مصطفى الشليح - تقدمة الكتاب: إذا تكلَّمَ الكلامُ.

السُّؤالُ الثقافيُّ سؤالٌ سياسيٌّ، ولا سياسة إرادية بدون إرادة سياسية. للسؤال الثقافيِّ وجاهته التدبيرية للشأن العام، منذ ابتدأ التفكيرُ ثقافيا، ومنذ تمَّ استحداثُ التَّواصل الإنسانيِّ بالبيان، أكانَ إشاريا أم تعبيريا. الكلامُ الذي يتكلَّمُ، بين الكينونة والبينونة، خلوُّ الذَّات إلى الذَّات، ودنوُّ الذَّات من الآخر،
والكلامُ الذي يتكلَّمُ تخطيطٌ استراتيجيٌّ لانتساج علاقاتٍ لغويةٍ تؤسسُ مداخلَ تقديريةً لنشاط إنسانيٍّ تشاركيٍّ في بناء العالم، وفي إلباس مجتمعاته هُويةً خاصةً تتكرَّسً، فيها، تلك الخصوصية كلَّما ألمَّ بها الانفتاحُ التشاركيُّ وسما كونيا.

تكلَّمَ الكلامُ منذ اخترقَ الكلامُ صمتَ الأشياء، ومنذ افتتحتِ المراصدُ والمقاصدُ دورتها في الفعل الإنسانيِّ، ومنذ قانون عرض وطلب، ومنذ التوسل بالآلة التعبيرية منافذ إحداثية للمؤمل المرغوب فيه.

وكمْ تكلَّمَ الكلامُ، في الثقافة العربية، بمختلِف الألسنة التصييغية للسؤال الوجوديِّ الذي ليس إلا صورة خفية للسؤال السياسيِّ، سواء في شعره على مرِّ عهوده، أو في النثر على تعاقب عقوده، وسواءٌ في علومه البانية قواعدَ للتَّفكير، أو في علومه المكنيَّة مشاهدَ للتفسير؛ وكمْ تكلَّمَ مختلفا، وكمْ تلبَّثَ مؤتلفا في حدود تشييد الماهية والهُويَّة.

لا هُوية قاتلة إذا تكلَّمها الكلامُ. وفي التاريخ الثقافيِّ المغربيِّ لمْ تكن الهُوية قاتلة، بلْ كانتْ جمعا تأليفيا بين مكونات وعناصرَ ذاتِ نزوع اندماجيٍّ وانفراجيٍّ؛ اندماجيٍّ في الأصول، وبها شيءُ من الانفراج في الفروع؛ وبذا بقيَ المغربُ ذا تماسكٍ ثقافيٍّ قويٍّ، وإنْ محافظا، إبَّانَ حكم الأتراك المشرقَ وبعضا من المغرب العربيِّ.

ذاكَ التَّماسكُ الثقافيُّ، ومهما تعددتْ مداخلنا القرائية في تأويله، علامة فارقة في التاريخ العربيِّ حدَّ عجز الاستعمار عنْ تفكيكه، وحدَّ انبثاق مقاومةٍ ثقافيةٍ تسلَّمَ إمرتها وطنيون ما كانوا إلى تفرقةٍ بين العملين الثقافيِّ والسياسيِّ؛ بلْ إنَّ المقاصدَ تمثلتْ في التوعية التربوية، وفي الدَّرس العلميِّ، وفي العمل الإعلاميِّ، وفي الممانعة النضالية. وحسبُ المرء أنْ يقرأ شيئا يسيرا منْ تلك المقاصد ليتبينَ أنَّ المثقفَ المغربيَّ، في عهد الحماية، كان مؤمنا بأثر الثقافة في التنمية البشرية، وموقنا أنَّ الثقافيَّ رافعة للاقتصاد، وأنَّه سبيلٌ مطمئنَّة إلى التَّحول والتَّغيير، قبلما أحاديثُ مؤسسية عنْ ذلك.

وإذا كان الكلامُ تكلَّمَ، بنبرةٍ مغربيةٍ، فما عهدَ من المؤسسة انتباها إلى فعله الثقافيِّ، إلا في حيِّز لعلَّ الزوايا الكبرى تكونُ جزءا منه، وما أبهت الأحزابُ السياسية، في عهد الاستقلال، والمجتمعُ المدنيُّ، بكافة أطيافه، والمؤسسة الرسمية، بالثقافيِّ شرطا قاعديا في تحديث مجتمعيٍّ، كما توسَّمَ المثقفون في عصر الحماية، وإذا انتبهتْ تلكَ المؤسسة، فما وسعت المجالسَ العليا للثقافة تفعيلا، ولا المناظراتِ الوطنية أنتجتْ تأميلا وتحميلا لما صيغ من مقترحاتٍ أتينا على بعضها في هذا الكتاب.

هذا كتابٌ، وما كنا ذاكرين أنَّ يوما ما نحنُ له مؤلفون، وإنْ ألممنا بوزارة الثقافة وما العارضُ قد بقلَ بعدُ، وإنْ عملنا بها مساعدا في مجلة "الفنون"، وقد كان في رئاسة تحريرها خالنا أبوبكر المريني رحمه الله، وإنْ أخذتِ العلاقة بعدا علميا عبرَ كتاباتنا في مجلة "المناهل"، وإنْ بها أصدقاءُ وأحباءُ نعتزُّ بهمْ، وإنْ ما شئتَ فما كان لنا قولٌ إنَّه يأتي زمانٌ نضع فيه كتابا عن وزارة الثقافة، وعن السياسة الثقافية المنتهجة فيها، وعنْ إحكام سؤال هام: هل بلورتْ وزارة الثقافة سؤالها حولَ دورها الوظيفيِّ في تأطير الفعل الثقافيِّ بالمغرب، علما أنْ لا أحدَ يجهلُ أنَّ حجم تأطيراتها نسبيُّ بفعل أنَّ مؤسساتٍ ثانية تتدخلُ في التكوين والتلوين والتمكين، وأنْ لا أحدَ قدْ يجهلُ كونَ وزارة الثقافة تديرُ اليوميَّ "الاحتفاليَّ" بأشكاله الفولكلورية، وقد بينا أنَّ جردَ أنشطتها، على مدار ثلاث سنوات، كان إلى ذلك يسيرُ، ومنذ 1974 لمْ يختلفِ المسارُ.

ولأنَّ هذا كتابٌ ما ذهبنا، يوما، إلى الزَّعم أننا له كاتبون، فقد ألزمَ عودةً إلى المراسيم والقرارات الوزيرية لتبيَّن الإطار التشريعيِّ لمهام وزارة الثقافة، ولقراءة نسقيةٍ تنظرُ في إمكانية تعديلها حسب الحراك الثقافيِّ والمجتمعيِّ، وقد كان إلزاما مفيدا خلصنا منه إلى أنَّ التعللَ بفقر الميزانية ليسَ مبررَ غياب مشروع ثقافيٍّ، ما عدا إذا لمْ يكنْ لأيِّ وزير تصورٌ إجرائيٌّ للمسألة الثقافيةِ، وإنْ حدثَ قولٌ باستراتيجيةٍ ثقافيةٍ ما.

هكذا تكلَّم الكلامُ. كان كلاما عن "حجبِ جائزة المغرب" 2015، باختلالاتها العلمية والقانونية، فأبى إلا كلاما "في مقاربة السياسة الثقافية بالمغرب".


الرباط: غرة رمضان 1436 الموافق 18 يونيو 2015
أ. د/ مصطفى الشليح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى