أسماء محمد مصطفى - الصعود الى الجنة

يرّن صدى صوتها الرقيق في قلبي، وأنا أقف في حديقة البيت، أسحق قرص دواء في يدي.. ماما، حلمتُ بأنّ امرأة ملاكاً هبطت من السماء إلى سريري، وقالت لي إنها ستنقذني من مشكلتي. ثم نظرتُ إلى شباك الغرفة، ورأيتُ ضباباً في الخارج، انقشع، وظهرت أشجار خضر.

كان صباحاً جميلاً، بعيداً، داعبت فيه شمس الأمل حمائم روحينا التائقتين الى السلام. إذ فتحت صغيرتي جنّة عينيها في قلبي كذلك، لتخبرني برؤياها.

وأخذنا ننتظر، بصمت، موعد تحقيق معجزة الشفاء التي أنبأتنا به الرؤيا النورانية، لتتمكن صغيرتي من وداع الشلل وكرسيها، فينطلق غزال روحها، قبل قدميها، إلى بساتين الفرح والامتنان، وحق الحياة.

لم نتوقع أننا فسّرنا الأمل المبثوث في الرؤيا بغير معناه الظاهر لوعينا، وكإننا عشنا وهماً بلون أخضر اتشحت به أشجار الخديعة وراء شباك الأمل الكاذب.

غابت صغيرتي جنة بعد الرؤيا، وبقيتُ أرى الأشجار خضراً في ليالي حزني على مدى سنوات تشبثي بوهم العودة، حتى كدت أفقد صوابي، ما دعاني للجوء إلى الحبوب المهدئة، لعلها تبدد الوهم الجميل.

يستمر جرس صوتها يرّن في قلبي وذاكرتي، وأنا واقفة في الحديقة، حيث تلعب ابنتي دنيا. كم تشبه أختها في الشكل والصفات والإهتمامات، كإنهما توأم.. كملامح الوجه.. الصوت الرقيق.. النعومة.. حب الألوان نفسها.. تفضيل بعض الأطعمة على سواها.. أسلوب المرح وبث الفرح. الفارق الوحيد بينهما هو ولادة دنيا سالمة من الإعاقة، وسلامتها من التسمّر على كرسي المقعدين. بقيتُ أحتفظ بكرسي جنّة في غرفة المعيشة، كي تكون حاضرة معنا دائماً.

رزقتُ بدنيا بعد مرور سنين كالحة على فراق جنّة، تعمدت اختيار هذا الاسم لها، لعلها تبقى في دنياي، لا تغادرني كما فعلت أختها. أخذت تكبر أمام عيني، كالغزال، تقفز هنا وهناك في أرجاء البيت كإنه مرج أخضر، فتضج ضحكات براءتها في قلبي الحزين. كم تمنيت لو شاركتنا جنّة ضحكاتنا. كانت الغصة في قلبي.

لاحظتُ موهبة دنيا في الرسم. بدأتْ بشخابيط خضر، وبعد وقت رسمتْ على ورقة بيضاء شباكاً مضيئاً وأشجاراً خضراً.. ما أثار استغرابي. كانت كلما ترسم جزءاً من اللوحة ترفع عينيها إليّ، كأنها تريد أن تخبرني بشيء. في حياتها، كانت جنّة ترسم كذلك. أصابع دنيا الطويلة الرفيعة تشبه أصابع جنّة، مثلما أسلوب الرسم متشابه.

صباح اليوم ـ الذي يوافق ذكرى رحيل جنة ـ استيقظتُ على صوت دنيا، وهي تقول لي إنها رأت في المنام امرأة ملاكاً طلبتْ منها أن تضع ورقة الرسم على شباك الغرفة المطلة على الحديقة. فعلت دنيا ما طلبته منها المرأة الملاك، انبثقت من اللوحة أشرطة ضوئية، انفتح الشباك، وقفزنا منه، كطفلتين مشاغبتين، الى الحديقة، حيث بدت لنا كمرج أخضر، وأخذت صغيرتي دنيا تدور حول نفسها بقدمي السعادة وثوبها الوردي، وصوت جنّة يرّن في رأسي.

فجأة، تظهر امرأة الرؤيا الملائكية مبتسمة واقفة وراء صغيرتي دنيا، تؤشر إليها، وتومئ بوجهها إليّ، قبل أن تلتف نحو الأشجار مبتعدة حتى تختفي، وهي تدحرج كرسي المقعدين أمامها ليختفي هو الآخر معها.. متى دخلت البيت وأخذته؟.. يدق السؤال في رأسي، بينما يتصاعد نغم صوت جنّة من قيثارة ذاكرتي، يعيد عليّ قصّ رؤياها البعيدة زمنياً القريبة روحياً، فتتسمر عيناي على دنيا.. أفهم لحظتها سر التطابق الغريب بينها وبين أختها. أسحق قرص الدواء في باطن يدي.. تغمرني سعادة عجيبة، وأنا أهرع إليها، أحتضنها بشوق عارم، ونأخذ بالدوران معاً أمام الأشجار الخضر التي نشعر بها تتراقص على أصداء ضحكاتنا، أنا وابنتي الوحيدة جنّة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى