سي حاميد اليوسفي - ملء الصهاريج*

الغالية لم يسبق لها أن ظهرت في شريط فيديو.. لأول مرة ستقف أمام الكاميرا، وتُدلي بتصريح.. لم تسمع سؤال الرجل الذي قدم لها الميكروفون.. اعتقدت أنه يعمل في التلفزيون.. وأن الشريط سيمر في نشرة الأخبار، ورسالتها ستصل إلى العالم أجمع..
بعد الزلزال الذي ضرب المدينة، تفقّدَ رجال السلطة مصحوبين ببعض التقنيين المنزلَ الذي تتقاسم السكن في غرفه العديد من الأسر الفقيرة. قالوا بأنه مهدد بالسقوط، ويجب على سكانه المبيت في الخيام حتى نهاية الشهر، وتقدم لهم الدولة مساعدة مادية (ثلاثون ألف درهم) لكراء منزل أو شقة لمدة سنة حتى يتم إصلاح البيوت المتضررة..
أغلب المتضررين من الفئات الشعبية لم يفهموا الأمر على هذا النحو.. البعض مثل الغالية اعتقد بأن المتضررين غير متساوين في الوضع الاجتماعي، وتبعا لذلك ليس من العدل المساواة بينهم في التعويضات. فالمتضرر أكثر هم الفئات المعوزة التي لا تجد ما تأكل.. وهذه يجب أن تحصل على مبلغ أكبر..
الغالية تعتقد بأن ما يُقدمه التلفزيون شيء، وما يجري في الواقع شيء آخر.. إذن عليها أن تعمل مثله، لكن بشكل معكوس. يجب أن تضخم الأمور، وتقدم صورة عن وضعها الاجتماعي لا يصدقها العقل.. كل تلفزيونات العالم تُخفي الحقيقة، هي أيضا ستُخفي الحقيقة.. لا بد أن تظهر شرسة.. الحياة هي التي جعلت منها امرأة شرسة.. لتأكل ويأكل أبناؤها وزوجها يجب أن تكون شرسة مثل لبؤة، تخطف الطعام من فم السباع..
تطاير الشرر من عينيها، وصرخت بأعلى صوتها في وجه الكاميرا:
ـ ماذا سأفعل بألفين وخمسمائة درهم؟! ابنتي مدمنة على المخدرات، وأصرف عليها مائة وخمسين درهما في اليوم... ابني يقضي عقوبة في السجن.. لا يجد ما يأكله، إذا لم أحمل له القفة كل أسبوع..
ثم توجهت إلى طفل صغير ونادته:
ـ تعال أنت إلى هنا! أنظر إلى هذا الطفل المصاب بالتوحد، كيف سأعالجه؟!..
تحدثت المرأة بشراسة وبسرعة لتمرر أكبر قدر من الرسائل.. الشريط الذي ذاع في وسائط التواصل بدا قصيرا، لكنه لم يُحقق ما كانت تصبو إليه.. انتقده العديد من المتتبعين.. لم يعجبهم جشع المرأة.. البعض شتمها، والبعض أطلق عليها أوصافا قبيحة.. أخبرتها ابنتها بذلك.. تألمت لرد فعلهم..
هذه الأيام أحست بأنها تعيش مثل ملكة، لا تعمل وتأكل. الأبناء والزوج أيضا يأكلون. لأول مرة تنام من غير أن توقظها الكوابيس.. لأول مرة في حياتها تشعر بأنها في إجازة، والدولة تتكفل بالمصاريف.. عندما تنام في الليل تنام بعمق.. وترى فيما يرى النائم شيخا يحمل قلما وورقة، ويطوف بين الخيام مثل ملاك.. يقول بأن نور الحروف والكلمات هو سلاحه.. ويؤكد بأن الناس اليوم تلتهم الصور كما تلتهم الطعام، وتصوم عن القراءة.. معدة الإنسان تهضم بسرعة الصور والطعام فيتحولان إلى بُراز يجري في المراحيض وأقبية الواد الحار.. لم تفهم شيئا مما قال.. اعتقدت إما أنه ملاك خرج من مسجد أو راهب قادم من إحدى الكنائس، وأن عليها أن تُطهّر روحها مما تعتقد بأنه ذنوب وآثام، ستأكل نفسها كما يأكل الدود لحم الأموات في المقابر.. أغمضت عينها ورأت نفسها وسط غابة بيضاء يكسوها الثلج، وهي عارية كما ولدتها أمها، تغطي شيئها وصدرها بغصن من شجر الأرز، وتشعر بدفء غريب.. ثم همست بصوت خافت:
ـ أنت متعلم، وربما تفهم أكثر مني، وتعرف كيف تخاطب الناس.. ما سأرويه لك أرجو أن توصله بأمانة.. وحاول أن تضيف إليه بعض التوابل من عندك ليستسيغوه.
نعم أنا ملأت الصهاريج.. ابني البكر في السجن بسبب تجارته في الممنوعات. وهو محكوم بأربع سنوات.. زرته مرة واحدة.. الزيارة تحتاج إلى مصاريف.. لا أستطيع تلبية مطالبه.. أخته تبيع السجائر بالتقسيط، وفي الليل تصرف ما تربحه في مقاهي (الشيشة).. لا تعود الى البيت إلا بعد صلاة الفجر.. وتتشاجر في الكثير من الأحيان مع والدها حتى يُشهرا في وجه بعضهما السكاكين، فأسقط مغمى علي.. الشهر الماضي نمت فيها ثلاثة أيام لا أقوى على الحركة.. الطفل الصغير مصاب بالتوحّد، لا يذهب إلى الروض مثل أبنائكم.. أكتريه لعائشة (الطلّابة)* مقابل خمسين درهما في اليوم.. الزوج مسخوط عاطل وسكير ودائما مسطول، يدخن القنب الهندي.. وحدي أتقلّى في جهنم من الصباح إلى المساء لأربح القليل من المال الذي أكتري به غرفة مع الجيران، وأطعم الأبناء، وأدفع ثمن فاتورة الماء والكهرباء.. نحن لا ننام مثلكم.. في أية لحظة يمكن أن يدخل المنزل شاب منحرف أو زوج مخمور، يصرخ حاملا لسكين.. موقظا الجميع.. نحن نحتاج إلى مركز شرطة، ومستشفى ميداني داخل البيت..
سأخبرك بشيء خاص جدا.. رغم الزعيق والقسوة التي تظهر على ملامحي، فأنا امرأة مثل باقي النساء.. عندما تلعب أنامل العربي بشعري، وتلمس رقبتي وخدي، أشعر بدبيب مثل النمل يجري في عروقي، وأنسى عذاب جهنم للحظات.. تمنيت لو دام ذلك الإحساس دهرا بكامله.. العربي مثل بقية الرجال عندما يشبع رغبته الحيوانية، يعطيني بظهره، وينام مثل الميت.. تزورني الكوابيس في الليل، وتمنع عني النوم.. لا أعرف ما ينتظرني في الغد.. أستيقظ في الصباح، أول شيء أطلبه من الله هو أن يمر اليوم بخير.. لكنه لا يمر كذلك.. علي أن أتعارك، وأكشر عن أنيابي، وأنبح وأعض لأعيش، وليعيش أبنائي.. نحن نعيش حياة أقل من حياة الكلاب..
عندما يزورنا التلفزيون يُطلب منا أن نلبس أجمل ما لدينا من ثياب، ونُزغرد ونصفق ونُغني "العام زين".. ونحن نفعل ذلك مقابل قفة صغيرة من الدقيق والسكر والزيت..
لهذا عندما وجدت الميكروفون في يدي فعلت مثلهم. بدأت أملأ الصهاريج، لكن من بئر جافة..

المعجم:
ـ ملأ الصهاريج: مجاز شعبي يعني الغلو والمبالغة وقلب الحقائق.. فالصهريج المملوء بالماء قد يُضمر أو يُخفي حقيقة أن الماء قليل، أو أن البئر جافة..
ـ الطلاّبة: المتسولة.

مراكش 22 أيلول 2023

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى