محمد مزيد - الواسطي الذي نسي نفسه

كيف نجحت بعشق الجارية التي يهواها الخليفة العباسي؟ ، أسمح لي أن أعبر عن عظيم إعجابي بك ، يا يحيى الواسطي ، وقد نجحت في العيش داخل قصر الخليفة المستنصر بالله ، اكثر الخلفاء حبا للفجور والنساء والخمور ، وأكثرهم شغفا بالرسوم التي كنت ترسمها على الجدران والارضيات والشرائف، لا اعرف كيف نجحت ايها العبقري الجنوبي، أعرف أن لدى هؤلاء الخلفاء ما يسمى بالمزاج القاتل، إنهم يشبهون بعضهم البعض، يشبهون الطغاة في عصرنا الراهن، ففي لحظة ما يقررون أن يقتلوا بسهولة اي انسان بمجرد أن يعكر عليهم مزاجهم، وباعصاب باردة ، لابد انك كنت تمتلك تلك القدرة السحرية على جعل الخليفة يبتسم لك طوال النهار ، حتى انك نجحت من اثارة اعجاب ملوك الاندلس والمغرب في مراكش ليحبذوا اقتناء رسوماتك البديعة ، لا اعرف لم في اواخر حياتك قد اصابك الكبرياء، فالملوك لايحبون النرجسيين، المتكبرين ، العاشقين لانفسهم ، كيف تخليت عن عبقريتك وناموسيتك مقابل افراح النفس الزائلة ، وتصورت انك لا احد يمكنه أن يضاهي ما تفعله ، هؤلاء القتلة لايعرفون طريقا للرحمة، ستقول لي أن الامر جرى، بسبب تلك الجارية التي كان يعشقها الخليفة ، وقد ملت منه فهو منصرف عنها بوجود سبعين جارية اخرى، فهرعت اليك عاشقة لروحك وفنك ، كلا ، الملوك على شاكلة صاحبك ، لايشعرون بالغيرة لمجرد انفلات جارية من ايديهم الى رجل اخر ، انه حبك عير المتكافئ مع من أحببت، على ما اظن ، أعلم انك عاشق، و لاتفرق بين الرسم والعشق ، فكلاهما يذهبان بنفسك الى تلك الفضاءات السحرية الغامضة التي لاتعرف لها معنى ، ولكن العشق يا يحيى، يا صديق الجمال والحكايات والمقامات الحريرية ، قد جعلك تنسى مقامك الكبير بين المقامات الصغيرة ، لا تعلم ان الحساد يتربصون بك ليل نهار ، فنسيت نفسك ، اخذك الغرور الى اقصى طبقاته ، وجعلت الجارية تمشي خلفك ذليلة ، تريدك لبرهة من الزمن تنفرد بها، تسير خلفك انى مشيت ، حتى عثر عليك الملك الجبار الطاغي وانت تقبلها في رواق من اروقة قصره المطل على نهر دجلة ، يا لبؤسك .. يا لفقر ذكاءك! كيف خانك في تلك الساعات ، لتسمح بالنفس الامارة بالسوء، ان تسيطر عليك ، وتنسى مقامك الكبير وسط مقاماتهم الصغيرة الدنيئة .. أعرف انك لا تبالي ، تهوّن على نفسك كل الامور ، تدفعك روحك الطفولية لتجعلك كثير المزاح ، كثير الضحك ، لا احد يمكنه معرفة اعماقك ، كيف تترسب في طبقاتها الكثيفة ، تلك الاشارات الوامضة ، كلما انجزت رسما ، على شرشف او جلد غزال او على حائط يواجه غرفة الملك ، كانت هي تقف على مبعدة منك ، بالكاد تراها واقفة بثوبها الوردي وسط الخادمات والجواري الاخرىات اللواتي كن يتهامس حول مصير الرسمة التي ترسمها ، لا يعرفن معنى ما تخربش به اصابعك وانت ترتدي ذلك الروب الابيض الملطخ بالاصباغ ، وقد فتحت من اعلى الصدر ازراره ، هي الوحيدة التي تعرف لماذا تفتح ثوب الصدرية من الاعلى، صدرك عزير الشعر ، وانت منهمك بعملك الجديد ، كانت تعرف ان شعاع عينيك يتسلل من بين الموجودين الواقفين حولك من المعجبين بفنك الساحر ، يتسلل اليها خفية ، تراقبها ، وهي تقف الى الجدار ، تتكئ بكتفها الايمن اليه ، وتضع يدها اليسرى بجانب خصرها ، في هذا اليوم كنت مرتبكا ، لا تعلم لماذا ، غيرت كركتر الموديل عشرات المرات ، لا مشكلة عندك في رسم الحصان ، ترسمه وانت مغمض العينين ، روحك هي التي تسرب الى اصابعك الخطوط الساحرة ، كانت مشكلتك ، في وجه المرأة التي تركب الحصان ، لاحظت الجارية المحبوبة ارتباكك، انت تبحث عن وجه ملائم ، تعشقه العين ، كانت تعلم انك بحاجة الى مساعدة ، فتخلت عن وقفتها ، واقتربت منك ، دلفت ببطء شديد ، حتى وقفت خلف الجواري الاخريات ، وبمجرد ان رفعت عينيك اليها ، ورأيت ابتسامتها العذبة ، حتى تفجر الالهام باصابعك ، انهمكت ثانية في وضع خطوط وجه الفتاة التي تعتلي الحصان ، يجب ان يكون وجهها يشبه محبوبتك ، التي تقف على بعد متر منك ، كنت لاتعلم انها الجارية الاحب الى قلب الملك ، لكن احدى الواشيات ممن تلتقط اشعة النظرات العاشقة بين الرسام وبين الحبيبة الجارية، محبوبة الملك، استطاعت ان تفهم بسهولة ما يجري ، وفي قلبها ، اضطرمت مشاعل الغيرة، فانسحبت ، مثل سارق عثر على جوهرة ثمينة، وسارت في ممر يؤدي الى غرفة الملك، فلما رأته منتشيا ، جلست على ركبتيه ، وهمست باذنه امرا ، فزّ الملك، وغضب فأوقعها ارضا ، ونهض ليرى ما يجري في ستديو الرسام، انصرف الجميع خائفين من إطلالته، وهو يدلف مخمورا مثل الطاووس، وحدها الجارية الحبيبة بقيت ، وعلمت أن اللصة الواشية ، التي تسللت من بينهن قد اخبرت الملك بشيء ما ، فهرعت اليه من دونهن ، بانثوتها الفتاكة، شبكت ذراعيها حوله ، ولثمته بقبلة ساخنة ، غير انه دفعها ، ليرى الرسمة ، فخفق قلبها ، ذلك لان وجه الفتاة التي تعتلي الحصان يشبه وجهها تماما ، غير ان الواسطي ، بخبرة وحنكة واضحة لديه ، اسرع بمحو وجه الفتاة قبل ان يصل الملك المخمور اليها ، نظر الملك الى الرسمة ، وابتسم ، وفي داخله قرر شيئا ما ضد الجارية الواشية ، كانت قد ربطت عارية الى شجرة ، ووضعت تفاحة على راسها ، يرميها بالسهام ، كانت قلوب كل المتفرجين راجفة ، فالسهام تطيش عن رأس المرأة العارية، وكلما جاءها سهم ، نحت رأسها عنه، رامي السهام هو الملك المخمور ، وبانثوتها الفتاكة ، همست الجارية المحبوبة باذنه ان يعفو عنها ، طالبة منه ان يكتفي الى هذا الحد من اذلالها ، فرمى القوس والسهم واحتضن الحبيبة ، وسار بها الى احدى الغرف ، كان الوحيد الذي بقي مشغولا برسومه هو الرسام يحيى الذي رسم وجه الملك بدلا من الفتاة وهو يعتلي الحصان، في الليلة التالية ، لم ينم الرسام ، كان يتقلب على جمر الانتظار ، قدوم حبيبته ، بعد أن سافر الملك صباحا الى المراعي، مع بعض الخصيان والجواري ، ولم يأخذ معه الحبيبة ، فجاءت تدلف الى غرفته على استحياء ، وجلست على فراشه ، واحتضنها ، وقبلها .. غير أن الملك الماكر ، اوحى للجميع انه في المراعي ، لكنه تسلل ، ورآى ما لم يود رؤيته ، اذ وجد الجارية الحبيبة بين احضان الرسام .. وفي الصباح قال الملك للرسام ، امام جمهرة الحرس والحاشية ، انت أختر موتك يا واسطي .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى