سعد محمد رحيم - رياض البكري شاعراً

سمعت باسم رياض البكري للمرة الأولى من صديقي الكاتب كامل عبد الرحيم يوم نشر مقالتين عن الشاعر الراحل في موقع الحوار المتمدن عام 2010.. كانت المقالتان مكرستين للتعريف بشعر البكري وفيهما مقاطع مختارة من قصائد له. وعرفت أن مبدعها صاحب موهبة لافتة أُغتيلت قبل الأوان. وكان يمكن، لو وجدت في بيئة ملائمة، آمنة ومشجعة، أن تضيف شيئاً مهماً لإرثنا الأدبي العراقي. لكن ملابسات تاريخنا السياسي المخنوق بالقهر والظلم والاستبداد حالت دون ذلك. ويبدو أن هاجس النضال السياسي كان أكبر عند شاعرنا من هاجس الشعر، أو أن الهاجسين كانا ممتزجين بقوة في روح الشاعر وضميره، وأن عنفوان ممارسته السياسية أوقف في النهاية مغامرته الشعرية التي لابد من أنها كانت تبحث عن شروط حياة أخصب وألطف لتصل إلى مبتغاها.
وقبل أسابيع قليلة أهدى لي صديقي الأستاذ عقيل الخزاعي ( أبو ذر ) مشكوراً نسخة من كتاب ( ديوان الشاعر الشهيد رياض البكري/ تحقيق د. حسين الهنداوي ـ دار ئاراس ومؤسسة عراق للإبداع 2012 ) وقد كتب مقدمته الثانية، فيما كانت المقدمة الأولى بقلم شقيقة الشاعر نوال البكري، والثالثة بتوقيع كميل قيصر داغر. والمقدمتان الأولى والثانية تحكيان عن حياة الشاعر الشهيد وكفاحه السياسي ومعاناته بين السجون، ومن ثم إعدامه بعد اعتقاله في عام 1978. وكان عمره آنذاك ثمان وعشرين سنة. أما مقدمة داغر فقد تحدثت عن شعره أيضاً.
إنها، كما قلت، تجربة إبداعية غير مكتملة. وإن كانت تحمل بين أعطافها علامات نضج مبكر. ولا أظن أن في هذا الديوان قصائد الشاعر كلها. وأخشى أن منها ما ضاع، بسبب الحياة غير المستقرة للشاعر، وإلى الأبد. والقصائد في الغالب ذات نكهة سياسية لا تخطئ، مثقلة بالهمّ الوطني، ومنقوعة أحياناً بالإيديولوجيا، وفيها شيء من البلاغة المباشرة. حيث نتعرف على أساليب شعراء المقاومة الفلسطينية وغيرهم في خمسينيات وستينيات القرن الماضي وحتى سبعينياته، والتي تأثر بها الشاعر، لاسيما أنه كان مقاتلاً في صفوف المنظمات الثورية الفلسطينية لسنوات. نقرأ، في سبيل المثال؛
"إنها تلد الآن من الجوع/ فلسطين أخرى/ غير تلك التي لوثتها مؤسسة الضالعين" ص57.
"فانصتي يا سحب الشرق/ إن طائر السماء البلشفي عاد.. فافتحي الأبواب../ افتحي الأبواب" ص69.
"مسح بقايا الزهر الليلي عن شفتيه/ وسار.. سار وحيداً في صحراء الدهشة/ مرّ على أكواخ جميع الفقراء العزّل/ واندس بباص الثورة" ص80.
غير أن المقدرة الشعرية لرياض البكري تتجلى بأوضح ما يكون في قصائده المفعمة بالوازع الذاتي، حيث تتدفق جمله الشعرية بسلاسة كما الماء النازل على منحدر معشب يتلامع تحت الشمس. فيغيب الانفعال المبالغ فيه والافتعال وروح الرومانس ويلبث فقط عفوية الشعر. وهو شعر يحفر في أرض نثرية مخصبة.. نقرأ في قصيدة ( انتظريني يا ليلى ): "رغم أني أفتقدك/ ولكن يغمرني الفرح الدافئ../ فأنا منذ ليال لم أنم/ ولم أتعرف على صوتي المختلج/ ولم أجد لجرحي نافذة/ وغادرت ذلك المتراس القديم/ الذي هو عبارة عن حزمة من النجوم/ تتركها عيناك وتذهب/ وأعتقد أني قد تحولت إلى شاعر/ بريء ومدهش/ أضرب مجذافي الصغير في الماء../ فتنتشر القصائد/ وتبتهج الطيور الأليفة هناك../ أما أنت فلا شأن لك بي الآن.. / وأنا في مملكتي../ مثل الناي الصحراوي المنفرد../ أتنقل بين النخل والبنفسج../ وأفتش عن ضالتي../ فربما تكون ليلى.." ص77.
إن بساطة صوره الشعرية، وما يقتنصه من صور يومية معيشة، وحين يواري حماسه الثوري قليلاً، تجعل القارئ في ألفة بالغة معها. هنا حتى القضية والوطن والفكرة توشح أفق الشعر بشعاع معانيها، وببلاغة أكثر حميمية وسطوعاً وعمقاً.
"أعطني أذناً بالسفر/ وعدني أن تسير في جنازتي/ مثل الطاووس/ لم يعد لي حب/ ولا أهداب أتعلق بها/ وحتى القصائد قد التحقت/ هي الأخرى بالغبار/ ولم يعد بيننا ما يجمعنا أو يفرِّقنا/ غير سحابة سوداء/ ولم يتبق في الصحن غير الملاعق/ وعلى الجدران/ آثار الشعارات الحمراء/ والبصاق/ وفوق الرصيف/ أعني فوق ذلك الشارع الموحش/ بقيت بعض قصاصات الصحف القديمة/ وآثار الأحذية/ فلا تبتئس إذا قلت لك/ والدموع يابسة في حنجرتي/ الوداع/ سأسافر إلى جوف التاريخ/ على صهوة شرارة/ وسأفكر فيك/ قبل أن أنتهي في آخر لحظة" ص161،160.
في هذه المقاطع الأخيرة يبدو الشاعر وكأنه يمتلك حدساً صافياً بشكل مصيره البطولي، التراجيدي، الفاجع.
أعلى