رجل

Agricolae Vinum Vetus Habeـ
ـ من الذى يدرس لك اللاتينى ..؟
ـ مستر هنتر ..
ـ واليونانى ..؟
ـ رايت ..
ـ إجبارى ..؟
ـ لا .. اختيارى ..
ـ قلت لك ألف مرة إن من الخير لك دراسة الحقوق ، ما الذى ستستفيده وتفيده من الآداب وكلية الآداب فى هذا البلد ..؟
واستاءت حكمت من زوجها أشد الاستياء ، وقد كان دائما يلوم أخاه على التحاقه بالآداب ويؤنبه فى كل حين ، وكانت تعرف أن حسنى شديد الحساسية يتأثر من أتفه الأشياء ، فرمت زوجها بنظرة حادة فصمت ، ورأت أن تغير مجرى الحديث بلباقة فقالت :
- أستاذ ..! أجئت بالتذكرة ..؟
تعنى تذكرة حفلة المعهد الموسيقى الخاصة بالسيدات ..
فرفع حسنى وجهه عن كتابه ، وكان قد أطرق بعد تعنيف أخيه وتقبضت سحنته ، وقال وهو يحاول بجهد أن يرسم بسمة ولو خفيفة على شفتيه :
ـ سأجئ بها الليلة ..
فقال أخوه :
ـ وهل تظن أنك تستطيع الجمع بين الجامعة والموسيقى ..؟
- ولم لا ..؟
- عندى أنك لا تستطيع .. فالدراسة هنا تختلف عن الدراسة الثانوية التى تعرفها .. فالأحسن أن تضع الموسيقى جانبا ، وتعنى بدروسك الجامعية ويكفى ما أضعته من سنين فيما لا يجدى ..
فتميزت حكمت حنقا ، ما الذى جرى لزوجها اليوم حتى يتحامل على أخيه هكذا ..؟ فهو وإن كان أخاه الأكبر ويقوم منه مقام الأب ، ولكن حسنى أشرف على العشرين ، وأصبح له رأيه الخاص فى شئون حياته ودراسته ، والدراسة ميول ورغبات قبل ان تكون فائدة واستفادة وخيرا يرجى ونفعا ماديا يتطلب ، ورمقت حسنى بعطف ، وقد وجم وتقبض وأخذ يفور داخل نفسه ويغلى ، ولما انصرف زوجها إلى مخدعه ليستريح بعد الغذاء ، بقيت معه تحادثه وتلاطفه ، فما تحب أن تدعه وحيدًا ساعة شجنه ..
وبدأت تسأله فى رقة :
- ما الذى ستعزفه غدا ..؟
ـ بشرف عثمان بك .. وسماعى نهاوند .. وقطع وصفية ..
ـ وحدك ..؟
وقد مدت عنقها نحوه باسمة وما كانت تتصوره إلا رجل الفن ..
ـ لا .. طبعا مع الفرقة ..
وأخذت تجاذبه أطراف الحديث حتى سرى عنه ، ولما حانت ساعة التمرين فى المعهد ، بارح المنزل ..
***
- دودييز .. مى صول .. مى صول ..
- .....
- دودييز ..
بعنف وغضب ..
فوضعت حكمت يدها على حافة البيان وكفت عن العزف ونظرت إلى حسنى باسمة وقالت بهدوء :
- أكان أستاذك يعلمك بمثل هذه القسوة ..؟
- وأشد من ذلك ..
وقد ابتسم رغم أنفه وأردف :
- أعيدى القطعة مرة أخرى ..
على أنها كررت نفس الغلطة ، فكبح جماح نفسه ، ونهض عن كرسيه ووقف بجانبها ، وطلب منها قراءة النوتة ..
فصمتت .. ثم قرأت فى صوت خافت متقطع .. وغلطت مرتين ..!
ـ والآن اعزفى ..
فابتدأت أناملها اللينة تتحرك على البيان ، ولكن بحركة عصبية بادية ، فلقد كان دائما يثير أعصابها وما تدرى لذلك سببا ، وكان قد قرب منها حتى وقف عند رأسها وكاد يلاصقها وعينه إلى النوتة ، فإذا أخطأت أرجعها ، فكانت ترجع وهى مغيظة حانقة !.. ومدت يدها إلى شعرها الذى سقط على جبينها فدفعته إلى الوراء ، فتحول عن النوتة على حركة يدها واستقر وجهه على رأسها ، وكانت ترتدى رداء ورديا لف جسمها وأبرز تقاطيعه وبان منه جيدها ونحرها ، فعلق بصره بعنقها ثم خفضه إلى ظهرها ، وكانت العروة واسعة فظهرت بشرتها الناصعة مشربة بحمرة الدم الجارى فى عروقها ، فأحس باضطراب دمه فجأة ، وبقى وجهه مستقرا على جسمها بشراهة ، وقد تبين تكوينه وتناسقه ومبلغ فتنته ، وما نظر قبل اليوم إلى هذا الجسم أبدا ، إنه كان يمضى معها الوقت محدثا ضاحكا ، على أنه ما كان يعير باله لجسمها مطلقا ، ولكنه الآن أحس بإحساس آخر ، وشعر بشعور جديد ، وأشرف على دنيا أخرى ، فوقف فى مكانه شاردا وقد بدات ضربات قلبه تشتد وأنفاسه تتلاحق وعيناه تدور ، وكانت قد أحست ، بغريزتها ، حاله ، فأخذت يداها تتحركان على البيان فى حركة آلية رتيبة ، وقد ارتعش جسمها كله .. على أن حركة يديها على البيان ورجليها على مزودات الصوت خففا من وطأة الأمر على نفسها ، بيد أنها أحست بعد أن صافحت وجهها أنفاسه ، وهو مائل بوجهه على النوتة ، أن ضربات قلبها ستمزق صدرها لو استمرت على ذلك دقيقة أخرى ، وكان قد جمد فى ذلك الوقت واستحال تمثالا ، فاختفت النوتة عن بصره ، وتراقصت الصور على الحائط وغام كل شيء أمام عينيه .. وأخذت يداها تفتر عن التوقيع تدريجيا .. وأن البيان أنه احتضار .. وكفت عن العزف ..
ـ دو دييز .. دو دييز ..
وضرب بجمع يده على البيان فجلجل ..
وأعادها الصوت الحاد لصوابها ..
وبارح الغرفة يهرول كالمخبول .. فدفنت وجهها فى البيان وأخذت تبكى بكاء مخنوقا ..
***
خرجت حكمت أثناء فترة الاستراحة تبحث عن حسنى لتهنئه من كل قلبها ، فلقد عزف مع الفرقة قطعتين رائعتين تصورت فى خلالهما أن كمانه وحده الذى يشدو ويغرد فوجدته واقفا فى الممر يتحدث مع بعض السيدات وعلى وجهه آيات البشر والمرح ، فوقفت ترقبه من بعيد وهو يتحدث فى هدوء واتزان على عادته ، حتى شعرت بضربات قلبها تشتد وساورها إحساس لم تسترح معه إلى وجوده مع هاته النسوة ، هل هو إحساس الغيرة ..؟ وعجبت لنفسها أتغار على حسنى ..؟ إنه كثيرًا ما حدثها عن سيدات وأطرى فيهن ومدح ، ونعت بعضهن بالجمال والفتنة والسحر ، فما أحست بالغيرة ولا شعرت بالاستياء ، بل على العكس من ذلك كان الحديث يشوقها وكانت تحب دائما أن تسمع رأيه فى المرأة !.. فما الذى اعتراها الآن ..؟ تدافعت ضربات قلبها واشتد وهو منصرف عنها إلى النسوة ، لقد جاء بها إلى الحفلة ليدعها وحيدة وسط هذا الجمع الثرثار ، ليس عندها أعصاب تحتمل كل هذه الثرثرة .. وكان لا يزال مقبلا على النسوة ومدبرا عنها ، فتحولت بوجهها قليلا فعل الذى استاء ، على أنها أخذت تسارقه الطرف ، وكان قد لمحها فاستأذن ولحق بها فسرها هذا جدا وصافحته بحرارة ..
- لم يبق ما أشترك فيه .. الأوفق أن نتروح ..
- كما تحب ..
فانطلقا إلى البيت ..
ونزلا من الترام عند الشارع الموصل للمنزل ، وكان فى طرف مصر الجديدة يلاصق الصحراء وينعزل عما يجاوره من أبنية ، والليلة مقمرة ، والجو ساج ، والسماء صافية ، والطبيعة ضاحكة ، فاستراحا لمنظر السماء وسكون الصحراء وهدوء الليل ، وأحست لأول مرة وهى تماشيه بإحساس لم يعترها مطلقا ، وهى التى ترافقه دائما إلى السينما وحفلات التمثيل وعند شراء حاجاتها ، لأنها تشعر معه بالحرية التى تشعر بها الأخت مع أخيها الأصغر – فقد كانا متقاربين فى السن – ولذا كانت تفضل مصاحبته على زوجها الذى يكتم أنفاسها فى الطريق ..!! فكلما رآها تتباطأ فى سيرها وهى تقطع الميادين أو تتمهل عند ركوب الترام ، رماها بنظرة قاسية تجفل لها وترتاع وينخلع قلبها وترجع للمنزل ساخطة ناقمة تقول فى سرها " يظن الناس جميعا عمالقة مثله يقطعون الشارع فى خطوة ..! " أما حسنى فرقيق لين كثير الصبر والأناة ، يصحبها إلى شيكوريل ، ويراها وهى تقلب نظرها فى القبعات وهى حيرى بين أيها أجمل ..
ـ حسنى .. دى كويسه ..؟
ـ جدا .. لون أزرق جميل يناسب بشرتك وشعرك ..
فترمقه بعين ناعسة وتضعها على رأسها ، وخدها يرف بلون الأرجوان .. ثم تلقيها على الخوان وتقف لحظة مفكرة .. وتعود إلى غيرها من القبعات ..
ـ ولكن هذا صنف أحسن يا حسنى ..؟
ـ عندك حق ..
ـ ولكن ثوبى السنجابى يناسب هذه ..؟
ـ خذيها إذا ..
فتتناولها وتقلبها بين يديها ثم تضعها .. ثم تبتاعها أخيرًا ..
وهو يرقبها باسما ..
وعندما يبلغان المنزل وقبل أن تغير ملابسها :
ـ حسنى .. القبعة رديئة النوع ..
مع بعض الخجل ..
فيعلم أنها كانت تفكر فى مصير القبعة المسكينة طول الطريق ..!
ـ صحيح ..؟ سأغيرها لك ..
ـ لا .. سأروح معك .. العصر ..
ـ طيب ..
وهو يكاد يرقص من الضحك ..
لقد كان يطاوعها دائما فى كل شيء ، ومن هنا كانت تحب أن تصحبه فى كل ما يعن لها من شئون ، وهى تشعر أبدا أنها ترافق أخاها ، ولكنها أحست الآن وهما عائدان للمنزل ، بإحساس لم تستطع أن تتبين كنهه بالدقة ، فجفلت من نظراته إليها وارتاعت ، وشعرت لأول مرة بسلطانه عليها وسطوته ونفوذه وغلبته ، وهما وحيدان فى غمرة الليل ..
وعلى حافة الصحراء الموحشة .. أخذت تحس بأنه أقوى منها ، وكان من قبل ندها وقرينها .. أحست برجولته لأول مرة فى حياتها وكادت تلمسها .. لقد بدأت تشعر لأول مرة ، بعد ثلاث سنوات ، أنها تماشى رجلا .. ورجلا غريبا عنها ، فارتاعت وأسرعت فى مشيتها حتى بلغا المنزل صامتين ..
شعرت حكمت بعد هذه الليلة أنها لا تستطيع أن تجلس منعزلة مع حسنى كما كانت تفعل ذلك من قبل بكل بساطة ، فإذا اضطرت للجلوس معه لتقرأ وتتحدث ودخل عليهما زوجها احمر وجهها خجلا واضطربت .. ما معنى هذا ..؟ كانت ترى أنها ترتكب شيئا لا يليق ، كانت تشعر أنها ترتكب جرما لا يغتفر ، فكانت إذا أحست بحركة مفتاح زوجها فى الباب ، قامت بدافع باطنى مبهم ومشت خلسة إلى المطبخ .. إنها لا تود أن يراها جالسة معه وقد بدأت تقرأ فى نظراته معانى التقريع والتأنيب والزجر – مع أن نظرات الرجل لم تتغير – أخذت تشعر بأنها بدأت تقوض عش الزوجية الهنى ، تقطع حبل الزوجية الممدود ..
كانت تستيقظ مبكرة وأول ما يلاقيها وجه حسنى وهو يروح ويجئ فى البهو وبيده كتاب ، فإذا بصر بها توقف عن القراءة وحياها باسما ، كان دائما يبش فى وجهها ويلاقيها ووجهه فائض بالبشر وعينه لامعة ، على أن هذا كله عطف الأخ على أخيه وحنان الأخ على أخيه ، بيد أنها أدركت الآن أن الابتسامة التى ترسم على شفته عندما يقع بصره عليها لها معنى آخر غير المعنى الأخوى والعطف الأخوى .. فبريق العينين عند اللقاء ورجفة الشفة عند الكلام ، وتهدج الصوت فى خلال الحديث ، واختلاج العضلات ساعة الدرس ، تعبر هذه كلها عن معنى آخر ، معنى تفهمه حكمت كل الفهم ولكنها تغالط .. تغالط مكرهة وتصرفه عن ذهنها ..
لقد وضح فى نظرها مركز الغلام وتحدد موقفه بالدقة ، فهو دخيل ، لا أكثر ولا أقل ، عليه أن يبعد عن العش الزوجى والمسكن الزوجى بسلام يجب عليه أن يتركها مع زوجها ، حياتها وسعادتها ومنى نفسها ، زوجها المحامى البارع الذى قضت معه خمسة أعوام من عمرها وهى أسعد زوجة ، عطف ورجولة وإشباع ، فما الذى توده بعد ذلك ..؟ لا شيء ..! هذا الفتى لا تستطيع أن تصمد أمام نظراته التى تنفذ إلى أعمق أعماقها ، وتستقر فى سويدائها ، وتهزها فى طياتها ، هذه النظرات التائهة الشاردة ، تبحث دائما عن شيء فى أعماق نفسها ، موجهة دائما إلى خباياها لتسبر أغوارها .. إنه يعرف ، ولا أحد غيره يعرف ، دخيلة نفسها ، دائما يقرأ خواطرها ، يعرف سرها ، يعرف ما يدور بخلدها وما يجيش بين ضلوعها وما يتحدث به قلبها ، بيد أنه يطوى نفسه بين جنبيه ويصمت ، ويقف على بابها يحرن .. لا .. لا .. لابد وأن تباعد الشقة وتغير السبيل ، ولابد وأن تجعله يحس أن الشقة طويلة شاقة والطريق عسير ..
لقد انقلب الغلام الغر فى نظرها رجلا بين يوم وليلة .. ووقف الرجل على باب المرأة يتردد ، ولكنها ليست المرأة التى يقف على بابها .. لا .. لا .. نظراته التائهة الشاردة تبحث عن شيء فى أعماقها ، صوته المتهدج يحتاج لمجاوبة صوتها ليصفو ، شفته المختلجة تبحث عن شفتها لتستقر ، جسمه الملتهب يتعطش .. لا .. اهتز عودها اللين لهذه الخواطر وأرجف .
لابد أن تباعد الشقة وتغير السبيل ، إنه دائما صامت يفكر ليفكر فيها ، وساهم ليحلم بها ، وقارئ مستغرق ليقرأ خواطرها ، وعازف على الكمان ليناديها ..
ولكنها لن تلبى النداء ..!
***
ولما رجع من المعهد فى الساعة السابعة ، جلس فى شرفة غرفته يطالع ، وكانت جالسة فى غرفتها تحيك بعض الملابس الصوفية فبصرت به لما دخل ورأته وهو جالس فى الشرفة ، ولكنها عزمت على أن تدعه وحيدا وأن تتحاشى منذ اليوم الجلوس معه وحدها ، فلا ترافقه إلا مع زوجها ، منى نفسها وقلبها .. ولكنها شعرت بعد دقائق بالضيق والضجر وأحست بالوحشة .. فتوقفت عن الحياكة ورمته بنظرة ، وكان مستغرقا فى كتابه ، وعادت لعملها فى صمت ، وقد أحست بازدياد ضربات قلبها وتدفق الدم فى عروقها ، فانقطعت عن الحياكة وصوبت إليه بصرها ، وكان على حاله لم يغير جلسته ولم يرفع وجهه عن كتابه .. إنه لم ينظر إليها مطلقا ، لم يجاوب على نظراتها بنظرة ، وبدأت تغضب ، بدأت تغتاظ .. على أنها واصلت عملها فى حنق .. وتوقفت ابرتها فى يدها أكثر من مرة ، وتزاحمت عليها خواطرها وأقبل بها ذهنها وأدبر ، لماذا يخاطبها منذ شهر بقسوة ويكلمها بعنف وهو الرقيق اللين ..؟ لم يتحاشى مقابلتها ويفتر عن حديثها وهو المحدث الوامق ..؟ لم يتأخر فى الليل ويغيب بالنهار ويلزم الصمت ، وهو المحب للبيت الكثير الكلام ..؟ لم تختلج عضلاته وتتلاحق أنفاسه وتلمع عيناه ..؟ أواه .. لم لم ..؟؟ ما الذى جرى له ..؟ ما الذى طرأ عليه ..؟ كانت عيناه ترتفع عن الكتاب لتأخذ الصحراء بنظرة خاطفة ثم تعود للمطالعة .. ألقت الصوف عن حجرها ووضعت رأسها على يدها وأخذت تفكر ، حتى أحست أن جو الغرفة سيخيفها ، وأن دقات قلبها ستقف إلى الأبد .. لا .. إن قوة خفية جارفة تدفعها نحوه فكيف تردها ..؟
فنهضت إليه ..
ـ دائما فرجينيا ولف ..
فرفع وجهه عن الكتاب وقد أيقظه صوتها الناعم ، وقال ووجهه ضاحك :
ـ ما الذى تودين أن أقرأه .. ادجار ولاس ..؟
ـ لا .. طبعا ..
وكانت تعرف شدة تهكمه بالأدب الأجوف الفارغ ..
وأضافت وهى تجلس قبالته :
ـ وإنما .. كفى فرجينيا ..؟
ـ لا أستطيع ..
ـ لماذا ..؟
ـ لأنى أحبها جدا ..
فوجف قلبها ورف لونها وأدارت الكلام على وجوه أخر ..
ومضيا ساعة فى حديث ممتع حتى قرب موعد العشاء فتعشيا فى الشرفة ، وكان عشاؤها معه ، لأن زوجها يتعشى عشاء خفيفا قبل نومه مباشرة ، وتعشت الجاريتان أيضا ونامتا فبقيا وحيدين ..
وكانت الليلة مقمرة والصحراء هاجعة والريح رخاء وإن كان الشتاء قد حل .. على أن السماء كانت تغشاها السحب الخفيفة التى أخذت تتكاثف وتشتد بالتدريج فقال وعينه إلى الأفق :
ـ ستأخذنا السماء ..
ـ لا أظن هذا ..
وإن كانت على يقين من ذلك ، ونهض عن كرسيه ومشى إلى جرس عند الباب فضغط عليه وعاد مكانه ..
ـ ما الذى تريده ..؟
ـ كوب ماء ..
ـ ولكن نجمه نامت ..
ـ سأقوم لأشرب ..
ونهض فوضعت يدها على عاتقه ..
ـ سأجيء لك بالماء ..
ـ هذا لا يمكن ..
فرشقته بنظرة طويلة فأذعن ..
وقامت فأحست بقطرات المطر على يدها فسرها هذا ، ولما جاءت بالماء شربه مرة واحدة وأعطاها الكوب وعينه ضاحكة شاكرة ، فوضعتها على نضد فى الغرفة ، ثم تقدمت إلى باب الشرفة الزجاجى فأغلقته عليه ، وكان متجها إلى الصحراء ، ولكنه انتبه على حركة الباب وهو يغلق ، فابتسم وبقى فى مكانه ، على أن المطر كان قد اشتد فنهض عن الكرسى ومشى إلى الباب ووقف عنده ، وهى قبالته ترقبه ضاحكة ، والمطر يبلل شعره وينحدر على خديه ، وكان أبيض طوالا صلب العود قوى الجسم عريض الجبهة براق العينين عادى الملامح مرسل الشعر فى غير نظام ، ووضع يده على الزجاج ورجاها أن تفتح فهزت رأسها رافضة .. وقد تهدلت خصل شعرها .. ولمعت عيناها .. وتورد وجهها .. وكان المطر قد انهمر فعاد يتوسل فكررت الرفض ، وقربت وجهها من الزجاج ليصل إليه الصوت من فرجات الخشب ، وقالت بصوت ممزوج بضحكاتها الفضية :
ـ إنك تحب جاربو .. وجاربو تحب المطر ..
فوضع وجهه قرب الزجاج وسأل :
ـ أحب من ..؟
ـ جاربو ..
ـ أحب من ..؟
فلم تجب ووضعت وجهها على الزجاج وحدقت فيه شاردة ، فانحنى وألصق خده بالزجاج لتصل إليه أنفاسها ، فوضعت خدها على خده ، وحرك خده فحركت خدها ، وتحول مقربا شفتيه ببطء فقربت شفتيها حتى كانت الشفة على الشفة ..
وبقيا هكذا مدة ، وقد استراحت لذلك وسكنت جوارحها وذهب عنها وعيها ، فأسبلت جفنيها وأخذت شفتيها ترجف على الزجاج تدريجيا حتى غابا عن بعضهما ..
وبقى على هذا الحال أكثر من دقائق ثلاث ولما رجع إلى نفسه ودفع الباب ألفاه مفتوحاً .. على أنه لم يعرف الذى فتحه ، وكانت حكمت قد ردت عليها بابها ..
***
نهضت حكمت عن فراشها قبل الفجر بقليل جافلة مذعورة ، فقد رأت حسنى فى نومها يطوقها بذراعيه ويضمها إلى صدره بقوة وهى تتمنع وتصيح ، وجلست مرتاعة فى الردهة ودموعها تتساقط على مهل حتى تنفس الصبح فأيقظت إحدى الجوارى واشتغلت معها بإعداد الإفطار ..
واستيقظ زوجها عند السابعة فدفعت إليه جريدة الصباح ، وهى تتكلف بسمة شاحبة ، وجلست أمامه حتى أعدت المائدة فنهضا إليها ، ولكن حسنى كان لم يصح بعد ، واليوم يوم جمعة وأخوه اعتاد الإفطار معه فى هذا اليوم من كل أسبوع ، وانتظرا حتى قربت الساعة الثامنة وهو لا يزال نائما ، فقال عاصم لزوجه :
ـ صحيه ..
فرمقت زوجها بنظرة لم يفهم معناها ومضت عنه وهى تقول فى نفسها " أى أحمق ..!" ومشت إلى غرفة حسنى وقلبها يضطرب بين ضلوعها ورجلاها تخذلانها ، وفتحت بابه برفق ودخلت ، وبدا لها أن تغلق الباب وراءها على أنها تصورت عينى زوجها تتبعانها فتركت المصراع كما هو ، وكان نائما على السرير ووجهه مصفر وشعره الطويل منفوش ، وأنفاسه عاليه وأجفانه مقرحة ، وغطاؤه منحسر عن صدره ، فتقدمت على مهل حتى وقفت عند رأسه ، وحاولت أن تهتف باسمه ولكن صوتها خانها ، فوقفت ساهمة ، على أنها ذكرت زوجها على المائدة فاستجمعت شجاعتها وقالت بصوت راعش :
ـ ح ... حسنى ..
وكان مستغرقا فى نومه ..
ـ حسنى ..
وبدأت ترجف ..
ففتح عينيه بثقل عظيم ، وتحرك إنسانهما ببطء .. ببطء حتى انقشعت الغشاوة عن بصره واستقرت عيناه على محياها فذابت ملامح وجهه وشاع فى كيانه السرور فتألق جبينه ولمعت عيناه ، لقد انتقل من حلم إلى حلم ..
ـ هيا لتفطر ..
وقد أشرق وجهها .. إنها لا تستطيع أن تواجهه إلا باسمة .. ومشيا إلى المائدة مترافقين وجلسا جنبا إلى جنب كالعادة على أنهما أحسا بنظرات الزوج تبحث فى دخيلة نفسيهما عن شيء ..! وذعرا ..
وخيم الصمت على المائدة ..
***
عاد حسنى ذات ليلة إلى المنزل متأخرا جدا بعد الساعة الأولى من الصباح ، وكان قد أمضى أسبوعا كاملا على أسوأ حال ، فلقد تضاربت فى صدره الانفعالات الباطنية وتشاجنت ، بعد أن أدرك أنه يسوق نفسه ويسوق الأسرة معه إلى هاوية سحيقة مالها من قرار ، وأنه سيفسد على أخيه هناءه وسعادته وعشه الزوجى الهادئ من حيث لا يحتسب .. فلقد كان لابد من وجود هذه العلاقة بينه وبين حكمت بعد عشرة دامت ثلاث سنوات ، وكان قد شعر فى الشهر الأخير بتطور عواطفه وتغير مشاعره ، وكان ذلك فى الوقت الذى أحس فيه أن رجولته قد تفتحت وأن قلبه الصغير بدأ يتحرك ، وأن عواطفه ومشاعره تغيرت تبعا لذلك ، فنظرته لها وللمرأة على العموم تبدلت عن ذى قبل ، وانقلبت تستقر على الجسم وتعجب بمحاسنه ومفاتنه وتقاطيعه ، وكان يكتم بطبيعته عواطفه ويطوى أشجانه ، على أن العواطف المكبوتة أرهفت أعصابه ووجهت طاقته العصبية فى الطريق المنتظر ، فكان معها فى الأيام الأخيرة شديد القسوة بادى القلق ظاهر الغضب ، يعنفها على أتفه غلطة ساعة الدرس ، ولم تكن تدرك شيئا من عواطفه المحبوسة أول الأمر ، على أنها أحست بها تدريجيا فى غضون تصرفاته الأخيرة معها ، وكان قد حاول بكل ما يملك من قوة أن يصرف هذا الحب الجارف عن قلبه ، على أن محاولاته كلها جاءت خائبة .. فكان يغادر المعهد فى رفقة زملائه ويسمر معهم فى الأندية حتى يقرب الليل من منتصفه ، فإذا عاد للمنزل اتقى مقابلتها فى الليل ..
على أن الرغبات المكبوتة طيلة الليل كانت تنفجر فى الصباح ، فكان أول ما يقع بصره عليها يهم بعناقها .. وشد ما ارتاعت ووجلت لحاله حتى ساءت صحتها جدا ، فأشفق عليها وبارح المنزل مع الصبح من غير طعام ، ولم تشر هى بشيء من هذا إلى زوجها ، على عادتها فى أمثال هذه الشئون ، وكانت فى هذا حكيمة .. وساءت أموره فى الجامعة ، فانصرف عن المحاضرات إلى حدائق الأورمان بعد أن تصور رفاقه يعرفون حاله ويتحدثون بحبه ، وكان عليه أن يبسط فى درس البلاغة قول بوفون " الأسلوب هو الكاتب " فاعتذر لأستاذه ، بيد أن سلوته الوحيدة كانت فى الموسيقى ، فأقبل عليها بوجهه وواظب على حفلات التمرين ، وواصل دروسه التى كان قطعها مع بعض تلاميذه ، وكانوا فى جهات متفرقة من المدينة ، حتى قضى اليوم كله متنقلا بين منازلهم النائية ، كل ذلك ليصرف ذهنه عن التفكير فيها ساعة الدرس على الأقل ..
وكان قد بدأ يحس منذ أسبوع ، وهو عائد للمنزل بإحساس عجيب غامض يفضل معه من فرط ما يعتريه من اضطراب وشجن لو يرتد على عقبيه ..
وثقلت وطأة الاضطراب على نفسه وهو متروح هذه الليلة حتى فكر أكثر من مرة فى المبيت خارج البيت .. ولما صعد الدرج كان الاضطراب قد بلغ منه منتهاه حتى وجف قلبه وعصب ريقه ، ففتح الباب بحذر – ومعه المفتاح – ولم ير أن يشعل النور فى البهو لأن القمر كان يريق ضوءه ، وتقدم إلى غرفته ماشيا على أطراف أصابعه ، فما كان يود أن يحدث حركة يقلق بها النائمين ، فلما مر على غرفتهما سمع صوت قبلات تدوى فى سكون الليل ، فتوقف عن سيره وسمر مكانه ، بعد أن تصورها بين ذراعى زوجها فألهبته الغيرة واشتعلت فى رأسه نارها ، فوقف محملقا فى الباب وقد دارت عيناه ، وفترت دقات قلبه ، واعتراه خاطر جنونى هم معه بأن يدخل عليهما الغرفة وينتزعها من حضنه .. فتتابعت أنفاسه وتلاحقت وتخاذلت رجلاه ، واختلجت عضلاته ، واضطرب جسمه كله وجاش ..
ومادت به الدنيا ..
ومال إلى الحائط فتساند عليها ، ومشى متخاذلا حتى بلغ غرفته فسقط على كرسى طويل فيها ..
واستفاق بعد مدة فألفى نفسه جالسا عند مكتبه ، فنفض الغرفة بعينه حتى استقرت عيناه على صورة تجاه المكتب وكانت لأخيه وزوجه فى لباس العرس ، فأمعن فيها البصر ، وذكر معها سعادة الزوجة وهناء الأسرة وعطف أخيه وحدبه عليه وسهره على راحته وحرصه على مستقبله ، فاستيقظ فيه شعور جديد أحس معه بمركزه فى البيت فى هذه الأيام الأخيرة فهو دخيل على الأسرة سيفسد عليها نعماءها ..
وقام ملهبا بخاطر جديد ، فتناول حقيبته ووضع فيها بعض ملابسه وكتبه ، ولما فرغ من ذلك ، وقف فى الشرفة ، وكانت طلائع الفجر تطارد جيوش الظلام ، والتهب الأفق بالحمرة ، فأخذ يستقبل مطلع الفجر وهو ملتاع ..
ثم استدار بعد أن تنفس الصبح ، وحمل حقيبته وشيع الصورة بنظره وقد تصور ابتسامة وادعة ارتسمت على شفة أخيه ، ومضى إلى الباب الخارجى فى حذر ، ولما احتواه الشارع استقبله هواء الصبح العليل ففتح رئتيه وتنفس وتمطى ، بعد أن أيقن أنه فعل خير ما يفعله .. رجل ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى