فالح عبد الجبار - علي الوردي وعلم الاجتماع.. تأملات في رحلة معرفية

للكتابة عن علي الوردي مذاق خاص، فهي كتابة عن المجتمع وعن الشخص في آن . ولد الوردي عشية تأسيس الدولة الحديثة، ورحل عشية أفول الجمهورية الرابعة. وتاريخه الشخصي هو، بمعنى من المعاني، تاريخ العراق الحديث. اما استجاباته الفكرية فهي جزء جوهري من تحولات هذه الحقبة.
والبحث في كتابات الوردي (من وعاظ السلاطين – 1954 – الى لمحات اجتماعية – الجزء السادس 1976) يشكل رحلة فكرية متشعبة. فهذا البحث هو تأمل في علم الاجتماع (او بعض اوجهه)، وهو ايضا تأمل في تاملات الوردي في هذا العلم، تواشجا او تنافرا. وأجد في سيرة الوردي الفكرية منابع شتى حافزة على التفكر، اجتزيء منها، لاغراض تركيز البحث ليس الا، العلاقة بين عالم الاجتماع (السوسيولوجي) وعلم الاجتماع (السوسيولوجيا)، وبتحديد ادق نظريات ومناهج علم الاجتماع. اما نظرية الوردي، خلدونية الأرومة، فستندرج هنا كعنصر ثانوي رغم موقعها المركزي في افكاره ونتاجاته. وسبب هذا الاجراء انني كتبت عن ذلك مبحثا وجيزا مستقلا يقوم على التحليل المقارن بين الوردي وابن خلدون
المبحث الحالي اذن يتركز في الجانب النظري، وهو مسعى لتحليل المصادر النظرية لمنهجية الوردي، التي أراها خلائط من نقائض ذات ثراء خاص، تعتمد مزيجا نظريا انتقائيا هو الآخر.
وتحسبا لأي لبس او ابهام، اقول ان نقائض الفكرة، فهما وتطبيقا، هي دليل عافية فكرية بنظري، كما ان المزيج الانتقائي هو برهان حيوية خاصة، لانه ما من نظرية واحدة تلم بكل جوانب واقع مركب.
اما الباحث عن فكر بلا نقائض، ومناهج بلا تلاقح، فلن يجد مسرته إلا في مقابر التاريخ، حيث السكون المطبق.
ما هي النقائض في منهجية الوردي، وما هو الخلائط الانتقائية، التي يعتمدها؟ الأجابة عن هذين السؤالين تدوران في النقاط الآتية:
اولا – ان مجرد اشتغال الوردي بعلم الاجتماع يبدو، كنقطة انطلاق، في تضاد صارخ مع البيئة الاجتماعية التي ينشط فيها.
واذا صدقنا قولة اوغست كونت (1789 – 1857) من ان علم الاجتماع، هدا الفرع المعرفي الجديد، الذي اسهم هو في تأسيسه، لم يظهر الا بعد انتقال البشرية من المرحلة اللاهوتية، الى الميتافيزيقية، ليصل اخيرا الى المرحلة الوضعية (مرحلة الدراسة العلمية المجردة للوقائع المتاحة امام الحس)، اي فلسفى العصر الصناعي، عصر المدن الكبرى، والعلوم الحديثة، والدول المركزية قومية الطابع، فان ظهور علي الوردي نفسه كعالم اجتماع، في عراق اربعينات القرن المنصرم، في رقعة متأخرة تعيش في عالم ما قبل – وضعي، يشكل تناقضا في التعريف، او استثناء خارقا ان جاز القول.
ثانيا – اعتمادا على ما تقدم، ولد الوردي في عصر انتقالي، يتفكك فيه المجتمع الزراعي المتجزيء قبائل وطوائف، منتقلا الى مجتمع حديث يندمج في أمة ودولة، رغم ان هذه العملية تبدو، من منظار الجمهورية الخامسة، وكأنها تبدأ من جديد.
وولد الوردي ايضا في حقبة تفكك المراتب القديمة من حرف وصنايع، وسادة واشراف ومشايخ، وبروز الطبقات الحديثة.
هدا الوضع الانتقالي اورثه حساسية مرهفة لادراك ديناميكيات التغيير، رغم وجود ميل معاكس عنده (لا شعوري، او مجتمعي ان استعرنا لغته) الى القبول بالسكون او الثبات المجتمعي (القول بوجود "طبيعة" ثابتة للمجتمع العراقي، او "طبيعة" بشرية... الخ).
ثالثا – لما كان الوردي يشخص في المجتمع العراقي ثلاث مشكلات اساسية (صراع البداوة والحضارة،. التناشز الاجتماعي بين الاثنين، تفتت الوعي الجمعي وانغلاقه) فانه يعتمد في معالجته هذه الاوجه على ما يلي:
أ – نظرية ابن خلدون، مفسرة على اساس المنهج التجريبي – الوضعي (بيكون – كونت).
ب – المدرسة السوسيولودية الاميركية، (جورج هربرت ميد – 1863 – 1931) مؤسس مدرسة "التفاعل الرمزي" Symbolic Interactionفي الجماعات الصغيرة .
ج – المدرسة التاريخية الالمانية (كارل مانهايم وفرديناند كون).
هناك عناصر اخرى مستمدة من علم النفس الاجتماعي في جناحه الاميركي.

رابعا – رغم تكرار الوردي بأنه يعتمد ابن خلدون فان قراءته لهذا الاخير تعيد بناء النظرية
الخلدونية بل تقلبها رأسا على عقب. فصراع البداوة والحضارة الخلدوني يقوم بين نمطين متضادين (ومتفاعلين) من التنطيم الاجتماعي (المدن والبوادي)، اما عند الوردي فهو ازدواج قيمي داخل المدينة، اولا، وضمن الدولة الحديثة ثانيا. وهو، عند الوردي، نتاج صراع الحضارة العراقية مع محيطها البدوي (الجزيرة العربية)، اولا، ثم هو، صراع بين العراق والحضارة الغربية الوافدة ثانيا،
إثر غزو العراق في الحرب العالمية الاولى. لكن الاهم في عملية قلب ابن خلدون رأسا على عقب (وهو قلب ضروري) ان "منطق" ابن خلدون، كما يرى الوردي، ينفصل عن المنطق الاوسطي، الميتافيزيقي، اي القائل بوجود جواهر ثابتة، وكليات عقلية مسبقة. والوردي هنا يقرأ ابن خلدون او يعيد قراءته انطلاقا من المنهج التجريبي (فرانسيس بيكون) والمنهج الوضعي (اوغست كونت) الذي يشكل، من نواح معينة، امتدادا للتجريبية. هذا المزيج الانتقائي، فريد، املته ضروراته الموضوع المدروس.
خامسا – يرى الوردي في علم الاجتماع منهجا لدراسى "الثقافة الاجتماعية" Culture محللا اوجه الثقافة الروحية والمادية (القيم ونمط العيش)، معتمدا على مؤسس علم الاجتماع الاميركي (جورج ميد)، ومتجاوزا اياه في أن، بخروجه على حدود الثقافة الروحية (التفاعل الرمزي) الى رحاب الثقافة المادية ايضا. وهو في هذا يقترب من ماكس فيبر (1864 – 1920).
وان علاقته بعلم الاجتماع الاميركي الذي تأسس متأخرا عن نظيره الاوربي بنحو سبعة عقود، اورثته نزعة وصفية للاحداث والوقائع، تنسجم ونفور المدارس الاميركية في النصف الاول من القرن العشرين، من اية مراجع نظرية كبرى تحدد ماهية المجتمع وماهية علم الاجتماع (تغير هذا الحال في اميركا بعد هجرة الالمان هربا من النازية).
كما ان هذه العلاقة بعلم الاجتماع الاميركي افادته في ملاحظة الفوارق العميقة بين علم الاجتماع الاوربي الذي يضرب جذوره في منظومات فلسفية – لغوية معروفة (الوضعية، الماركسية، البنيوية)، وعلم الاجتماع الاميركي المتحرر نسبيا من هذه الجذور (حتى الفلسفة البراغماتية الاميركية تشبه علم اجتماعها).
سادسا – لكن هذه العلاقة الغنية والنقدية بعلم الاجتماع بجناحيه الاميركي – الاوربي دفعته الى الاعتقاد بوجود خصوصية لكل مجتمع تحتم انشاء علم اجتماع خاص بذلك المجتمع. هذا المنحى الى الخصوصية لم يكن فقط وليد "ضغط" منهجي بل ايضا ثمرة مؤثرات سياسية: صعود الناصرية بمنحاها العروبي، وصعود التيارات القومية العربية (البعث وغيره) الداعية الى انشاء علم اجتماع عربي، كان بحسب الوردي، وعظيا لا علميا.
لكن مبدأ الخصوصية الذي جاهر به الوردي (ولم يطبقه اصلا في كتاباته) وهم ايديولوجي. فلكل مجتمع خصوصيته، ولكل مجتمع عموميته. وما من مجتمع يشبه غيره بحذافيره، بل ما من مجتمع يشبه نفسه قبل قرن، او قرنين، إلا في حدود ضيقة، ثفالة قابلة للحذف.
حقا لقد انحبست نظريات علم الاجتماع في اطر قومية (فرنسا، المانيا، انجلترا، اميركا) خلال جل القرن العشرين، لكنها سرعان ما انفتحت على بعضها البعض في اواخر القرن المنصرم لتولد خلائط خصبة في سياق من التحليل والتركيب.
سابعا – استمد الوردي من المدرسة الالمانية (كارل مانهايم) مفاهيم اساسية لتفسير تنوع انماط المعرفة حبيسة التنظيمات الاجتماعية، مثلما استمد من مانهايم قواعد نظرية لدراسة الدولة الحديثة. الأهم في ذلك هو اعتماد مبدأ النسبية المعرفية الذي يشكل اليوم اساس فكر ما بعد الحداثة.
اما فرديناند تونيس فقد استمد الوردي منه (على نحو غير مباشر – اعتمادا على ماكايفر صاحب مفهوم التناشز الثقافي والتصادم الثقافي) افكار التمايز والتضاد بين المجتمع التقليدي والمجتمع الحديث (الصناعي). الاول، حسب تونيس، منظم في جماعات، والثاني منظم في مجتمع كبير. في الاول ثمة علائق حسية مباشرة، واحساس بالمكان (الجغرافي والاجتماعي)، والانتماء، واعتماد تقاليد ثابتة، تسيطر فيها العائلة والكنيسة (الدين). اما في الثاني فتسود العلائق اللاشخصية، والمصالح الاقتصادية، والتنافس على الموارد، في حراك متصل، متغير يربأ بالثبات. لكن الوردي حبس التضاد بين الحداثة والتقليد في قفص البداوة والحضارة الخلدونية، علما ان حضارة ابن خلدون شأن بداوته تنتمي الى العالم ما قبل الحديث.
ثامنا – اخيرا ابتدع الوردي في هذه الرحلة طريقا ثالثا للخروج من اسار الفكر القومي المتزمت، او قواعد الفكر اليساري في صيغته المتحجرة. ولم يكن من باب المصادفة ان يدعو الى مجتمع يعتمد الليبرالية السياسية.
كان يحرص على تفرده في مجتمع يبغض الفردية، وينفتح على كل النظريات في مجتمع يحول النظرية الى معتقد ديني، ويمضي في البحث وسط مؤسسات علمية خاضعة لجبروت الدولة، ومجردة من حرية التفكير والبحث الطليق.
هذا وحده اعجاز!





أعلى