حاميد اليوسفي - فاتك القطار يا حمدان؟!

وقف الشيخ حمدان وسط الحلقة بعد أن التفّ حوله جمهور قليل من المسنين. قبل ظهور الهواتف النقالة كان يُحس نفسه يجول ويصول كعراف يُحلق بأجنحة بيضاء بين العوالم من غير حدود. يطير من الحاضر إلى الماضي أو المستقبل من غير أن يشعر به من يستمتع بحكاياته. اليوم لم يعد أحد يهتم بما يغزله من قصص، تُوقف الشعر في الرأس عندما يُضيف إليها بعض التوابل من خياله.
جال ببصره قليلا، وتوكل على الله، وطلب ممن يحيطون به الصلاة على النبي.
ردوا بصوت واهن. وضع يده على أذنه اليسرى، وعمل كأنه لم يسمع شيئا، لشد أنظارهم والسيطرة على انتباههم قبل بداية الحكاية. فأعادوا على أسماعه الصلاة على النبي بصوت مرتفع:
ـ اللهم صل على سيدنا وحبيبنا محمد.
استوى وسط الحلقة. رأى بأن الجو أصبح مناسبا، فاستهل الحكاية:
باسم الله (بديت)*، وعلى النبي صليت.. كان يا ما كان، في سالف العصور والأزمان، فتاة آية في الذكاء والجمال، تضعها على الجرح يبرأ. تسكن كوخا مع والدها الشيخ بقرية بين أشجار باسقة في جزيرة لا يصلها إنس ولا جان. أخذت جرّة من طين، وذهبت إلى الجُبّ لتسقي الماء. وجدت شابا، غافيا بجانب البئر. سبحان الخالق الناطق، كأنه البدر هبط من السماء في واضحة النهار. لم تشأ أن تُفسد عليه غفوته. دندنت بصوت خافت، وهي تنظر منبهرة إلى ضياء وجهه، وكمال بناء جسمه..
التقطت أذن الشاب الصوت العذب، كأنه ترنيمة سحرية تنبعث من بخور معابد بابل القديمة. فتح بصره على امرأة في كامل أنوثتها. لا ينقصها قِصرٌ ولا طول. جسد كعود البان، ومحيا يضيء الظلال مثل شمس الربيع. نهداها عاريان مثل رمانتين تشققتا من شجرة تخلب الأبصار. أما عورتها فتسترها بقماش من حرير. كلما نظر اليها فرك عينيه، وسأل هل هو في حلم أم في يقظة؟
نهض مرتبكا، وقدم نفسه، وهو ينفض الغبار عن أطراف أكمامه، وينظر إليها ويسأل:
ـ أنا قمر الزمان. فما اسمك يا امرأة؟
ضحكت المرأة، وأخفت وجهها بباطن كفّها، وقالت باستحياء:
ـ اسمي؟!.. ضوء الصباح!. وأنت كيف وصلت إلى هذا المكان؟
رد الشاب بعد أن سرقه سحر قِوام الغزال الواقف أمامه:
ـ قدمت من بلد بعيد. مزّقت العواصف شراع مركبي، فرمتني الأمواج وراء تلك الأشجار.
طلبت منه أن يسقي دلو ماء، ثم أمرته أن يفرغه على رأسها. استغرب الأمر. فقالت:
ـ هذا مكان من يدخله مفقود، ومن يخرج منه مولود! نحن قوم لا نزور ولا نُزار. لا نستقبل الغرباء إلا إذا قاموا بعمل خارق، وإلا كان مصيرهم الموت!
لما أفرغ الماء على رأسها، صرخت بأعلى صوتها، فانزعج الشاب، واصفرّ وجهه من الذعر، وصاح فيها:
ـ يا امرأة اتّقي الله! لم أعتدِ عليك، ولم أمسّك بسوء. فعلتُ ما طلبت، فلماذا تستعدي عليّ قومك؟
لم تُجبه. فكّر في الهرب.. ارتبك.. كان الوقت قد فات.
سكت الحكواتي لحظة، وتأمل الوجوه التي بقيت مشدودة إليه، تنتظر بحماس ما سيأتي. عمل كأنه نسي أين وصل بالحكاية، فذكروه بآخر حلقة في سلسلة الحكي توقف عندها. طلب منهم أن ينصتوا إليه جيدا، فالقادم أجمل وأخطر، ثم أضاف:
ـ لم يعرف من أين خرج حشد كبير من الجند تجمع حولهما؟! رجال أشدّاء بصدور عارية، يصبغون وجوههم بخطوط بيضاء، تلمع وسط بشرة سمراء. ويسترون عوراتهم بقطع قماش من حرير بألوان رمادية. يحملون الرماح والأقواس والنبال، والبعض منهم يتزنّر بخنجر يلمع في حزامه.
رسموا دائرة كبيرة حول الشاب الغريب، ورفعوا الرماح، وصوّبوا السهام. بدأوا يتراقصون، ويقتربون منه شيئا فشيئا كما يفعل الهنود الحمر. يصيحون بأصوات لم يفهم منها سوى أنه لم يبق بينه وبين الموت سوى رمشة عين.
وقبل أن ينقضّوا على الشاب الغريب الذي وقف مشدوها، لا يعرف ما يفعل، هزّت ضوء الصباح يديها إلى أعلى طالبة منهم التوقف؟!
فصاح أحدهم:
ـ ما بك يا ضوء الصباح؟!
قالت:
ـ يا أهلي.. حاولت رمي الدلو في البئر، فخانتني رجلاي، وسقطتُ في الماء. ناديتُ بأعلى صوتي، لم يسمعني أحد، حتى هبط هذا الشاب من السماء فأنقذني. ولولاه لكنت الآن في العالم السفلي المظلم مع الآباء والأجداد.
نظروا إلى شعرها المبتل، والثوب الذي تستر به عورتها. رفعوا بصرهم إلى أعلى، معتقدين أن الشاب أحد أبناء قوى خفية جبارة تسكن بين النجوم.. بدأوا يتراجعون إلى الخلف.. انحنوا مذعورين.. جثوا على رُكبهم، ولمسوا الأرض بجباههم. بعد ذلك ساروا خلف قمر الزمان وضوء الصباح إلى القرية. أثنى أهل القرية على الضيف، فاستقبلوه استقبال الأبطال، واستضافوه سبعة أيام وسبع ليال، أباحوا له أن يفعل فيها ما يشاء.
رأى في القرية، ما لم يره أحد في حياته. وضوء الصباح تقوده كل يوم من خيمة إلى خيمة. كلما مر بالقرب من جماعة ، انحنوا له بتقدير وإجلال. وفي المساء يعودان إلى الكوخ. وبعد العشاء ينامان فوق سرير مفروش بفرو النمور كأنهما عريسان في ليلة الدخلة.
في اليوم السابع، عندما أخبر قمر الزمان الفتاة، بأنه اشتاق إلى أهله، وعازم على الرحيل في الغد، وقع ما لم يكن في الحسبان!؟
فجأة دوّى صراخ امرأة من خارج الحكاية مثل الرعد، فسكت الراوي عن الكلام المباح. والتفت الجميع إلى الجهة التي قدم منها الصوت. تفرق الجمع.. المرأة التي تصرخ، سيدة بدينة من لحم ودم، تلبس جلبابا ضيقا، وتستعمل الهاتف. يبدو أنها تحاول الاتصال بالشرطة، أو بشخص قريب.
سألها رجل من الجمع :
ـ ما بك يا امرأة؟
ردت بصوت موجع:
ـ وقف علي لصان، وأشهرا في وجهي سيفا، ونزعا مني الحقيبة والدراجة النارية، وهدداني بالقتل إن صرخت، ثم طارا كأن الأرض بلعتهما.
أجهشت المرأة بالبكاء، وأضافت:
ـ الدراجة جديدة، اقتنيتها بالسلف منذ شهر فقط..
وضعت يدها على رأسها، وظلت تُمسك الهاتف باليد الثانية، وتُقرّبه من أذنها، وتندب:
ـ ويك ويك*.. يا عبدا الله.. كل شهر سأدفع القسيمة على دراجة سُرقت مني غصبا في الشارع العام.. أربعة وعشرون شهرا، لا يجمعها غير الفم. كل المصائب نزلت على رأسك دفعة واحدة.. حرقوك يا حليمة!.
لم تكد تنهي كلامها، حتى ظهرت عشرات القنوات، قبل أن تصل الشرطة، كأن الأرض انشقت، وخرجوا من تحتها. نساء ورجال يشبهون أهل الصحافة، وما هم بصحافة. يلتقطون الفيديوهات، وينقلون الحادث لجمهورهم مباشرة، ويجعلون من الحبة قبة.
الآن بدأ الحكواتي يفهم لماذا اقترح عليه الشاب هادي العاطل عن العمل، أن يُنشئا مقاولة صغيرة:
ـ نعمل حلقة عن بعد. أنا أشتري هاتف سمارت، وأنشئ قناة، وانت تحكي. نحفز الجمهور، ونعمل فيديو قصيرا وننشره. كل يوم نُهيئ ثلاثة أو أربعة أشرطة. ونقتسم المداخيل.
بعد انفراط عقد الحلقة، وضياع رزق اليوم، بقي ينظر إلى الميكروفونات فاغرا فاه، والناس تُدلي بشهادات عن حادث لم تر منه غير صراخ المرأة وبكائها.. ردد مع نفسه:
ـ أين كنت يا حمدان؟! العالم تغير من حولك!.. عالمك القديم انهار، وأنت غافل!؟ ؟!
انصرف وهو يردد، بصوت مرتفع ، ويعيد مثل الأحمق: فاتك القطار يا حمدان؟! فاتك القطار يا حمدان؟! والناس تلتفت، وتدعو له بالعفو والستر.


المعجم :
ـ بديت: كلمة من اللهجة المحلية تعني: ابتدأت.


مراكش 16 غشت 2023

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى