثير في الجموع على غرار القيادات السياسية والحزبية قد حلت محله. هذا ما يذهب إليه الطاهر لبيب أيضا. فهو يرجع تدهور دور النخب إلى التحولات الكبرى التي عرفها عالم اليوم: «فالعلاقة التي تعوّدنا على رصدها وتحليلها بين الثقافة والواقع قد تفكّكت أو تميّعت، خصوصًا مع انتشار ثقافة معولمة من الصعب ربطها بمكوّنات البنية الاجتماعية المحليّة. إن الكثير مما كان يعدّ ثقافة النخبة أصبح من قبل بادئ الرأي الذي تتناقله وسائل الاتصال الحديثة. لهذا يستخلص المفكر التونسي قائلا: «إذا أردنا المحافظة على حد أدنى من التصنيف فليكن بين المثقف والمفكر. كل الناس مثقفون بطريقة أو بأخرى، ولكن ليسوا كلهم مفكرين».

يعتمد فهمي جدعان هذه المقابلة بين المفكر والمثقف الداعية: وهو يعتقد أنّ المثقف يحتاج، كي يفهم الواقع ويحلّله ويوجهه، إلى المفكر وأدواته العلميّة والفلسفيّة المنضبطة والضابطة؛ لأنّ التعويل يكون على «قول» المفكر، لا على «رغبة» المثقف.يقول: «المثقف يحتاج حاجة ماسّة إلى المفكر وأدواته العلميّة والفلسفيّة المنضبطة والضابطة. وفي أمر فهم الواقع وتحليله وتوجيهه ينبغي، في رأيي، التعويل على «قول» المفكر، لا على «رغبة» المثقف. و«القول» يُحيل إلى العقل والعلم، و«الرغبة» تُحيل إلى الظنّ والشهوة».

* * *

تلك أبرز النقاط التي دارت حولها هذه الحوارات. لا يمكننا أن نختم هذا التقديم الموجز من غير أن نشير إلى الموضوعات التي غابت عنها. ولعل ما يلفت الانتباه عند الاطلاع عليها، هو عدم إشارة أي واحد من مفكرينا إلى الدور الذي يمكن للفن أن يلعبه في نهضة المجتمعات العربية. صحيح أن بعض المتحاورين أشاروا إلى اهتماماتهم الأدبية والروائية على الخصوص، إلا أن الظاهر هو أنهم لا يعولون كثيرا على الفن بجميع أشكاله سبيلا إلى نهضة الشعوب، وتفتح قدرات الأفراد، وتربية أحاسيسهم والارتقاء بأذواقهم وانفتاحهم على القيم السامية.
أعلى