سيدة بن جازية - عند ربهم يرزقون..

لحظة التفجير لا أنساها، أصبت بسكتة دماغية، لم أع ما يحصل، تراءى لي سقف الغرفة يطبق على صدري الضيق و يدي تلوّح من بعيد ، إنني هنا أرفل بين أكوام ركن المطبخ الدافئ أما قطعة من ساقي اليمنى تناثرت مع الشظايا، الغريب أن لطخة كبيرة من كبدي تبعتها في حنوّ و اندفاع.
تعالى صراخ شعيرات مفرقي تتقافز في مرارة تأبى مغادرة شيبتي لكن أذني، نعم أذني اليمنى حلقت بعيدا خارج المبنى غير آبهة بالنداء... تقتفي أثر الصوت الصاخب.

تشويش أصمّ أذني اليسرى و ما تبقى من يمناي، أصوات تنبعث تحت الركام و صهيل جياد عربية أصيلة مكبلة تحاول فك القيود ، أتبعثر، أتألم، أجاهد نفسي للإغاثة، لا أحد بإمكانه مد يد العون فكل الأيدي مبتورة و الأرجل مكلوله.

لم يعد من مهرب غير الرحيل. هذا العالم لا يتسع للأتقياء.
إلى أين؟ كل السبل مسدودة، أحاول تلمّس طريق الشهادة، بيد أن صوتهم يؤرقني، يذبحني، يقطع الوتين، صياح ابني الرضيع طنّ أذني، بحثت عن أمه بين الوشوشات و الأنين فلم يلح لي بصيص الأمل، احترت لمصير ابني نضال في مفترق العبور . كرامة و أخوها شهم تركتهما في غرفة النوم لا أعلم متى يستيقظان ! حدس قوي ينبئني بأنهما لن ينجوا أبدا من هذا المصير.

أنفاسي أخذت تتقطع شيئا فشيئا، رائحة الشواء تزكم أنفي الملطخ بالعار و الغبار ، ذكّرتني برائحة شواء عيد الأضحى الماضي على وقع إعدام كبش الفداء العظيم و صوت" شكري" يستفزّ رحيلي ...

الغريب في الأمر و أنا أتصاعد إلى الأعلى لم أفقد بصري قط ارتسمت كل المشاهد واضحة أمام ناظريّ، حدّقت مليّا حتى أشكو أمرنا إليه. تنبّــهت في طريقي إلى هناك وجود كائنات غريبة بين الأرض والسماء كانت على هيـأة بشـر لكنها تحمل على ظهورها أجنحة تلوّنت بوشاح أحمر ينبعث منه السواد والبياض و لون الجنة اليانع بينما على الجانب المظلم تتراقص كائنات شيطانية تجمع الأشلاء بالأطباق الفضية وترصّفها مع أكواب اختمرت من عصائر دماء الــــــــرضّـــــع و مخاضات الحوامل و جثث الأطفال ، تتعالى ضحكاتهم الساخرة بالصمت و الهدوء الخانع...

جاءني صوتها الرقيق مهنّـئا نلتها أخيرا، نلتها و اطمأن فؤادك، ها قد اجتمعنا ثانية و تركنا لهم الباب مواربا...
انفجار ثان هز دويّه الأركان فانشــقت السماء وردة كالدهان، و نزفت الأرض ترتوي على الدوام...

سيدة بن جازية // تونس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى