سي حاميد اليوسفي - عندما يبكي الجبلُ أهلَه

تعب عبد الله العجوز من التنقل ببن المنازل التي دمرها الزلزال في القرية.. كل شيء تحول إلى دمار.. الجبل وأشجار الجوز وحدهما بقيا شامخين.
جلس فوق هضبة مرتفعة بجانب الطريق يتأمل الخراب الذي سوى بيته مع الأرض.. لم يستيقظ بعد من الصدمة.. أغلب من سلم من نسله، أنقذته فرق الإغاثة صباح اليوم الموالي. لقد فقد نصف أفراد أسرته وأنعامه.. أبناء وزوجاتهم وأحفاد، وبغل وحمار وقطيع صغير من الماعز.
الولف* صعب.. عادت صورة ابنه عبد السلام وهو طفل صغير يلعب أمام باب البيت الكبير، يدخل يأخذ قطعة خبز، ويُقطّر زيت الزيتون داخل لبابها.. وفاطمة تأخذ مُدّا صغيرا من فاكهة التين. سقطت أحجار السقف على رأسيهما.. خنقهما التراب، ومنعهما من التنفس.. نزفا حتى الموت. انهمرت دمعة من عينيه.. كم هي غالية دموع سكان الجبل.. إذا بكى شيخ الجبل، فاعلم أن الأمر جلل، وفوق طاقة الجبل نفسه..
هنا وُلد وترعرع. دم وعظام أجداده امتزجا بتراب الجبل.. الحجر والشجر والأرانب والقنافذ والحجل والماء والثلج والشمس والبرد والسماء، كل شيء هنا يعرفه.. لا يعتقد بأن الجبل قسا عليه إلى هذا الحد، وأخذ منه كبده.
جاءه الأجداد من زمن سحيق، يلوذون ويحتمون به.. لم يبخل عليهم. حذرهم منذ اليوم الأول بأن الحياة قاسية ببن شعابه، وقبلوا التحدي..
سمع البعض يقول بأن الجبال امتصت الصدمة، وتحملت قوتها، وخففت من آثارها.. لا يمكن أن يتحمل الجبل كل هذا الدمار الذي لحق بهم دون أن تسقط دمعة من عينيه..
الجبل أيضا يبكي اهله.. أحيانا يحن، وأحيانا يقسو.. الإنسان أيضا يفعل ذلك. هما وجهان لعملة واحدة..
قدم نحوه شبان من المدينة، يسألونه عن سكان القرية. نزل من بُرجه. قبلوا يده ورأسه، كما يفعل أبناؤه، وقدّموا له التعازي. تأمل وجوههم البشوشة، ابتسم بقلب مجروح، وهبط معهم المنحدر.
روى لهم ما جرى في تلك الليلة.. نفس القصة التي رواها لمن بقي من ناس القرية.. كان قادما من بيت ابن عمه الذي يبعد عن القرية بعشرات الأمتار. تناول وجبة العشاء، وبقي يتبادل الحديث مع أهله. كل شيء وقع في الطريق.. سمع عواء الذئاب، ونباح الكلاب.. ثم سمع دويا مثل الرعد يتردد صداه بين الجبال.. لم يعرف مصدره.. أحس كأن طبلتي أذنيه تنفجران.. مادت به الأرض حتى كاد يسقط.. الظلام دامس.. لا قمر في السماء ولا نجوم.. نور المصباح الصغير ضعيف.. عرف أنه الزلزال.. هرع مثل الأحمق يطوف على سور منزله.. لم يبق بيت لم يهوَ.. لم يبق جدار لم يسقط.. أحس بالعجز، وحده فوق الأنقاض، يحفر بيديه حتى دميت أصابعه، صوت داخله يبكي، ويصرخ، كأنه ليس صوته. لم يصدق ما حدث. من هول الصدمة أُغمي عليه حتى الصباح. اعتقد من أيقظه أنه ميت.. أخذوه إلى مكان آمن.. جسده يرتعد، عيناه جاحظتان.. لا يقوَ على الكلام.. كأن روحه اختُطفت إلى عالم لا عودة منه..
توقف عن السير.. توقف عن الحكي.. لم يتحمل تذكر هول الفاجعة. حبس دمعة في عينيه، جمدت مثل قطعة حجر.. هو أيضا حاول امتصاص الصدمة مثل الجبل.. لكنه بشر يبكي ضعفه أمام الله..
قدِم الأطفال وبعض الرجال نحوهم.. بقيت النساء جالسات تحت ظل شجرة الجوز .. يفترشن الأرض.. عيونهن تائهة.. لم يستيقظن بعد من الصدمة.. فقدن قطعا من أكبادهن.. الآن الخراب يتسيّد عليهن.. لا بيت لا فراش لا غطاء لا طعام لا أواني.. يشعرن كأن الزلزال سلخ جلودهن.. لم يصدقن ما وقع..
انزل الشبان الحمل على البغال. قدموا للناس التعازي، ودعوا لهم بالصبر والسلوان. قبلوا رأس الشيخ عبد الله.
شكر العجوز الشباب على ما قدموه لسكان القرية من دعم ومساندة. استيقظت في دمه نخوة سكان الجبل، وقال بصوت يغلب عليه الحزن:
نحمد الله ان الزلزال ضربنا نحن، فلو ضربكم انتم في المدن البعيدة، لأحسسنا بالخجل والذل، لأننا لن نجد ما نُقدّمه لكم كعون ومساعدة..

المعجم:
ـ الولف: الألفة.

مراكش 18 أيلول 2023

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى